كانت الطالبة "رجاء" مجتهدة في دراستها طوال حياتها ، وكانت جميلة وخلوقة أيضا ، تميزت بذكاء حاد لا يرقى إليه إلا ندرة من البشر ، لم يكن كذكاء أخونا "أديسون" أو ابن العم "آينشتاين" بل إنه ذكاء وجداني عميق ، كانت رجاء تمر بظروف حياتية شاقة في ظل اسرتها التقليدية المحافظة ، ترعرعت رجاء وفق انظمة صارمة ، كانت تتوق دوما الى عالم من الرومانسية والخيال ، وفي يوم من الايام وقعت بحب أحد المدرسين في الجامعة التي تدرس بها ، لم تدرك حقيقةً ما الذي حل بها ، ولكنها كانت تنصهر في بركان من العشق والالم يوما بعد يوم ، حاولت رجاء بكل الطرق ان تلفت نظر "موسى" اليها ، ولكنها يئست بعد مرور اشهر طويلة على محاولات باءت جميعها بالفشل ، فموسى رجل متزوج ومتزن ولديه الكثير من المسئوليات التي تبعده بفكره وروحه عن عالم الحب والرومانسية ، او بالاحرى تبعده عن "تغيير وجهة الحب والرومانسية لديه" ، كانت رجاء كمن يجري خلف السراب ، وكانت كثيرا ما تجتمع بزميلاتها وتسألهن عن أفضل اسلوب لإيقاع أحدهم بالحب ، ولكن النتيجة كانت مخيبة للآمال بشكل مرير ، فرجاء كانت على ثقة بأنها تستطيع الايقاع برجال الارض جميعا لأنهم يجرون خلف غرائزهم دون تفكير ، أما موسى فقد كان بنظرها مختلفا ، ولأنه مختلف في كل شئ فقد أحبته ، وبالرغم من فارق السن الكبير بينهما إلا أنها كانت تعيش في كل لحظة مع صورته وصوته ، مرت خمس سنوات عصيبة شعرت رجاء من بعدها بأنها "نكرة" في حياته ، فقررت السفر لإكمال دراساتها العليا بعيدا عنه وعن تأثيره الرهيب على حياتها ، فقد أوصلها عشقه إلى الرغبة بالموت والإنتحار ، وذلك بسبب اكتآب رهيب عاصرته لخمس سنوات حتى قالت لنفسها "ارحلي بعيدا وكفى" ، ارحمي نفسك قبل الجنون ، وعندها فقد أخبرت والديها وصديقتها المقربة أنها تعتزم السفر إلى لندن لإكمال دراساتها العليا ، ولم تجد أي معارضة من أهلها الذين علموا أنه لمن الأفضل لها في هذه المرحلة أن تبتعد ، سافرت ودرست حتى نالت شهادة الدكتوراه في تخصصها لتعود من جديد بعد سبعة سنوات إلى أرض الوطن الغالي ، عادت وكأنها انسانة أخرى ، السعادة تشع من عينيها وحب الحياة يملؤ قلبها ، عادت ووجدت كماً من الخطاب يتوافدون إلى منزلها للظفر بتلك الحسناء المثقفة والتي تبدو كالطفلة في براءتها وحيويتها ، رفضت رجاء عروض الزواج جميعها بل واستنكرتها قائلة : "لست مستعجلة" ، وهنا وصفها شقيقها ب "المتكبرة" ، ووصفتها والدتها ب "غريبة الأطوار" ، ووصفتها شقيقتها ب "المجنونة" ، ولكنها لم تكترث لكل ما قيل وآثرت الوظيفة وجمع المال والعمل الدؤوب على الزواج والإنجاب ، كانت كلما تذكرت قصة حبها اليائس لمعلمها الأسبق موسى ، تبتسم وكأنها مرحلة وقد تم تجاوزها بسلام ، وبعد فترة استلمت وظيفة مرموقة وأصبح العمل كل كيانها ، وبعد مضي ثلاثة سنوات كان موسى حينها قد تجاوز الخمسون من عمره ، وأصيب بفشل كلوي حاد ، فاضطر إلى دخول المستشفى لزراعة كلية وبشكل عاجل ، بدأ بعض الافراد من أهله يتوافدون للتبرع له بكلية من كليتيهم ولكن مع الأسف أسفرت الفحوصات كلها أنها جميعها غير ملائمة له ، وفي تلك الفترة تحديدا شعرت رجاء بشوق عارم لرؤية حبيبها الذي يكاد لا يعلم عن حقيقة حبها شئ ، وحدثت نفسها بضرورة الخروج من العمل والذهاب لمقر عمله لرؤيته من بعيد والاطمئنان عليه فقط ، ودون أن يلمحها ، تريد أن تعرف أيضا إن كانت لاتزال ضعيفة اتجاهه كسابق عهدها أم أنها قد نضجت