كان أول ما تواجهه الجاهلية في هذه الحرب هو مفاهيم الشريعة وتصوراتها، باعتبار أنّ الأفعال لازم من لوازم المفاهيم والتصورات تأتي مع الحرب على الشريعة محاولةُ تثبيت النظم الجاهلية البديلة للشريعة، وإضفاء القدسية على الدساتير الوضعية لتحقيق القناعة بها في ضمير النّاس السلطة الشرعية حرز للأمة من الشيطان، ودليل ذلك "إمارة عمر بن الخطاب"؛ ذلك أنّ عمر كان أميرا للمؤمنين وكان الشيطان يفر منه، وفي الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ))[1].
فكانت إمارة عمر حرزا للأمة من الشيطان، وكان عمر بابًا مغلقًا أمام الشيطان في محاولة الدخول إلى الأمة، وكان كسر هذا الباب هو قتل عمر بن الخطاب كما في حديث الفتنة الشهير..
عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْفِتْنَةِ ؟
قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ.
قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ، فَكَيْفَ قَالَ ؟
قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ...
قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ.
قُلْتُ: لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ، بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ.
قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟
قُلْتُ: لاَ، بَلْ يُكْسَرُ.
قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا.
قُلْتُ: أَجَلْ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ.
فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ.
قَالَ: فَسَأَلَهُ.
فَقَالَ: عُمَرُ - رضي الله عنه -.
قُلْنَا: فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي؟
قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيط (2).
عداوة الشيطان للسلطة الإسلامية
ولأجل أنّ خطورة السلطة الإسلامية على الشيطان وأنّها قد بلغت أن تكون حرزا للأمة منه.. فإنّنا نجد أنّه لا يطيق قيامها، وإذا قامت فإنّه إسقاطها مهمة أساسية عنده.
ودليل ذلك موقف الشياطين من مُلك سليمان - عليه السلام - ؛ حيث جاء تفسير قول الله - تعالى -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) [سورة ص: 34].
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: "يعني شيطانا" [3].. مؤكدين هذا القول بقصة مضمونها: أنّه كانت هناك محاولة انقلاب شيطانية ضد حكم سليمان، فقدر الله فشلها ونجاته منها بعد بلائه بها.
ولعل هذه الحقيقة تكون تنبيها للذين يتلهفون على قيام السلطة الإسلامية دون الاستعداد للمحافظة عليها بعد قيامها، إذ إنّ العقبات الضخمة التي يصنعها الشيطان في سبيل قيام هذه السلطة ستكون قليلة بجانب الأساليب والوسائل التي سيمارسها الشيطان لمحاولة إسقاطها إذا قامت.
ولمّا فشلت المحاولة الشيطانية ضد سليمان في حياته لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قدمت الشياطين تفسيرا باطلا لسلطة سليمان بعد موته.
ممّا يعني أنّ الشيطان لا يقاوم فقط واقع السلطة الإسلامية إذا كانت قائمة، بل يقاوم مجرد أن تكون هذه السلطة -إذا غابت عن الواقع- مجرد تجربة تاريخية ناجحة.
ففي قوله - تعالى -: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [سورة البقرة: من الآية 102] بعد أن أورد قول ابن عباس والربيع بن أنس ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وابن جرير وغيرهم والحاكم في المستدرك قال: "فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ولا يخفى ملخص السياق القصة والجمع بين أطرافها وإنّه لا تعارض بين السياق على اللبيب الفهم".
أمّا الملخص: ففيه أنّ السحر انتشر في عهد سليمان وكتبوا فيه كتبًا، فجمعها سليمان حتى يمنعهم منها، ودفنها تحت كرسيه وهو المكان الذي لا تستطيع الشياطين الاقتراب منه، فلما مات سليمان دلت الشياطينُ النّاسَ على هذه الكتب، فاستخرجوها من تحت الكرسي وأشاعوا أنّ سليمان كان يحكم الجن والإنس بها، واتهموا سليمان بالسحر.
فلما بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر نبي الله سليمان قالت اليهود: إنّ سليمان كان ساحرا، فنزل قول الله ردا عليهم: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة: 102] (4).
ممّا يدل على الحساسية الجاهلية الشديدة تجاه الشريعة الإسلامية، ومن هنا كانت الحرب على الشريعة.
المضمون العقدي هو أول الأهداف :-
كان أول ما تواجهه الجاهلية في هذه الحرب هو مفاهيم الشريعة وتصوراتها باعتبار أنّ الأفعال لازم من لوازم المفاهيم والتصورات "المضمون العقدي"، ومن هنا كانت محاولة فصل الشريعة عن هذا المضمون من خلال معركة المصطلحات الرامية إلى تفريغ التصور الإسلامي من مضمونه العقدي الصحيح، فيتحول مصطلح "الحاكمية" وهو المصطلح الشرعي الصحيح إلى مصطلح "تقنين الشريعة" الذي تحول بدوره إلى "تنقية القوانين".
كما كانت السياسة أوسع الثغرات في الحرب على الشريعة، يقول ابن القيم: "وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوا مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنّه مطابق للواقع ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنّها لم تنافِ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم.
والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر.
فلما رأى أولياء الأمور ذلك وأنّ النّاس لا يستقيم لهم أمرهم إلاّ بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلًا وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك... "[5].
