الجدلية القديمة الحديثة والتي تُطل برأسها على استحياء بين نسقين مختلفين اختلافاً جذرياً لكنهما متوازيان في مسيرهما توازيا لن يستطيع طول السُرى وكثرة اللهاث مهما بذلا من جهود مضنية من التوفيق بينهما وجَسر الهوة ، وأزعم أن محاولاتهما تكسرت وتشظت على صخرة أصالة هذا وكلاسيكيته وانفلات هذا وحداثته .
ربما أجدني مضطرا لاجترار أحاديث وأقاويل عفى عليها الزمن وأكل وشرب وتمدد على بساطها فهذا الجدل الذي لن تسكت ضوضاؤه ولن يخمد أواره في ظل محاولات مستميتة لإذكائه والاحتطاب تحته لجعل ألسنة ناره ممتدة تلتهم كل مبتسم أمامها وكل من يحاول مهادنتها لتخلق منه ( مع أو ضد ) فالوقوف في منتصف الطريق ممنوع بقرار من مملكة الشعر الجديدة والتي لم تنل حكمها الذاتي حتى تاريخه .
قبل زمن ليس بالبعيد دار نقاشٌ حول بعض ملامح قصيدة النثر التي امتدت أخاديدها مُشكّلةً تجاعيد أفقية في وجه الشعر جعلت منه عبرة لمن لا يعتبر وعظة لمجنون لم يتعظ بغيره .. قال صاحبي في نقاشه الطويل معي ما يُضيرك وأنت من يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة في الإيمان بحق ( قصيدة النثر ) في الوجود والبقاء وأخذ حقها من إعجاب الناس واحتضانهم كالفنون الأخرى والحكم أولا وأخيرا للقارئ .. قلت : اعتراضي عليها يبدأ من التسمية ولا ينتهي عند أغراضها واهتماماتها .. فانتفض صاحبي انتفاضة لبوةٍ عضها الجوع وزعق في وجهي : إن اسمها في ذاته حالة امتزاجية بين الشعر والنثر فجمال هذا مع سحر ذاك خلقا منها لوحة غاية في الرقة والعذوبة والروعة .. فقلت له وهل تظن أن جمع جمالين في جسم واحد هو بالضرورة يزيده جمالا .. لا يا صاحبي أخطأت كثيرا فحين ننظر للمرأة مثلا كحالة مستقلة نتلمس فيها كل مظاهر الفتنة الآسرة والرقة الآخاذة التي تخطف نحوها كل الأبصار وهذا يكفي وحين ننظر للرجل كحالة مستقلة أيضا فإننا سنجد من خلال رجولته وشهامته جمالا آخر .. ولكن ما قولك في إيجاد جنس يجمع بين الاثنين هل سيستحوذ على الجمالين أم سيخرج علينا مسخاً مخنثاً يعافه ويلفظه كل صاحب ذوق رفيع أو متدنٍ .. وفي رأيي أن ما يُسمى بقصيدة النثر استطاعت وبكل جدارة أن تجمع الاثنين في واحد فخرجت كسابقها مسخاً مخنثاً يعافه صاحب الطبع السليم ..
هذا من جهة التسمية أما من جهة الاهتمامات فالمتلقي لا شك أنه مشدود ومهتم بما يعكسه هذا الشاعر أو ذاك من قضايا تهمه سواء على المستوى الاجتماعي أو الديني أو القومي أو الوجداني فكثير ممن يكتبون هذا المسخ لا تزيد دائرة اهتمامهم عن دائرة ضيقة لا تتجاوز وجدانياتٍ لا تُشكل حيزا مهما في خارطة الأدب العربي فتجد المتلقي في دائرة وكاتب هذه الخربشات في جهات أخرى ، فلو أخذت مثلا ما يجري الآن على أرض فلسطين المحتلة من دم يغلي وجروح أجهدها النزف بينما ترى كثيرا ممن يسمون أنفسهم شعراء الحداثة منشغلين بما ( يهمسه في آذانهم القمر الغريق في بحور الدماء الراعفة من دمامل الشبق المثخن بجراح الماضي المعربد في كبرياء الأنا الشاخبة بالتواءات العصور البنفسجية التي ترعى قطيعا من الغنم أمام كبرياء الطفولة المتعفنة في ظل إبط متقيح بجروح الإباء المتغطرس.. ) .. هذا غيض من فيض ما تنشره الصحف هذه الأيام .. بالله عليكم واستحلف كل من لديه ذرة نخوة وخوف على مستقبل مشهدنا الثقافي وكل متمتع بقسط يسير من الذوق السليم ما الذي فهمه من هذا الهراء .. وهل نحن الآن وفي قمة جراحنا محتاجون لمثل هذه التراهات ..
فبعض السائرين على هذا الطريق والكثير ممن التقيت بهم شخصيا يرون أن الاهتمام بمثل هذه القضايا هو نوع من كبت حرية إبداعهم وتقييد لهم بمقعد هموم لا دخل لهم بها .. وكان من المفترض – والكلام لا يزال لهم – أن يهتموا بقضايا هم الركيزة الأساسية فيها وليس قضايا محورها الغير .. ثم ما قيمة الأمة بكل جراحها وهمومها والمجتمع بكل أطيافه أمام كبرياء وجدانياتهم وغرور شخابيطهم ..
في الماضي القريب وقبل أن تُجتاح أمتنا بمثل هذه النوعية من الخواء كان الشاعر هو محط آمال نفوس عريضة من الناس وهو الشعلة الوضاءة التي تنير لهم الدروب لينطلقوا خلفه وهم واثقون أنه سيوصلهم إلى بر الأمان .. وأنا هنا لا أتكلم عن العصر الجاهلي أو ما لحقه من عصور قريبة منه بل أتكلم عن أربعين أو خمسين سنة مضت فقط عندما كان الجواهري وعمر أبو ريشة والرصافي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم الكثير ربابنة سفن الحرية والصوت الجهوري المعبر عن آمال الأمة وتطلعاتها وهم الحضن الذي يضم تحت جناحيه كل لاهث ومتحسر على ماضاع على أمته من أمجاد ..
هذه بعض النقاط التي أحببت أن أجليها .. وإن كان الموضوع يحتاج إلى مجلدات لكي نستطيع أن نميط عنه اللثام ..
قال صاحبي : أنا لا أرى شعراء عمالقة بين ظهرانينا يعترضون على هذه النوعية من الشعر كما تُسميها وأجدك وحفنة صغيرة مثلك في حلبة توجهون بعض صفعات وتتلقون قبالها اللكماتِ إثر اللكمات حتى أصبحتم كالسكارى لا تقوون على الوقوف جراءها .. فقلت له تأكد إن كثيرا من الشعراء الحاليين رافضون لهذه الفئة بل إن كثيرا منهم يرفض هذه ( القصيدة ) من أساسها ولكن لحاجة في نفس يعقوب لا يريد أن يتكلم ولا يريد أن يتواجه مع روادها وهم الممسكون الآن والمسيطرون على أغلب وسائل الإعلام وفي يدهم الحل والربط فمن عاداهم فكأنما فقأ عينه بيده مصيره النسيان والإهمال وإغلاق النوافذ في وجهه حتى يختنق في بوتقة ضيقة تطبق على أنفاسه ولسان حاله يقول الطيب أحسن .. وهادن تسلم .. ويا بخت من وفق بين قصيدة النثر والشعر بالحلال ..
التعليقات (0)