عاطفيا ولم تعد تكترث لوجوده في دنياه بعيدا ومستقلا عنها بشكل يعتصرها ، فاستأذنت رئيسها في العمل بحجة اخرى واتجهت الى مقر عمله معتبرة ذلك نزهة من العمل الشاق إلى مكان يجدد لها حيوية قلبها الذي أوشك أن يصدأ بسبب انهماكها بالعمل واهمالها للحب والزواج في حياتها ، وما ان وصلت حتى بدأت تتخفى خلف نظارتها الشمسية ، وبعد أن شعرت انه غير متواجد تماما ذهبت إلى موظفة تعمل هناك وسألتها عنه مباشرة وكأنها طالبة تسأل عن استاذها ، فأخبرتها الموظفة بالخبر الأليم حول خطورة حالة الأستاذ موسى الصحية ، لم تتمكن من السيطرة على دموعها فغادرت المكان على عجالة وانطلقت الى المستشفى حيث يصارع من اجل البقاء ، وقامت وبلا تردد بعمل كافة الفحوصات اللازمة للتبرع بإحدى كليتيها له ، وكان مما يثير دهشت الدكتور "رامي" هو حماسها للتبرع بإحدى كليتيها مع عدم ذكر اسمها من باب عمل الخير وكسب الأجر ، وقد كانت النتيجة كما تتوقعون تماما ، فقد كانت كليتها ملائمة لتنقل من جسدها الى جسد من عشقته بجنون ، وقد سارع الاطباء لعمل العملية بابلاغ موسى واهله بأن متبرعا قد وفر لهم الكلية الملائمة ، ولم يكن هنالك داع لذكر الاسماء ، قام الاطباء بعمل العملية وقد تكللت -ولله الحمد- بالنجاح ، وبعد أن استيقظ موسى ولايزال يشعر بالألم بسبب العملية ، أخبره الطبيب باسم المتبرعة بناءً على اصرار زوجته لمعرفة هوية من تبرع له بالكلية وبلا مقابل ، وهنا صعق موسى حين تذكر هذا الإسم ، الوجه ، فيض المشاعر ، المطاردة والرسائل والزهور والدموع ، إنها هي ، لا تزال تحبني لدرجة أنها أعطتني عضوا من جسدها ، أعطتني من صحتها دون مقابل أو حتى وعد . حاول موسى النهوض من مكانه ولكنه لم يتمكن بسبب الألم الشديد بعد العملية ، بعد يومين أخبره الطبيب بأن المتبرعة في الغرفة المجاورة تستعد للرحيل ، فإن كان يود أن يشكرها بنفسه ، وهنا استجمع قواه وقام من مكانه وتوجه إلى حجرتها ، طرق الباب فسمحت للطارق بالدخول ، فدخل ببطء وقد كانت جالسة على سريرها وقدميها إلى الأرض محاولة النهوض ، رفعت رأسها فوجدت حلمها ماثل أمامها ، لم يستطع موسى الكلام لبرهة ثم تنحنح وقال : لا أعرف كيف أرد لك جميلا كهذا يا رجاء ، وهنا ابتسمت عندما سمعته يذكر اسمها ولأول مرة بنبرة حنان وحب ، فصمتت تنظر إليه تريد الإطمئنان على سلامته أكثر ، فخطى خطوة اخرى وقال : أطلبي أي طلب تريدينه ، ولن أرده لك مهما كان ، فابتسمت وسالت الدموع من عينيها فمسحت دموعها وقالت له : أنا سعيدة بما قمت به من أجلك ، أظن أن زوجي قادم بالطريق ويجب ان استعد للرحيل . وهنا صعق موسى : زوجك !!! هل انت متزوجة ؟ رجاء : أجل ، فهل يجب ان تكون المتبرعة غير متزوجة ؟! وابتسمت بتصنع يخفي ألما ، فقال لها : عندما تحتاجين لأي شئ لا تترددي بطلبه مني ، فقد أنقذتي حياتي وأنا مدين لك مدى الحياة ، فردت عليه بحب فياض : وأنت أيضا ان احتجت الى شئ فلا تتردد بسؤالي مباشرة ، فبادرها بسؤال أحرجها : لماذا تبرعتي لي بكليتك وانت شابة صغيرة وانا عجوز ؟ رجاء : أريد أن أكفر عن ذنب إزعاجك أنت وزوجتك في الماضي ، وكل ما سببته لكما من شجار بسبب تطفلي على حياتك . فابتسم وقال : شكرا جزيلا على كل شئ ، وانصرف بتثاقل وبطء ، مسحت رجاء دموعها مرة أخرى وقالت في نفسها : لقد حظيت اخيرا بالرضى والتقبل من الرجل الذي احببت ، يجب أن أخبر أمي بأنني الآن مستعدة لأن أتزوج وأعيش حياتي كما الآخرين .
التعليقات (0)