ويؤكد على تلك الحقيقة فيقول: "... فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأنّ النّاس لا يستقيم أمرهم إلاّ بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه... " [6].
وكل ما سبق من أخطار للسياسة على الشريعة إنّما كان من ناس يقرون الشرع ويعملون به، وهم الذين يعنيهم ابن القيم فما بالنا بمن بدل الشريعة بالقوانين الكافرة.
وقد مر آنفا في موقف الشياطين من ملك سليمان زعمهم أنّه كان قائمًا بالسحر.
ومن خلال استقراء حرب الجاهلية على الشريعة يمكننا أن نقول أنّ الحرب على الشريعة تأخذ بعدين:
أحدهما: تاريخي يتجهون فيه إلى تاريخ المسلمين وخاصة الأيّام التي طبقت فيها الشريعة.
والثاني: واقعي ويعنون فيه بما يحدث اليوم على أرض الواقع.
فتجدهم يعمدون إلى تشويه التجارب التاريخية للفترات التي تم فيها الحكم بما أنزل الله، يصورونها بأنّها فترات فتن واقتتال واستبداد، ابتداءً من فتنة علي ومعاوية ومرورا بالخلافة العثمانية وإلى قيام الساعة، حتى أنّ كتابًا دراسيًّا واحدا يدرَّس فيه للتلاميذ "مساوئ الحكم العثماني"!!! و"النتائج الإيجابية للحملة الفرنسية"!..
ومن ناحية الواقع القائم فإنّ الحرب على الشريعة تأخذ عدّة صور منها تقديم تجارب فاشلة لها مثلما كان الأمر في بعض البلاد المنتسبة للإسلام، ومن ذلك أنّه في ظرف عارض من ظروف الدعوة الإسلامية -في إحدى البلاد- اضطرت السلطة إلى إعلان أنّ هناك لجان قانونية مختصة لتطبيق الشريعة.. وبعد فترة زمنية طويلة وفي إطار نفس الظروف العارضة اضطرت هذه السلطة إلى إعلان إتمام تقنين بعض القوانين لتكون المفاجأة أنّ القانون الذي تم إنجازه هو "القانون البحري التجاري"!!!
فرغم أنّ السلطة كانت تعرف أنّه لن يكون من ذلك شيء إلاّ أنّها آثرت أن تكون المهزلة فوق سطح الماء وفي أعالي البحار.. بعيدا عن حياتهم وواقعهم المباشر.
وفي بلد آخر أعلن أحد الحكام - لظروف وملابسات سياسية خاصة - تطبيقَ الشريعة الإسلامية ورغم أنّ الموقف كان مناورة سياسية عارضة وليست موقفًا حقيقيًّا.. ورغم أنّ ولاء هذه السلطة للغرب لم يتغير فإنّ الغرب لم يتحمل تلك المناورة.. فذهب الرئيس الأمريكي [7] إليها ولم يرجع إلاّ بعد قرار الحكومة بإلغاء قرار تطبيق الشريعة.
وفي ظرف آخر أعلنت السلطة -في بلد آخر- عزمها على تطبيق الشريعة!! فإذا بالرئيس الأمريكي [8] يقوم بزيارة سريعة إلى البلاد ليثني أصحاب السلطة عن قرارها؛ فتراجعت السلطة فور الزيارة الخاطفة وأقيمت الاحتفالات للرئيس الأمريكي والتف أصحاب التطبيق المزعوم بزيهم الأفريقي المشهور ورقصوا رقصة آكلي لحوم البشر وهم يجرون في حلقة أمام الرئيس الأمريكي ليرى العالم ويعرف على الطبيعة أصحاب الشريعة!!
فكل هذه تجارب فاشلة في واقعنا المعاصر.
ومن صور الحرب على الشريعة في واقعنا المعاصر أن يتم الإعلان عن تطبيق الشريعة أو الاستعداد لتطبيق الشريعة فقط من أجل كسب القوة السياسية الإسلامية المتنامية.
ومنها معالجة الضغط الواقع على الشعب الناتج عن التردي الاقتصادي الشديد.
ولذلك تأتي مع الحرب على الشريعة محاولةُ تثبيت النظم الجاهلية البديلة للشريعة، وإضفاء القدسية علي الدساتير الوضعية لتحقيق القناعة بها في ضمير النّاس.. وذلك بإعلان أنّ هناك نظاما للحياة وقوانين حاكمة لا يمكن لأحد الخروج عليها.
ولعل تصوير الفراعنة وهم يتلقون القوانين من الشمس (9) مثال على صنع هذه القدسية، وهو الأمر الذي أثبته القرآن بشأن الكافرين (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [سورة هود: 87]. والدليل في قولهم (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ)، وكأنّ هناك نظاماً لحياتهم له قدسية في نفوسهم حتى أنّهم لا يستطيعون الخروج عليه.
________________
[1] متفق عليه، البخاري (6085)، مسلم (6355).
[2] متفق عليه البخاري (9/2) ومسلم رقم 144 عن حذيفة - رضي الله عنه -.
[3] تفسير ابن كثير (7/66).
[4] تفسير ابن كثير (1/136).
[5] الطرق الحكمية، ابن قيم الجوزية (4/373).
[6] إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية (1/18).
[7] كلينتون.
[8] بوش.
[9] اللوحة الفرعونية لحمورابي وهو يتلقي القوانين من "المعبود" الشمس.
التعليقات (0)