عن أية حداثة يتحدثون : قبل عامين تقريبا سهرت مع زملاء أعزاء إلى حدود ساعة متأخرة من الليل، وفي طريقي إلى البيت وجدت أحد الزملاء سكران ثملا، فقلت له ضاحكا : " فعلتها أيها العربيد"، فضحك هو أيضا ووقفنا خمس دقائق وأخبرته بتأسيس "جمعية لكل الديمقراطيين"، فقال لي أريدها "بيرة لكل الديمقراطيين"، ولما ابتعدت عنه بمسافة طويلة، اعتبر زميلي، أو هكذا تبين له وهو الثمل الذي لا يفرق بين القط والكلب، أني استهزأت به لما وصفته بالعربيد، وناداني بصوت مرتفع: نورالدييين ..وشوف..أنا ..أنا...وشوف.. ولو أني عربيد، أنا إنسان تقدمي وحداثي ..وأنا..حداثي...أنا ماشي فحالك ظلامي ورجعي وعقلك متكلس ..أنا حداثي وتقدمي أيها الرجعي يا الظلامي.. أولد الحرام..أنا حداثي ..وموت بالسم.!! كنت أحضن كرشي حتى لا تنفجر من شدة الضحك، ولم أبال ببرودة الجو في عز الشتاء فخارت قواي وجلست على الأرض ، فأردف قائلا : وموت امك بالفقصة ...أنا حداثي ..أنا حداثي....أنا حدااااااااااثي !! حين أسمع أحدهم ينسب كل فعل لا يلائم الذوق العام للمجتمع ولقيمه الراسخة إلى الحداثة أتذكر صديقي فأضحك، فالكل أصبح يخطب ود هذا المصطلح ليبرر أخطاءه ومزاعمه المبتذلة وتحكيم الشهوات باسم الحداثة المعطوبة، ذلك أن كلمة حداثة تتسم بطابعها الزئبقي وتتمنع عن أي تحديد مفهومي مجمع عليه من لدن المثقفين العرب، لذلك تلفي مجموعة من الغوغائيين والدراري ينتهزون هذا الالتباس الدلالي فيختبؤون وراء المصطلح ثم يدلسون على المجتمع ويكذبون ويبررون كسلهم الفكري، ويوارون سوأتهم المكشوفة أمام الملأ الذي يمجها دون تردد، فتجد، على سبيل المثال، صحفيا أو كاتبا يتحدث عن القراءة الحداثية للقرآن وهو لا يعرف شيئا عن أبجديات هذا الدين العظيم، بل قد تجده غريبا عن المجال التداولي في مجتمعه، وقد تجد شويعرا كتب كلاما غير مفهوم وحين تسأله عن المعنى سيقول لك بأنه يكتب شعرا حداثيا، ويمكن للقارئ الكريم أن يعود لما يسمى شعر الحداثة في المواقع الالكترونية والمدونات، كلام سخيف أبعد ما يكون عن النثر بله أن يكون كلاما شعريا. ولما تنتقد برنامجا ينشر الرذيلة في المجتمع ،حتى لا أقول كلاما آخر، يقال بأن هذا السلوك من صميم الحداثة، ولما تقرأ مقالا لصحافي يدافع عن قيم المجتمع وثقافته الممانعة تجد من يصفه بالإرهابي وعدو الحداثة ويخدم أجندة أصولية ومقرب من جماعة محظورة، والنتيجة يجب أن يكون كلامه محظورا كما تابعنا في الحملة التي يخوضها البعض ضد رشيد نيني بالمغرب وأحمد منصور في مصر..فالحداثة عند القوم أصبحت مرادفا للعهارة والرذيلة والتردي القيمي والأخلاقي والقبول بالذل والتطبيع مع المنكر والاحتلال الخارجي والركون إلى الذين ظلموا...الخ. ليس في الخطاب الإعلامي والثقافي وحسب، بل أصبح المفهوم يطال سلطة الإنشاء/ الخطاب العربي بشكل عام. أي حداثـة نريد؟ أية حداثة نريدها للعالم الإسلامي الذي يرزح تحت سيطرة الاستعمار الجديد والتبعية لكي يكمل تحرره من هذه السيطرة وتلك التبعية، ويبدأ في تنمية وطنية شعبية، وما هي الأداة الفكرية لعملية سياسية ومجتمعية كهذه؟ هل نقتنع بأن الاهتداء بالأسلوب الذي استخدمته المجتمعات الأوربية هو السبيل الوحيد للوصول إلى ما نبتغيه من تحرر وتقدم، خاصةً وأن هذا الأسلوب قد تجسَد على أرض الواقع بمظاهر وأدوات وبنيان، تشكل في مجموعها ما يطلق عليه اليوم بالحداثة الغربية؟ سؤال مركزي لا شك بأنه يواجه العقل العربي والإسلامي عموماً، والمجتمعات العربية والإسلامية والأجيال الطالعة منها على وجه الخصوص، وخصوصاً في ظل دعوات ونزعات تغريبية صادرة عن هذه المجتمعات تطالب بالانسياق وراء المفاهيم والقيم الغربية أملاً بالخلاص من واقع التخلف !! على كل حال، فإن الحداثة - مصطلحاً وموضوعاً- تعد من القضايا النسبية الكثيرة التعقيدات، لذا فإن الدخول في مجال تعريفاتها المتعددة قد يُدخل القارئ بملابسات هو بغنى عنها، غير أن غياب التحديد المفهومي المجمع عليه يدع مساحات شاسعة للانتهازيين من أبناء قومنا الذي لا يهمهم تقدم على مستوى المعيشة لفقراء يعانون الجوع في بلاد الثروات، ولا تنوير لعقول الأمة التي تتعرض لاحتلال ثقافي خطير جدا سيقضي، لا قدر الله، على قيم النخوة والشرف وثقافة الممانعة !! إن مصطلح الحداثة، وعلى عكس ما حمّله البعض من حمولات أيديولوجية هرمة، وغرضية شهوانية دوابية، فإن مصطلح الحداثة، الأوروبي المنشأ، "قد أفاد عند ظهوره في القرون الوسطى، وفي فرنسا بالذات، الأعضاء الجدد في هيئة القضاة الذين هم من الشباب، انتخبوا وعينهم الملك ليعوضوا زملاءهم في مهمة القضاة في المركز، والمعنى الذي كانت تنطوي عليه كلمة مُحدثون في هذا السياق هي التجديد الدوري الزمني في تعيين هؤلاء الحكام، وكذلك معنى الاستمرارية في تجديد تعيين هؤلاء القضاة. ولم يقترن معنى كلمة الحداثة في هذا الطور التاريخي دائماً بمعنى المُحبذ الإيجابي الذي يتعلق به الجميع على أنه أفضل من القديم في كل الوجوه". بمعنى أن الحداثة ليس دائما عكس ما هو من مخلفات الماضي وضد القيم المجمع عليها من قبل المجتمع، بمعنى أنه يمكن أن يكون لكل مجتمع حداثته التي يفرزها المجتمع في سيرورة تطوره في احترام تام لقيمه الراسخة، ومراعاة للواقع الاجتماعي والمادي للبيئة. أو ليست الوهابية حداثة ؟! الكثير من الكتابات العربية المعاصرة ترد مسألة ظهور الحداثة في العالم العربي والإسلامي إلى حاكم مصر محمد علي في الجانب السياسي، وإلى رفاعة الطهطاوي في المجال الفكري، على اعتبار أن الأول قد قام بتطوير بعض نظم الحياة في الزراعة والصناعة والتجارة في مصر، في حين دعا الثاني إلى ضرورة الاستفادة من المنهج الغربي في التطور لكونه قائما على العلم والنظام. إلا أنه وللحقيقة، فإن فكرة الحداثة في العالمين العربي والإسلامي قد انطلقت من شبه الجزيرة العربية، تحت شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله " من أجل تخليص الإسلام مما لحق به من شوائب وبدع منكرة عقلا وشرعا، هذه حداثة إسلامية ولا شك، انطلقت مع المجدد محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الحركة الوهابية. وذلك عبر دعوته إلى تخليص الإسلام مما لحق به من شوائب وبدع، وإنكاره لإغلاق باب الاجتهاد في أمور الدين. وبذلك يكون ابن عبد الوهاب، إضافةً لمحاربته الجهل، قد فتح الباب واسعاً أمام انطلاقة تقدمية و تنويرية إسلامية حقيقية، ميزتها الأساسية مراعاتها للواقع الاجتماعي والمادي للبيئة التي ظهرت بها. وقد استطاعت الحركة الوهابية أن تحقق انطلاقة حداثية شاملة بعد أن لقيت تجاوباً من حكام آل سعود، ليتحقق بفضل هذا التلاقي اتحاد الجزيرة العربية، وتتجسد الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأرض الإسلامية . فالحداثة الوهابية حركة مباركة ظهرت كإفراز طبيعي لحاجة المجتمع الإسلامي في القرن الثامن عشر، ولم يتم فرضها عن طريق الاستعمار الخارجي والطابور الخامس من مثقفي المايرنز والنيو- لبراليين الذين باعوا ضمائرهم للعدو الخارجي. إن الدعوة الوهابية، برأيي، هي بداية الحداثة الحقيقية في عالمنا العربي والإسلامي، وهي حركة تنويرية أفرزها الواقع العربي والإسلامي، وهي بنت زمانها، ولا شك، قد أصابها ضعف وفتور لأنها لم تستطع أن تطور من أدائها الرسالي وتطوير كفايتها لتحقق الاستجابة الحضارية المطلوبة، فبقيت توجه سهام نقدها للمجتمع وحده و"أغفلت" العامل السياسي من أجندتها الإصلاحية فأصبحت لعبة في يد الانتهازيين يمينا ويسارا وعنوانا للتشدد والتطرف.
التعليقات (0)