الجودة.. في واقعنا المعاش
خليل الفزيع
ملتقيات الجودة تعيد إلى الأذهان تلك القيم الأصيلة التي أتى بها الإسلام ليقلب وجه الحياة، من جاهلية التناحر وحروب الثأر والعصبية المقيتة، إلى ظلال التآخي بين المسلمين والتحذير من تلك الفتن التي كانت شبه مستديمة بين العرب، ومع تشديد الإسلام على نبذ التناحر وتجنب أسباب الفتن، ألا أن بعض المسلمين بعد أن تخلوا عن مقاييس الجودة في المعتقد والسلوك، لم يلبثوا أن أعادوا الأمة إلى ذلك التناحر قبيل نهاية الخلافة الراشدة، بعد أن لعب المنافقون دورهم القذر في إثارة تلك الفتن التي ذهب ضحيتها نخبة من الصحابة والتابعين، وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعداد غفيرة من المسلمين، وظلت تعاليم الدين الحنيف ملاذا لكل من أراد جمع كلمة المسلمين على الحق، ومرجعا لكل من أراد أن يتفيأ بالألفة والمحبة والتآخي.
والجودة بمعناها العام هي محاولة بلوغ الكمال في الأقوال أو الأفعال، وهي لا تتحقق لمجرد الأماني بل بالجهد المؤدي إلى ما يمكن بلوغه من مستويات الجودة حسب الجهد المبذول وحسب وضوح الهدف المراد الوصول إليه، وجودة الأحاديث والأقوال لا تنفصل عم جودة المواقف والأفعال، فكلاهما مرتبط بالآخر، والمرجعية الإسلامية تحث على الجودة في الإقوال والأفعال، لأن التخلي عنها يعني الجنوح إلى ما لا تحمد عقباه، مما يقود الأمة إلى الفشل في مساعيها، والتعود على الانهزام وقبول ما هو أدنى بدل الطموح إلى ما هو أفضل.، ومما جاء في لسان العرب عن الجودة: (وجاد الشيء أي صار جيِّداً، وأَجدت الشيءَ فجاد، والتَّجويد مثله. ويقال: هذا شيء جَيِّدٌ بَيِّن الجُودة والجَوْدة. وقد جاد جَوْدة وأَجاد: أَتى بالجَيِّد من القول أَو الفعل. ويقال: أَجاد فلان في عمله وأَجْوَد وجاد عمله يَجود جَوْدة، وجُدْت له بالمال جُوداً).
ومن المؤسف أن هناك من يدعو إلى الجودة في الإنتاج، ويكتفي بهذه الدعوة دون أن يقدم على العمل بها، فتراه في عمله أقل جودة من غيره، ومع ذلك فهو يقيم الدنيا ولا يقعدها وهو يتحدث عن الجودة، وأهمية تحقيقها، ولا أعرف بأي معيار ينظر إلى الجودة ما دام إيمانه بها مقتصرا على الكلام، وقاصرا عن التنفيذ.
إن الجودة خيار استراتيجي على المستوى الإنتاجي، لكنها أيضا خيار إنساني على مستوى العلاقات بين الناس، بل وبين الإنسان ونفسه، خاصة إذا قادته هذه النفس الأمارة بالسوء إلى ارتكاب ليس ما يتناقض مع الجودة فقط، ولكن مع السلوك السوي أيضا، فلا جودة في السلوك إذا تناقض مع الفضيلة، وإذا تعارض مع مصالح الآخرين، هكذا علمنا الإسلام أن نكون على خلق عظيم في حياتنا الخاصة والعامة ما أمكن إلى ذلك سبيلا، فالجودة في العلاقات مع الآخرين ومثلها الجودة في العمل، هما وجهان لعملة واحدة، فأنت لا ترى إنسانا سويا تنطوي نفسه على التناقض ما بين جودة السلوك وجودة العمل، وإلا فإن ذلك يعني أن ثمة خلل ينتاب نفسه التي تظهره بوجهين مختلفين، مما يعني عدم الانسجام مع النفس، وعدم التصالح مع الذات.
نتحدث عن الجودة كثيرا، والأولى أن تكون الجودة هدفا نسعى إليه، وغاية نعمل على تحقيقها، واستيراتيجية واضحة لا موانع تحول دون تحقيقها وفق مراحل محددة تفضي في النهاية إلى جودة العمل المؤدي حتما إلى جودة الإنتاج، على مستوى الفرد في بيته وفي مجتمعه وفي وطنه، بما يعنيه ذلك من انضباط في السلوك، وتجنب كل ما يسيء للغير، والحفاظ على الأمانات المعنوية والمادية، دون التهرب منها، أو التحايل عليها للخروج بمكاسب شخصية تتعارض مع مصالح الآخرين، وليس من الجودة في السلوك أن يكون الإنسان أنانيا يحمل شعار: أنا وبعدي الطوفان، وليس من الجودة في العمل، التردي في الإنتاج، واستغلال الوظيفة لتحقيق مكاسب خاصة، والانحراف بشرف المهنة من أجل فلان أو علان من الناس، عندما يتم تجاوز الأنظمة، واختراقها من قبل المتنفذين وأصحاب السلطة.
إن الجودة سلوك يتصرف خلاله الأنسان وفق معايير أخلاقية حددها الدين الحنيف، قبل أن يكون شعارا يرفع في المناسبات، وإذا كان ولا بد من هذه المناسبات فلتكن للتذكير بما تعنية الجودة من عمل مثمر في سبيل مصلحة الفرد والجماعة، وفي كل مجال يسهم فيه الإنسان بجهده، في جميع شئون الحياة.
التعليقات (0)