إذا كانت حالة التدافع الحضاري قد أوصلت الحضارة الغربية المعاصرة إلى درجة من التفوق المادي والعلمي والإداري فإن تداعيات هذا الصعود الحضاري علينا كأمة مسلمة تجاوزت بكثير النتائج المتوقعة عادة من صعود حضارة ما ربما لأن الحضارة الغربية في هذا الطور من أطوار نموها أشاعت أن هذا هو الطور النهائي من تطور الحياة على الأرض وأن التاريخ قد انتهى عند هذا الحد ..انتهى بإعلان تفوق الحضارة الغربية وإعلان أن قيمها هي القيم المثالية في حياة البشرية وعليه فعلى جميع شعوب الأرض أن تتبنى هذه القيم بحيث تقاس درجة نجاحها وتطورها بمدى سيادة هذه القيم التي تم اعتبارها الخير الأسمى الذي بحث عنه الفلاسفة القدامى طويلا.
ومن جهة أخرى أوجد هذا التفوق الغربي الكاسح حاجة ماسة لدى طلائع النهضة من أبناء حضارتنا المستمسكين بأصالتها وقيمها الرفيعة لمحاولة فهم وتفكيك العقل الغربي كخطوة أولى وأساسية للتعاطي مع واقع الهيمنة الحضارية الغربية فكثرت الدراسات والبحوث التي تحاول الغوص داخل العقل الغربي الحديث لترى الجذور الوثنية وقد تلبست بتعصب ديني بشع وامتزجا معا في دين عجيب سرى في دماء الحضارة الغربية الحديثة حتى لو أنكرته وتبرأت منه .
والأقرب إلى الحقيقة أن الفلسفة الغربية الحديثة التي قامت عليها الحضارة الغربية لم تستطع أن تحسم صراع الفلسفات لصالحها فظلت الأفكار والفلسفات القديمة الأكثر تعصبا هي منظومة الأفكار السائدة غربيا والمتحكمة في مواقفه وتعاملاته لاسيما فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين ولنأخذ موقف الغرب من الحجاب نموذجا لصراع الفلسفات هذه.
لاشك ان المتأمل لموقف الغرب من الحجاب سيجد مواقف متباينة متنوعة فبينما يتحدث أوباما عن حرية المرأةالمسلمة في ارتداء الحجاب حتى أنه اختار مستشارة محجبة وضمها لفريق مستشاريه في البيت الأبيض وهو يتحدث عن الحجاب بصورة تشي بالتقدير والاحترام يقول أوباما : إن الحكومة الأمريكية تقوم بإجراءات المقاضاة من أجل صيانة حق النساء والفتيات في ارتداء الحجاب ومعاقبة من يتجرأ على حرمانهن من ذلك الحق ( 1 ). في الوقت الذي يشن فيه الرئيس الفرنسي ساركوزي حربا على النقاب باعتبار أن المنتقبات غير مرحب بهن على أراضي الجمهورية الفرنسية. بل إنه وعندما كان وزيرا للداخلية تم تدشين قانون يمنع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب داخل المدارس الحكومية الفرنسية.
كذلك فقد مثل الألماني الذي قتل المصرية المحجبة مروة الشربيني داخل قاعة المحكمة نموذجا لقطاع من المواطنين الغربيين خارج نطاق مۆسسات الحكم وصنع القرار الذين يرفضون الإسلام ويرون في ارتداء المسلمة للحجاب نموذجا حيا للإسلام ويضيقون ذرعا بالقيم التي جاء بها الإسلام ويمثلها ارتداء الحجاب علىالرغم من أن العديد من المۆسسات والقطاعات قد أدانت سلوك هذا المجرم الألماني ونددوا بقيم التعصب وضيق الافق .
لا يمكن إذن تفسير المواقف الغربية المتناقضة إزاء قضية الحجاب إلا بتعدد الفلسفات الحاكمة في الغرب وأنه ثمة صراع بين هذه الفلسفات يتحدد في محصلتها النهائية موقف الغرب من الإسلام وشرائعه وقيمه وممثليه.
فالمدرسة الأمريكية يغلب عليها الطابع البرجماتي الذي يقول عنه رائد المذهب وليم جيمس (إنه اتجاه تحويل النظربعيدا عن الأشياء الأولية المباديء، النواميس ،الفئات، الحتميات المسلم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة الثمرات، النتائج، الآثار الوقائع، الحقائق ) ( 2 ) فإذا كان احترام الحجاب سيرفع من أسهم الولايات المتحدة ويحسن صورتها أمام المسلمين فلا بأس من احترامه ومنح الحرية لمن تشاء أن ترتديه لأنه في المقابل ستحصل الولايات المتحدة على الصفقات المربحة الثمينة والنفط والمواد الخام التي تحتاجها من الدول الإسلامية التي اكتسبت ثقتها وعلى مستوى الداخل الأمريكي يحدث لون من الاستقرار في المجتمع ويندمج المسلمون بصورة ناعمة في المجتمع الأمريكي والقيم الأمريكية الخاصة أي القيم النفعية البرجماتية التي لا تعول على أي مبدأ إلا بقدر نفعه ويأمل أصحاب هذا الفكر من تحقيق معادلة الإسلام البرجماتي.
