مواضيع اليوم

الحب أقوى - قصه للكاتب سلمان فراج

ظلال الفرج

2009-07-30 10:00:31

0

الحب اقوى

دخل أبو علي الى اليبت كعادته منذ ثلاث سنوات عابسا يحمل فوق حاجبيه هم الدنيا بأسرها، ولم يزد على أن طرح السلام ببرود، فأتاه الجواب من زوجته أم علي التي كانت تطوي "الغسيل" باردا كأنه خارج من فوهه قبر قديم، وتململت المرأة تلم اطراف ثوبها الاسود الطويل، وتحشو تحت نقابها خصلات منفوشة من شعرها الاسود الموخط بالشيب ، ثم نهضت من جلستها متشاغله بوضع الثياب التي أتمت تطويتها في الخزانه، بينما اتجه أبو علي الى ركن من الغرفه الهادئه ليعلق هناك سلاحه الذي يحضره معه من الوظيفه، وطاقيته، ثم مشى بهدوء الى السرير في طرف الغرفه الآخر وجلس عليه بهدوء واخذ يحل سيور حذائه، وسأل زوجته عن الأولاد فأجابته بنبرة واثقة:
- في الحارة، ما زالوا هناك...
رفع بصره اليها فالتقت عيناهما ولمح في عينيها معنى الرفض.
ثم تابع حل سيور الحذاء... الى أن انتهى فخلعه واتكأ على ذراعه اليمنى التي أسندها الى حافه السرير الحديديه.
ظل صامتا يراقبها وهي تروح وتجيء متثاقله بين الحصير حيث أكوام الثياب التي رتبتها كل نوع على حدة، وبين الخزانة التي فتحت فاها لتبتلع بين رفوفها ما تلقمها به، بصمت وسكينة.
كانت خطوات أم علي الحافية تخرج دبيبا رتيبا يتمازح مع حفيف ثيابها فيزيد من رتابه الجو، وكان وجهها صامتا، لا يمتزج فيه أي معنى جديد، وحركاتها روتينيه كأنها شيء من هذه الغرفه التي أصبحت جامده لا حرارة فيها.
لم يرتح للمنظر... أحس بضيق يخنق أنفاسه، أراد أن يعتدل في جلسته ولكنه لم يجد في نفسه الميل الى ذلك رغم الالم الذي حل بذراعه المسنده الى حديد السرير، فكأن نفسه تنساق مع هذا الجو المشحون بالهدوء.. بالصمت.. وبالتأمل...
- هاتي الماء يا هنيه.
وسارت المرأه بدبيب رتيب الى المطبخ بعد أن وضعت كومة الثياب الاخيره في الخزانة... سمع صوت الماء وهو ينصب في الطشت ويملأ الدار بالضجه، فارتاح له... ثم أعقبه صمت ودبيب يتجه اليه...
وضعت المرأه الطشت أمام رجليه اللتين كانتا تتدليان بتراخ عن السرير، فاعتدل وغطسهما في الماء البارد، وانحنت تفركهما ، فأسلمهما لها وهو يرقب حركة يديها وهما تدلكان قدميه وساقيه، فأحس بالبروده تسري في عروقه، وبعاطفة دفينه تكاد تتفتح، وود لو يستطيع أن يشد كفيها الى صدره علهما تنزعان منه وحشه وضيقا يخنقانه.. لكنه لم يفعل، لان الجو لم يكن ملائما ولا قلبه يطاوعه الى ذلك.. وفطن الى نقابها الاضفر وقد امتزج لونه بالغبار والعرق فحال عن البياض، ولمح بقعا داكنه تبرقع فسطانها الاسود القديم، وكأنه لم يغسل من شهور.
أخذ يعاوده الاحساس بالضيق... كل شيء تغير، وخصوصا هذه الزوجة التي كانت منذ ثلاث سنوات قطعة منفرده من السعاده تغمرها الرشاقة والانافة...
... كان اذا عاد من الوظيفة يفيض وجهها بهجه وتزقزق في حنجرتها وبين شفتيها كل عصافير الدنيا... كانت تبدو كالطفل الذي وجد أمه ... فتمتلئ الغرفة حركة ... وانفعالا ... كانت تعاتبه لماذا تأخر الى باص بعد الظهر وهي تغسل له رجليه بعد أن يجلس على السرير ... وتحدثه عن أشياء كثيره عن الاولاد، والجيران والارض والموسم وعن آخر ما حفظته من رسائل "الحكمه الشريفه" بعد أن استلمت الدين وكيف أن المشايخ يمتدحونها لتقدمها على بقيه النسوه ... وكانت تضحك ... تضحك كثيرا ... أو تأمر الاولاد بالاسراع الى الدكان لشراء الكازوز .. أو بتجهيز المائدة.
وتنحنح بو علي بدل أن يبصق على الارض ليخفف من أسفه، وأخرج زفيرا متقطعا حاول كتمه عن زوجته، فلم يفلح، وحاولت هي أن تنظر الى وجهه لكنها لم تفعل ... اذ لمحت رأسه بطرف عينها وهو يمتد الى صوره ولدهما "علي" التي علقها على الحائط بعد أن كبرها ووضع عليها شريطا أسود ... فخفضت عينيها اللتين اعتادتا الوجوم والصمت وتمتمت:
- سترك يا مولاي العقل.
ثم سمعت صوته المتهدج وهو يسألها :
- هل من جديد؟
- لا شيء ... ثم تذكرت أنها لا تستطيع أن تكذب، وإلا فهي طالق ... وبعد تردد تابعت كلامها :
- الجماعة مسافرون.
- الى أين؟
- ا... الى ... حيفا.
- متى...
- غدا.
- من قال لك؟
- أم سعيد.
- متى؟
- اليوم في الصباح .. قالت وهي قاعدة على عتبه بيتها ..
- ماذا قالت ...
- الجماعه مسافرون .. قولي لزوجك ، ان رجع اليوم.
وصمت أبو علي ...
وأحست هي باصطكاك أسنانه فصمتت وأنهت عملها بسرعة وتراجعت بالطشت الى المطبخ، ثم رجعت بخرقة ونشفت الماء عن رجليه وتركته يتمدد على السرير ليستريح وعادت الى المطبخ لتحضر له الطعام.


