من الطبيعي أن يصعَد النّفَس وينزلُ في القصبة الهوائية للإنسان ويستمرّ في هذا العمل دونَ توقّف منذ أن ينفخَ الله الروح في الجنين وهو ببطن أمّه حتى يأذن بخروج تلك الروح في موعد الوفاة،غيرَ أنّ هذا النّسَق قد يتعرّض لشيءٍ غيرُ مُعتاد في الأصل ويتسارعُ ذلك الهواء خروجاً أو استنشاقاً ليُصدِرَ صوتاً تضطّربُ له الرئتان ويستجيبُ لها الجهاز التنفسي وتتحّرّك منها كافّة أعضاء الجسد ..
هذه الرّحلة الموصلة "للفوَاق" مُزعجةٌ جدّاً ويتبيّن منها مدى صير الإنسان على الأمور غير العاديّة التي لا تستأذن قبل أن تأتي ولا تعرفُ وقتاً معيّناً ليستعدّ الواحد منّا لها بشيءٍ من الجلَد أو التّحايل،وارتفاعُ الصّوت بهذه الحادثة الطارئة أثناء تواجد الفرد مع مجموعة من الأشخاص ينظرونَ إليه نظرة إكبار وإجلال تُوقِعه في إحراجٍ لا يستطيع الفكاكَ منه سوى بقلبِ الموضوع مُزاحاً أو روحاً رياضيّة المعايير ..
وعلى اختلاف التّسميات المحلّية والدوليّة لهذا الشيء المشترك بين العالمين في كلّ أقطار الدنيا لا نستطيع أن نُنكر بأنّنا مدهشون تجاههُ بقليلٍ من التوقّف عند أبعادٍ قد لا تصبّ في نفس الظاهرة طبّيّاً وعلميّاً بقدر ما تسبُرُ أغوار الناحيتين اللفظيّة والمعنويّة للحظات هَيَجان الهواء داخِلنا ..
فأهل الشام ومن شاركَهم في قريبٍ من لهجتِهم يطلقون على هذه الحالة "الحازوقة" لما فيها من معنى التضييق على النّفَس وحزْقِ جوانبه عن المرور إلا من خلال شَهْقِة مُحرجة،ويترادق نفس الاسم في حواضر عربيّة أخرى ليقولون عنها "الحزَق" و "الحزْقَة" و "الحزاق" و "التّحزيق" مستخدمين ذات المعنى الأصلي المتمثّل في مؤدّى حروف الحاء والزاي والقاف ..
وأهل الحجاز بلهجتهم الخفيفة الدراميّة يسمّونها "الفُهّيقَة" مستمدّين هذا المصطلح من الاسم العربي الأصلي "الفواق" مضيفين له حرف الخاء الذي هو من أشهر حروف الهواء عُمقاً في المجرى التنفّسي،وأمّا أهل مصر فالأمر عندَهم مرتبطٌ بالأكل والنّفس معاً بإضافة قليل من الماء لينتُجَ عن ذلك اسمٌ جميل هو "الزُّغُطّة" التي عندَ سماع اسمها لا شكّ يتذكّر الواحد منّا علاقة "تزغيط" البطّ والدّجاج في عالم "الفلاحين" بمصر ..
وفي الغرب العربي من يُسمّيها "الشُّهيقة" متماثيلن في وزن الكلمة مع أهل الحجاز مستبدلين الفاء بالشّين،والموريتانيّون مثل غيرهم استنطقوا الفعل ونادوها "الهِقِّيّة" بلغتهم الدارجة،ولعلّ عرباً آخرين تعدّدت تسمياتهم لها ابتداءً من "أبو فهاق" و "أبو فواق" و "الزقزوقة" وغير ذلك من التراكيب اللغوية التي لا تخرج عن الامتداد الطبيعي للحروف عبر القصبة الهوائيّة والحلق وانتهاءً باللسان العاجز عن تحديد مصدر هذه الانقباضات اللاإرادية في الجهاز التنفّسي للإنسان ..
والملاحظة هنا بأنّ العرب دوماً هذا هو ديدنهم مع الظواهر التي لا يعرفون لها أسباباً أو مع الحوادث التي لم يستعدّوا لوقوعها مع أنّها تحدث وتتكرّرُ أمامهم يوميّا ويشاهدونها،فهم يختلفون في تسميتها مع أنهم متفقين في أخذ حروف التسمية من الصوت الذي يصدره الإنسان عندما تحدث له هذه الحادثة،ومن ينظر للقاف المتكرّر في كل المصطلحات السابقة يعرفُ بأنّ العرب يشتركون في الركن الأساسي لكلّ تصوّر يحملونه نحو أيّ أمر لكنّهم جُبلوا على حبّ الاختلاف في التفاصيل التي تودي بهم لنسيان أصل المشكلة ..
