كان إنهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية بدايات القرن الخامس الميلادي سببا في دخول القارة الأوروبية الحقبة التاريخية التي عرفت بإسم العصور الوسطى حيث سقطت الحضارة وتراجع الإهتمام بالعمارة والفنون والعلوم وانتشرت الخرافات وازداد نفوذ الكنيسة وانعدم الأمن حيث إنتشرت عصابات من قطاع الطرق والمجرمين تقوم على الإغارة والسلب. وقد خلَّف النظام الإقطاعي الإمبراطورية الرومانية الغربية وورث ما تبقى لها من سلطة ونفوذ حيث بدأت نواة الدولة القومية الحديثة التبلور حول أمراء حرب من ذوي النفوذ ممن كانوا يفرضون سطوتهم العسكرية على رقعة جغرافية معينة يقومون على حمايتها مقابل قسم من إنتاج المحاصيل الزراعية وضرائب كانوا يفرضونها على القوافل التجارية التي كانت تمر في مناطق نفوذهم. إن سقوط الجزء الغربي للإمبراطورية الرومانية كان هو النواة, بداية ظهور مبادئ الرأسمالية الأولى. وقد يجادل البعض أن مفهوم الرأسمالية, البيع مقابل الربح, يعتبر موجودا منذ أن وجدت الخليقة على الأرض وبالتالي فإن للرأسمالية جذورا تاريخية موغلة في القدم. ولكن تلك كانت إحدى وجهات النظر التي لقيت معارضة واسعة لأن هناك الكثير من الدول التي ازدهرت فيها الحركة التجارية مثل هولندا وفرنسا بدون أن توصف بأنها دول رأسمالية أو ظهر فيها المذهب الإقتصادي الرأسمالي.
إن الخصائص الرئيسية للرأسمالية هي أربعة: الملكية الخاصة, تراكم رأس المال, العمل المأجور والأسواق التنافسية. المرحلة الاستعمارية والتي أعقبت حركة الكشوفات الجغرافية قد أدت الى توسع الدول الأوروبية جغرافيا وتجاريا حيث تزايدت الثروات وتراكمت فيما عرف بأنه عملية التراكم الأولي(Primitive Accumulation). ولقد اعتبر المفكر الإنجليزي الأشهر كارل ماركس عملية التراكم الأولي(Primitive Accumulation) حيوية ومهمة في الانتقال نحو النظام الرأسمالي. إن الفائض(Surplus) من عملية توظيف رؤوس الأموال(Capital) التي تمت مراكمتها بفضل العمليات التجارية والحركة الاستعمارية يتم إعادة توظيفها في عمليات إنتاج بضائع تلبي حاجة السوق وليس حصريا بهدف تحقيق أرباح من عمليات تجارية عابرة. وهناك نقطة مهمة أود التذكير بها وهي أن تحقيق الربح هو هدف أي عملية مبادلة تجارية ولكن إخضاع تلك العملية لمبادئ السوق التنافسي هي الفكرة التي ولد من رحمها مفهوم الرأسمالية. إن عملية تراكم النقود(Money) بسبب القيام بعمليات تجارية تحقق الربح لا يعني تحول النقود تلقائيا الى رأس المال(Capital) بل يتوجب إعادة توظيف فائض الأرباح(Surplus) من أجل تحقيق تلك الغاية حيث يتحول الفائض الى رأسمال جديد وهلم جرا.
