وإشكالية الحدود الاستعمارية لا تعني الحدود السياسية، أو تلك المعالم الجغرافية التي تفصل بين الدول، وإنما تعني كل ما نتج عن تلك الحدود من كيانات سياسية وتكوينات اجتماعية وسياسيات اجتماعية . فالاستعمار لم يكن مساحا طبوغرافيا تنتهي مهمته بتحديد معالم وحدود المنزل وإنما كان هو في ذات الوقت مهندس البناء والمسؤول عن كل محتوياته.
لم يظهر مفهوم الحدود في الإدراك الأوربي إلا بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 م، وما أدت إليه من ظهور نظام الحدود الطبيعية المعينة . ولم تكن تلك الحدود تعني ، كما بين Griggs سوى خطوط غير متحركة على الأرض تقوم مقام الحدود السياسية
أو القبائل التي تختلف في أعراقها وثقافتها ولغاتها وتكوينها الحضاري . ومن ثم كان طبيعياً أن تشكل مثل تلك الدول ما يمكن تسمية بالمجتمعات المنقسمة : (Osaghae 199:55)
2/ ظهرت الدولة الأفريقية – عدا ليبيريا وأثيوبيا – بحدودها الحالية إلى الوجود خلال الفترة من 1880 –1890م حينما تمكن الأوربيون من السيطرة على كل المنطقة ال الممتدة من المحيط الاطنطي غرباً إلى المحيط الهندي شرقاً، ومن البحر المتوسط شمالاً إلى الكاب جنوباً ، عدا شمال تشاد وموريتانيا والمغرب التي أضيفت فيما بين 1908- 1911م (شوقي الجمل : 1971: 502-503)
لم تكن علاقة أوربا بأفريقيا وليدة القرن التاسع عشر، وإنما تعود بدايتها إلى القرن الخامس عشر حينما عمدت البرتغال ، تلك الدولة الصغيرة في غرب شبة الجزيرة الأيبرية ، إلى البحث عن طريق بحري إلى الشرق غير طريق البحر الأحمر مدفوعة بأهدافها لضرب النفوذ الاقتصادي الإسلامي في البحر المتوسط، وتحطيم المسلمين على تجارة الشرق من التوابل وغيرها ، في إرسال حملاتها الاستكشافية ، على طول الساحل الغربي لأفريقيا . وإذا كانت البرتغال قد نجحت في عام 1502م من الوصول إلى الهند، وفرض سيطرتها على المحيط الهندي وتجارته، فإنها من جهة أخرى قد وضعت لبنة الوجود الأوربي في أفريقيا، بما شيدته من قلاع ومحطات تجارية على طول الساحل الأفريقي ، لتستصحب معها استرقاق الأفارقة، و بيعهم لاستزراع وتعمير العالم الجديد في الأمريكيتين . (Duffy: 196:2-32).
سرعان ما أغرى النجاح البرتغالي دولاً أوربية أخرى مثل هولندا والدنمرك للتوجيه لغرب أفريقيا، لتتبعها بعد قليل كل من فرنسا وبريطانيا . أما ألمانيا فقد تأخر وصولها حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، هذا إذا استثنينا سيطرة الأسبان القصيرة على بعض مدن الساحل الشمالي لأفريقيا . (شوقي الجمل:)
وعلى الرغم من أن مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، قد شهد تحولاً نوعياً في علاقة أوربا بأفريقيا من خلال إحلال (التجارة الشرعية) محل تجارة الرقيق استجابة لمتطلبات الثورة الصناعية والحاجة للمواد الخام للمواد والحماس الديني، إلا أن النهم الاستعماري لم يكشر عن أنيابه إلا في ثمانينيات القرن الذي شهد تسابقاً محموماً نحو الاستحواذ على الأرض الأفريقية بين القوى الأوربية ، خاصة بريطانيا وفرنسا (Collins : 1969:2) .
وكان مؤتمر برلين ، نوفمبر 1884م – فبراير 1885م الشرارة التي أججت لهيب السباق نحو أفريقيا . فقد قنن ذلك المؤتمر التكالب على المناطق الأفريقية من خلال دعوته لتحديد مناطق النفوذ (وتأكيد ) الإحتلال الفعلي Effective occupation ،وكانت النتيجة تسابقاً محموماً لتكوين المستعمرات إما من خلال الاتفاقيات والمعاهدات مع الزعماء والشيوخ الأفارقة إغراءً ، أو بإخضاع القوميات وتفتيت الممالك والإمبراطوريات بقوة السلاح (Hargreaves : 1963: 335: Haarris : 1914: 33) .