ورغم ضعف معلوماتي العلمية في جسم الإنسان إلا أنني أعتقد بأنّ الانقباضات السريعة في الحجاب الحاجز نتيجة أمرٍ غير اعتيادي حصلَ في برمجة النّفَس داخل القنوات الهوائيّة هو ما يجعل العضلات تصدر هذا الإنذار المبكّر وكأنّه احتجاجٌ على خطأ في التعامل مع الطبيعة،ولذلك فكلّ ما يصيبُ المجتمعات العربيّة يوماً بعدَ يوم إنما هو "فواق" يعتري قنواتهم الداخليّة لم يعرفوا لها حلاً سوى اختلافٍ في التسمية تبِعَهُ اختلافٌ في العلاج والتخدير والانتظار لحين انقشاع الغُمّة ..
تُصيبُ "الحازوقة" الأطفال الرّضع غالباً ويلاحظ الأمهات ذلك الأمر الذي يُعطيهنّ معلومة بأنّ فطرة الأطفال وسلوكيّاتهم الغذائيّة المولودة معهم لم تقبل بتصرّف أرعن من مرضعة أو أمّ لمّا تتعوّد على تغذية سليمة لطفلها الذي كانَ يعيشُ حياةً هانئة في الرّحم وخرج للدنيا ليواجهَ "فواقاً" من بداية حياته،وهكذا هي المجتمعات حولنا تولدُ في حلّة جميلة ما تلبثُ أن تتعرّض لهذه الاضطرابات العضلية في عقر ثقافتها واقتصادها لتذكّر المفكرين بأنّ انحرافاً حصلَ في التنفيذ ولكنّ أهل الرأي والحلّ والعقد يعتبرونَ الاضطرابات العصبيّة للسلوك المجتمعي ظاهرة صحية تثبتُ بأنّ بعد الجعجعة طحينٌ ..
إنّ النصّ اللاتيني للفواق " hiccuped" يوحي لنا بأنّ مثل هذه الإسقاطات لها ما يبرّرها حينَ تكونُ الأمور غيرُ مفهومة عندَ الإنسان وما عليه وقتها سوى الانتظار مع مراعاة اليقين الجازم بأنّه ارتكبَ خطأ ما لأنّ القاعدة العقليّة تقول "بأنّ لكلّ ظاهرةٍ سبباً" فكيفَ يغفل العقل عن "حازوقة" المناخ الأخيرة التي اجتمعَ لها العالم بأسره وتظاهر بشأنها كثيرٌ ممّن استوعبوا خطر انقباضات الحجاب الحاجز بيننا في الكون وبينَ خطورة ارتفاع درجة حرارة الأرض بأفعالنا،"وحَوازق" الدنيا الكبيرة تستمرّ بمعيار العدد الزمني المناسب لمساحة الأرض مقابلة بالمساحة التي يشغلها الإنسان من حيّزٍ في الوجود،وعليكَ الحساب ..
ونتذكّر بأنّه عندما ساءَ التعامل مع الأديان والأيدلوجيّات بفعلِ الإنسان أيضاً ظهرَت "حازوقة" الغلوّ في المعتقدات لتنذَرَ الناس بأنّ شرّاً قريباً قد بزغَ إن هم تركوا السبب وانشغلوا بالعوارض،وهذا ما حدَثَ بالفعل ظلّت هذه الانقباضات السريعة تتوالى دونَ علاجٍ جذري سوى تهدئة وحجبٍ وإنكار حتى جاءت "الحازوقة" الكبرى التي سُمّيت "الإرهاب" وركبَها الكلّ ولا يزالون وهم لا يعرفون إلى أين المصير ..
ولو أُعيدَتْ الأمور إلى نصابها في مجال الأخلاق وتوزيع الأدوار بين كلّ أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم غنيّهم وفقيرهم وجاهلهم ومتعلّمهم لرأينا انسياباً منقطع النظير في تنفّس المجتمعات وارتياحاً لائقاً بمن يعرفونَ بأنّ "حوازق" المصائب أعظم خطراً من المصائب نفسها ..
ومثلما اختلف العربُ في إطلاق اسمٍ مناسبٍ على انقباضات تصيبُ الحجاب الحاجز نراهم أيضاً تباينت ردودُ أفعالهم حيالَ "فواقٍ" اعترى العالم العربيّ بأسره رغم مرضه المزمن وقلّة حيلته الأصيلة،فارتعاش الدّول العربيّة بين الفينة والأخرى كلّما دقَّ كوزٌ جرّةً في مدريد أو لندن أو طوكيو بل وحتى في سدني يثبتُ بأنّ "الحازوقة" الاقتصاديّة قد تستمرّ لحينِ اتفاقٍ عربيّ متين ومراقبة عربيّة صارمة تفتحُ الحدود وتحترم الإنسان وتُعطي الظواهر والمظاهر والطوارئ حقّها من الدراسة والتحليل والقرار ..
أستطيعُ أن أقول في "فهّيقة" العالم العربي بأنّ الحجاب الحاجز له هو الدول الفقيرة المنسيّة،والقنوات التنفّسيّة له هو علاقته مع بعضه البعض كمجموعة اقتصاديّة ثقافيّة واحدة بدون موانع سفر ولا تأشيرات سفارات،والهواء الذي يتنفّسه هو الدين والاعتقاد بأنّ الله موجود،وشهيقُه هو ما يملكه من ثروات وزفيرُه هو ما ينتجه من منتجات،والعمليّة كلّها هي خروجٌ من مأزق "الحازوقة" بأقل الخسائر ..
التعليقات (0)