أما المدرسة الغربية الأخرى التي تقودها فرنسا فهي تمثل إشكالية حقيقة فكثير من المعنيين بدراسة أحوال الجالية المسلمة في فرنسا لا يجدون تفسيرا مقنعا لموقف فرنسا من الحجاب والقمع الذي تلاقيه المحجبات على أراضي الجمهورية العلمانية فالصورة الشائعة عن فرنسا في أدبياتنا والتي روجها عدد من مثقفينا العلمانيين أن فرنسا هي بلد الحرية على أرضها أشرق عصر الأنوار الذي أخرج الناس من ظلمات العصور الوسطى وأن فلاسفتها العظام هم الذين أعادوا الاعتبار للعقل ولمركزية الإنسان في الكون ورفعوا لواء الحرية والتمرد على أي قيد يحد من حرية الإرادة الإنسانية و..و..فماذا حدث وكيف تقيم الجمهورية العلمانية محاكم التفتيش للمحجبات على هذا النحو ؟
لابد أن نذكر في هذا الصدد أمرين قد يصلحان كتفسير لتلك الإشكالية ..الأمر الأول في تقديري أنه على الرغم من أن العلمانية الفرنسية قد قامت على أنقاض الدين إلا أن القيم الثقافية الحاكمة لا تزال غنية بالنكهة الدينية المشوهة فميراث الحروب الصليبية التي شاركت فيها أوربا جميعا وكان لفرنسا فيها نصيب الأسد أصبح أحد مكونات الجينوم الغربي إن جاز التعبير يقول المفكر الغربي المهتدي محمد أسد:(قد يبدو من سخرية التاريخ أن يظل هذا الحقد الغربي القديم على الإسلام قائما بطريقة لا شعورية في زمن خسر فيه الدين القسم الأكبر من تأثيره في مخيلة الغربي بيد أن هذا في الحق لا يبعث على الدهشة فنحن نعرف أن شخصا ما يمكنه أن يفقد بالكلية المعتقدات الدينية التي لقنها في طفولته ومع ذلك فإن انفعالا معينا ذا صلة بتلك المعتقدات أصلا يستمر دونما وعي في حال العمل إبان حياته فيما بعد .إن خيال الحروب الصليبة لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا كما أن جميع اتجاهاته وتوجهاته نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثارا واضحة جلية من ذلك الشبح العتيد الخالد ) (3 )
أما الأمر الثاني فيتعلق لا بالموقف من الإسلام عموما ولكن بالموقف من الحجاب خصوصا فهم لا يشنون الهجوم على الصلاة والصيام ونحو ذلك من العبادات وإنما يخصون زي المرأة المسلمة تحديدا وفي تقديري أن هناك حالة من الهلع تسود الأوساط العلمانية من جراء انتشار الحجاب فالحجاب في مضمونه قيمة حضارية مباينة تماما لمنظومة القيم الغربية السائدة والتي يراد لها أن تكون قيما عالمية فشتان بين فلسفة تقوم على الستر والاحتشام وغض البصر وعدم الخضوع بالقول والتحفظ في العلاقات بين الجنسين وفلسفة أخرى تنادي بالحرية الجنسية التي تصل إلى حد الثورة وتدعو المرأة إلى التمتع بحرية جسدها وتتفنن مدن آمنت بهذه الفلسفة في صناعة الملابس المثيرة التي تسوقها على مستوى العالم كله باعتبارها النموذج الأكثر جمالا وأناقة.
هناك وقع التصادم الحتمي بين الدعوة للحرية والتي كانت أحد تجلياتها حرية المرأة في انتقاء ملبسها مهما كان متبرجا وبين القدرة على تحمل قيم مخالفة تفرز صورا من اللباس المختلف لكنه تصادم نستطيع منه استشفاف رائحة الخوف والتمترس حول قيم الحرية الزائفة والمرجعية العلمانية السائدة فالخوف من تآكل الصورة النمطية للمرأة الغربية وما يستتبع ذلك من انهيار المشروع القيمي العلماني هو دافع أساسي للسلوك العدواني إزاء الحجاب والمحجبات .
المصادر:
( 1 ) من خطاب أوباما الموجه للعالم الإسلامي الذي ألقاه في جامعة القاهرة
( 2 ) وليم جيمس ـ البرجماتية
( 3 ) محمد أسد ـ الإسلام على مفترق الطرق
التعليقات (0)