كل شيء صامت، الطريق ملتوية، تغمرها جدران البيوت سوداء مظلمة، فتبدو عميقة كامتداد لفوهة خندق عميق.
بل يخيل اليه أنها اشجار كبيرة هذه التي تخيم عليها من الجانبين وينبعث منها حفيف هادئ .. لكنها لا تتلوى كأشجار الغابه .. انها منتصةه كأشباح قاتمة، وتميل فوقه حتى لتكاد لا تبقى له مسافة ينصب فيها قامته.
لذلك فهو يتسلل بينها متثاقلا محني الظهر. انه يشعر بحمل ثقيل على ظهره، شيء ثقيل جدا يضغط على رقبته فتغوص قدمه في تراب الطريق .. ثم تغوص الساق حتى نصفها ..لكنه ينتزعها وينتزع الساق الاخرى وهو يحاول السير ... ينتزعها واحدة بعد الاخرى ويسرع .. خطوة خطوة الى الامام .. كأن شيئا يسابقه .. عليه أن يسرع .. الا انه لا يستطيع، كلما تقدم خطوه يحس انه انه يبتعد الى الوراء ويزداد التواء الطريق وانعطافها.
ثم ينفتح باب امامه من الناحية اليسرى للطريق ولا ينبعث منه نور ، ويقف امامه شبح عجوز محنية مصحوبة بفحيح بارد، ثم تلتفت اليه وتجمد ملامحها وتشير اليه بعصاها الغليظة السوداء ولا تتكلم.
يشعر بشوق عظيم للاسراع اليها رغم أن مفاصله انحلت من الخوف لمرآها .. ويغمره احساس من يلقي نفسه في جحيم المعركة فيدفعه الرعب الى مزيد من المغامره ... تتخلص ساقاه من التراب ويخف وزنه فيسرع أكثر ... يحاول أن يركض فلا تتحرك رجلاه لكنه يسرع يسرع كالريح في الطريق ويلتوي مع المنعطفات وهو محني الظهر .. خوف أن يصدمه شيء في رأسه.
ولكنه لا يصل، أحس بشوق الى الشبح ليسأله عن شيء ... ولكن غمره شعور بالتفاهة والقصور .. ووقف ليتدبر ما يمكن عمله .. حاول أن يصرخ به لينتظر، فلم يستطع .. ثم رفع رأسه وانتصب .. لم يصتدم بشيء، كأنما قد وصل الى فسحه من الطريق ثم خفت قدماه ... وانزلق بسرعه نحو الشبح .. أراد أن يسأله ... لكنه نسي، وكلمح البصر كاد يعبره دون أن يتمكن من سؤاله .. ولا حتى من الوقوف .. وكانت عيناه تبحثان في وجهه.
لعل العجوز فهمت ما أراد فأشارت اليه بحاجبيها الكثيفين وبانت أسنانها البيضاء الطويلة جدا فأحس بالهلع وانتصب شعر بدنه وعرته قشعريره، ابتعد عن المكان، واذا به في ساحة واسعة خالية من كل شيء يعمها الهدوء والبرد.
... انكمش في زاوية قرب الجدار، وقد جمد الدم في عروقه وحاول أن يستعيد أنفاسه..
الهدوء حوله مريح، السماء داكنه لكنها بعيدة من رأسه، جدران البيوت واطئه، لا تمنع بصره عن الامتداد في الظلام الى البعيد... والعجوز الشمطاء دخلت البيت، لا بد أنها أنهت عملها ورجعت لتنام، لقد هاله بريق عينيها والتماع أسنانها، وأطارت قلبه حركة عكازها الغليظة السوداء.
آه كم يكرهها، لكن لا بد من الاستفاده من فحيحها.
تنفس عميقا وحدق في الظلام، أراد أن يخترقه بعينيه ... لم ير شيئا. فتحسس سلاحه تحت معطفه .. أخرجه بهدرء وقبض عليه بكلتا يديه. وقال في نفسه:
- لا أحد يعرف ماذا سيحدث اليوم ...
وأحس بأنه سيستطيع أن يخرج الاسفنجة التي تلتف حول رئتيه.