إن الملكية الخاصة هي أحد أهم خصائص الرأسمالية حيث تحفيز الابتكار والإنتاج الفردي مع الحد الأدنى لتدخل الدولة في العملية الإنتاجية حيث يكون دورها الرقابة والإشراف خصوصا تطبيق القوانين التي تكفل حماية تلك الملكية. ولكن في سبيل الوصول الى مستوى من الملكية الخاصة الكفيل بإطلاق مفاهيم الرأسمالية من عنانها, كان لا بد من تحطيم النظام الإقطاعي القائم في أوروبا. وهنا تدخلت عوامل الطبيعة حيث انتشر مرض الطاعون في أوروبا خلال منتصف القرن الرابع عشر وقضى على ثلث سكان القارة مما أدى الى نقص حاد في عدد العمال والحرفيين والمهنيين وبدأت سيطرة الإقطاعيين على تابعيهم تقل شيئا فشيئا بسبب تمكنهم من فرض شروط ملائمة لهم لنقص الأيدي العاملة في أوروبا. وفي تلك الفترة, بدأ ظهور طبقة من المزارعين أصحاب الملكيات الكبيرة الذين تمكنوا بفعل تحسن وسائل الإنتاج والتكنولوجيا من زيادة إنتاجهم الزراعي وحيازة المزيد من الأراضي وبالتالي زيادة ثرواتهم. وقد كان هناك عدد كبير من المزارعين ممن لم يتمكنوا من استغلال التقدم في وسائل الزراعة وأساليبها لعدة عوامل منها صغر مساحات حيازتهم من الأراضي وعدم امتلاكهم رأس المال الكافي لتوظيفه في عمليات تحسينها بما أدى بهم إلى بيع أراضيهم وتحولوا الى عمال مقابل أجر. كما أن طبقة المزارعين الأثرياء قد استفادت من تزايد عدد السكان ومن ظهور عدد من المدن في أوروبا كمراكز تجارية مهمة مثل مدينة لندن فعملت بالتجارة مما أدى الى ظهور الطبقة البرجوازية الثرية.
وعند وصولنا لهذه المرحلة من النقاش حول الجذور التاريخية للرأسمالية, لا بد في ختام الموضوع من أن أذكر ولو بإختصار بعضا من أفكار المفكر والفيلسوف الإنجليزي جون لوك مؤلف كتاب "رسالة للحكومة" بجزئيه الأول والثاني(First & Second treatises of government). إن الظروف التاريخية والإقتصادية قد هيأت المملكة المتحدة لتكوين البذرة الأولى للرأسمالية وخروج ذلك المفهوم من شرنقته الى التطبيق العملي على أرض الواقع. وفي موضوع منفصل سوف أقوم بتفصيل أسباب ذلك والظروف التاريخية التي هيأت الأرضية الخصبة لأول تجربة رأسمالية حقيقية متكاملة تعتمد مبدأ التنافسية وإقتصاد السوق ولكن لعدم إطالة الموضوع, سوف أكتفي حاليا بمناقشة بعض أفكار الفيلسوف الإنجليزي والتي أوردها في كتابه المذكور والتي بدأت بالظهور خلال القرن السابع عشر.
إن الثورة الإنجليزية 1688 تعتبر نقطة تحول هامة أثرت مباشرة على شبكة العلاقات الإجتماعية في إنجلترا التي أدت في مجملها مع مجموعة من العوامل الأخرى الى ظهور الرأسمالية في ذلك البلد الأوروبي تحديدا. أحد أهم تلك العوامل هو تطور العلاقات الزراعية التي أدت الى ظهور كبار الملاك الزراعيين الذين شكلوا الطبقة البرجوازية وتمكنوا من السيطرة على البرلمان وإقرار القوانين والتشريعات التي هدفت إلى إزالة الملكيات المشاعة وتعزيز مفهوم الملكية الخاصة وذلك لمصلحة تلك الطبقة البرجوازية حيث ادى ذلك الى تراكم المزيد من الثروات لديها. إن ذلك قد أدى الى اصطدامها مع التاج الملكي بسبب تضارب المصالح حيث إنتصرت الطبقة البرجوازية وتم الإطاحة بالملك جيمس الثاني وتنصيب إبنته ماري وزوجها وليام أورانج ملكين على إنجلترا. إن أفكار الفيلسوف جون لوك المتعلقة بأن الأرض المشاعة التي لا يتم تحقيق الإستفادة القصوى منها عبر استصلاحها هي عبارة عن أرض خربة(Waste) وهدر للموارد. إن الحركة الإمبريالية الإستعمارية كانت إحدى ثمار أفكار جون لوك ومخرجاتها خصوصا أنها تنطبق على أراضي المستعمرات الجديدة خصوصا فيما يعرف اليوم الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية التي كان جون لوك يؤمن بوجوب إنتزاع أراضيها من السكان الأصليين وتخصيصها لمن هو قادر على تحقيق الإستفادة القصوى منها والذين لن يكونوا بالتأكيد الا من الطبقة البرجوازية الثرية التي تمتلك رؤوس الأموال والأدوات القادرة على القيام بتلك المهمة.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة
https://science-culture-knowledge.blogspot.com/2019/03/blog-post_10.html
الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة
النهاية
التعليقات (0)