وكانت فرنسا هي الرائدة في ذلك . فمن خلال سعيها للسيطرة على التجارة وتكوين إمبراطورية شاسعة في غرب أفريقيا؛ اتبعت فرنسا سياسة التوسع العسكري، فاكتسحت كل من إمبراطورية التكرور الإسلامية في أعالي النيجر، وإمبراطورية ساموري في وادي غينيا الأدني ، لتصطدم ، وهي تتجه جنوباً ، ببريطانيا التي كانت في ذات الوقت تؤسس لمستعمرتها الهامة في نيجيريا ، في غرب أفريقيا إنطلاقاً من دلتا النيجر علي خليج غينيا . لكن خلافاً لما سيحدث بين الدول الأفريقية الجديدة، فقد حسمت كل منهما صراعها حول النيجر باتفاقية عام 1898 التي رسمت حدود كل منهما وأدت لتكوين نيجريا البريطانية والسودان الفرنسي . (Wesseling : 1998- 191-95)
وكان الفرنسيون قد تمكنوا من قبل ، إنطلاقاً من ميناء جران بسام Grand Bassam على ساحل غينيا ، من السيطرة على بروتو نوفو، حاضرة مملكة داهومي القوية، بعد هزيمة ملكها في عام 1893م . هذا فضلاً عما قام به الرحالة المستعمرون من مد النفوذ الفرنسي على حوض الكونغو على نهري أجوا وأربانجي . وقد استطاعت فرنسا من خلال الأتفاق مع كل من ألمانيا (1892م) وبلجيكا (1894) وبريطانيا (1898م) أن تحدد مناطق نفوذها في المنطقة في المنطقة الواقعة جنوبي وشرقي بحيرة تشاد (Hargreaves: 1963:347) أما محاولات فرنسا في التقدم شرقاً إلى أعالي نهر النيل فقد اصطدمت بالنفوذ الإنجليزي في كل من السودان ويوغندا (Harris) .
وهكذا استطاعت فرنسا من خلال قوة السلاح العسكري، وخداع الزعماء الأفارقة؛ أن تؤسس على أنقاض الإمبراطوريات الإسلامية في النيجر وغينيا وتشاد و الممالك الأفريقية في حوض غينيا والكونغو؛ حيازات كسبت اسم الدول بعد الاستقلال .
ولم تكن بريطانيا أقل شهية في أطماعها في أفريقيا ، وإن كانت أقل في استخدامها للقوة العسكرية على نهر غامبيا من خلال الاتفاق البريطاني الفرنسي في عام 1891م، الذي احتفظت انجلترا بموجبه برقعة من الأرض بلغ مداها عشرة كيلومترات على طول نهر غامبيا، لتعلن عليها حمايتها في عام 1893م، مكونة منها ما عرف فيما بعد بدولة غامبيا . أما مدينة فريتون التي أسها البريطانيون لتكون مستعمرة للعبيد المحررين من مستعمراتهم في أمريكا؛ فقد اتخذت نقطة انطلاق على الداخل لتكوين محمية سيراليون، على حساب شعوب الداخل ثم حددت حدودها بعقد اتفاقية مع فرنسا في عام 1895م . أما ساحل الذهب التي كان الإنجليز قد اتخذوها فيها محطة للتجارة مع الفانتي على الساحل و الأشانتي في الداخل؛ فما لبثت أن فرضت عليها الحماية عام 1902م بعد صراع مرير مع مملكة الاشانتي لتضاف إليها مناطق المسلمين في الشمال، لتكون جميعاً محمية ساحل الذهب التي عرفت بعد استقلالها في عام 1957م بجمهورية غانا (Hargreaves 1963: 64;167: 289-290) .
وهكذا إضافة لنيجيريا التي تكونت من عدة مناطق واحتوت على العديد من القوميات مثل الفلاني/ الهوسا واليويروبا والأيبو وغيرهم؛ أسست بريطانيا مستعمرات في كل من ساحل الذهب وغامبيا في غرب أفريقيا، وحددت لكل منها حدودها من خلال اتفاقها مع القوى المنافسة مثل فرنسا (اتفاقية عام 1898 لتسوية الحدود الشمالية ) وألمانيا (اتفاقية عام 1898م لتسوية الحدود الشرقية مع الكمرون )
وكانت ألمانيا ، مضيفة مؤتمر برلين ، قد لحقت بركب الدولة المستعمرة متأخرة، لكن خلال عام واحد استطاع تجارها ومغامروها أن ينالوا نصيباً من لحم الضحية الأفريقية، فوطدوا نفوذهم في الكمرون (يوليه 1884م) وفي توجو (ديسمبر 1884) وجنوب غرب افريقيا (أغسطس 1884م) ليفاجئوا الآخرين عقب المؤتمر مستندين إلى ما أقره من حق ( الاحتلال الفعلي) لتتمكن من خلال الاتفاق مع البرتغال (ديسمبر 1886م) و بريطانيا (اتفاقية أكتوبر 1885م واتفاقية 1885م وأتفاقية 1890 من تحديد حدود مستعمرتها في جنوب غرب أفريقيا التي أصبحت تعرف بنامبيا . أما حدودها في توجو والكمرون فقد اكدت عليها اتفاقيتها مع البرتغال (1886م) وبريطانيا (1890و 1893م) وبلجيكا (أغسطس 1894م ) وفرنسا (فبراير 1894) التي أوصلتها في الكمرون فقط إلى نهر أوبانجي والساحل الشمالي للجابون . (Harris : 1914:77)
وقد حفز الوجود الألماني في جنوب أفريقيا بريطانيا على سد كافة المنافذ أمام التوسع الألماني، فانطلقت من قاعدتها في الكيب لتخضع البوير في الترنسفال وتاتال والأرونج الحرة والممالك والجماعات الأفريقية في الشمال، مثل الشونا والسوازي والباسوتو والماشونالاند وسوزلاند وباسوتولاند ورديسيا الشمالية ورديسيا ونياسلاند (شوقي الجمل: 595-600-606) وهي الدول التي قدر لها بعد الاستقلال أن تعرف باسم جنوب أفريقيا وبتسوانا وليوسوتو وسوازي وزمبابوي وزامبيا وملاوي .
وهكذا كان الحال في شرق أفريقيا التي كانت البرتغال أول من وصلها في مطلع القرن السادس عشر، حيث تمكنت من إخضاع كافة الإمارات الإسلامية على الساحل الشرقي . لكن إذا كان العرب العمانيون قد نجحوا في طرد البرتغاليين من تلك المناطق في عام 1698م وحصر نفوذهم في الجنوب الشرقي عند موزبيق، فإن عادية البريطانيين والألمان والفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر كانت أقوي من أن ترد. (Duffy : 1962: 76-78) فقد تمخض الصراع بين ألمانيا وبريطانيا على ممتلكات سلطنة زنجبار فيما وراء الساحل المقابل لجزيرة زنجبار؛ عن لجنة بريطانية – ألمانية في مارس 1886م لرسم حدود مناطق نفوذها دون أي مشاركة من سلطان زنجبار أو الأفريقيين من أهل البلاد . وكانت النتيجة التي توجت باتفاق 1886م تقسيم المنطقة بينهما . وجاءت ما عرف بإتفاقية هيلوجلاند – زنجبار في العام 1890م لتبتلع بريطانيا زنجبار بامتداد داخلي إلى بحيرة نيا نزا (فكتوري).
وهكذا التقت مصالح الدولتين لتقسم أفريقيا وتصنع منها دولا باسم زنجبار وتنجانيقا (محمية شرق أفريقيا الألمانية) وكينيا (محمية شرق أفريقيا البريطانية) ويوغندا التي كانت خليطاً من ممالك قديمة و مشيخات ذات قوميات عرقية مختلفة . ولم تراع بريطانيا ، مثلا وهي تمد حدود محميتها في شرق أفريقيا (كينيا فيما بعد) حتى نزاعا بعد الاستقلال بين الصومال وكينيا حولها. أما يوغندا فقد أجلس فيها الاستعمار البريطاني قومية الباغندة على رؤوس الاخرين من أهل الشمال والجنوب والغرب مما أدى بانقلاب هؤلاء عليهم بعد الاستقلال.
اما المنطقة الشمالية من شرق أفريقيا فيما يعرف بالقرن الأفريقي، فقد سبق التكالب الاستعماري عليها مؤتمر برلين بقليل . ذلك باحتلال بريطانيا لمصر عام 1882م. وقيام الثورة المهدية في السودان؛ فتح الباب على مصراعيه أمام كل من فرنسا و إيطاليا اللتان كانتا قد اشتريتا أرضا في كل من أبوك (1862م) وعصب (1869م) للحصول على نصيب من تركة الدولة العثمانية في المنطقة . (Langsam: 1941:140) وهكذا احتلت فرنسا تاجورة وجيبوتي، وإيطاليا ميناء مصوع ، لتمهد لقيام مستعمرة اريتريا، مما دفع بريطانيا لاحتلال زيلع وبربرة في عام 1884م. وجاءت الاتفاقية بين إيطاليا وسلطان زنجبار في فبراير 1885م لتضيف لإيطاليا أرضاً جديدة عرفت فيما بعد بالصومال الايطالي، الذي قننت حدوده الاتفاقية الإيطالية- البريطانية في 24 مارس 1891م
التعليقات (0)