علي يضحك .. يضحك .. يضحك .. سيذهب غدا الى المدرسة الى الصف البستان. ها هو يلبس ثيابه الجديدة ويضع حافظته على كتفه ويضحك، إنه مسرور يقفز على عنق أمه يقبلها ثم يركض اليه.
آه لم ينجح في امتحان الثوامن ولهذا غضب عليه ولم يرسله الى المدرسة الثانوية .. لقد قال أخوه حسين يومها انه المسؤول عنه لانه أراد أن يكون رجلا وليس طالب مدرسه.
... الحاره مليئه بالضجيج الناس يركضون .. صوت علي يجلجل .. يشتم .. يهدد .. وهو ممتد امام الدار قبيل المغرب بعد أن رجع من الوظيفة .. وينتظر وصوله لكي يسأله ماذا حصل.
... لقد التقى بخمسه منهم في الباص فتحرش بهم وشتمهم وأهانهم .. وعندما نزل الركاب في الساحة لم يجرؤوا على فتح أفواههم.
... الظلام ينقشع، الهواء نسيم، القمر لا يبدو، لكن نوره يملأ كل مكان. والقرية تتحرك بأنس وحياة، وشارباه كبيران رأسه مرفوع، والعيون تنظر اليه باحترام ... الاقارب يدخلون بيته، يخرجون، يمشون في الشوارع، يملأونها، والدنيا تبتسم وكل شيء سهل بسيط .. فقط الوظيفة تخنقه ...
علي لن يكون شرطيا مثله في حرس الحدود ... سيكون ضابطا ... آه ... ليته تعلم ليكون ذلك أسهل.
... سيزوجه قبل أن يجند ليكون له بيت، بارك الله في الذي يخرج منه بيت.
الشارع يغص بالرجال كلهم صامتون .. يحاول أن يصرخ بهم ليرفعوا أصواتهم .. انه عرس علي لا بد من الغناء.
- حوربوا يا شباب .. ما لكم ..
ولكن صوته لا يتعدى شفتيه حتى يذوب في الهواء ... فيشير لهم بيديه ورأسه وجسمه: أن يصفقوا ... أخرجوا أصواتكم.
ولكن الجموع صامتة كسيره وزوجته تبكي تولول ...
وعلي .. أين العريس ... آه .. حسرتاه عليك ... مضرج بالدم. ملقى على الشارع، لقد قتل بالرصاص..
وشد أبو علي سلاحه وحملق في الظلام.
أشباح سوداء تقترب في الطرف الاخر للساحة ... لا بد لا بد .. انهم يقتربون.
علا الدم الى رأسه .. لم يعد يرى شيئا سوى وجوه ... وجوه تقترب متسانده بعضها ببعض..
السلاح في يده ... يصوبه ... الوجوه تقترب .
- أين الفوهة؟
يحاول أن يصوب ويفتش عن الزناد ... يتحسس ولا يهتدي ان " الاوزه" ملساء.
- الله يا رب .. يا خضر !
يضعها مره اخرى على كتفه.
- ما هذا ..
كأنها قشة .. قشة خفيفة..
وتقترب الوجوه منه متسانده .. تقترب تكاد تصل اليه .. فيحس بالرعب الشديد.
وفجأه تخترق أذنيه صيحه ابنه علوان وهو يبكي فينهض كالمجنون وينطلق نحو الباب حافيا بينما تتبعه أم علي وهي تقول :
- يا ستار .. يا ستار .. ما لك ما لعلوان ..
واقترب علوان من أبيه وهو يولول :
- ضربني ابن عمي حسن
هدأت أعصاب أبو علي واسترجع انفاسه فسأله:
- تعال .. قرّب .. لماذا ضربك؟
- قال لي اضرب على دار الجماعه حجرا ..
وصمت الصغير .. وأنزل رأسه الى الارض خجلا أمام أبيه فأحس أبو علي لاول مره من سنين بالعطف والحنو فانحنى على ولده ومسح دموعه بكفه، ثم جره من يده ودخل به وراء أم علي التي قادتهم بدون كلام الى المطبخ حيث كان الطعام جاهزا. وقبل ان يبسملوا ايذانا بالبدء بالاكل .. تنحنحت أم علي .. ثم قالت بصوت متهدج:
- الباري يفرجها .. الله يكبر العقول.

 

نشرت في "ظل الصوت" 1977.



 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !