الجهل المقدس !
بقلم: سلمان عبدالأعلى
عند الحديث عن الجهل أو الجاهلين عادة ما يتطرق المتحدثون لأنواعه، حيث يقسمونه إلى قسمين كما هو الشائع: جهل بسيط وجهل مركب، ويقولون في مقام التمييز والتفرقة بينهما بأن الجهل البسيط هو أن يجهل الإنسان أمراً وهو يعلم بجهله به، أما الجهل المركب فهو أن يجهل الإنسان أمراً ولكنه لا يعلم بجهله به (يجهل بأنه جاهل)، ولهذا قيل بأن الجهل المركب هو أسوأ أنواع الجهل.
أما مؤخراً فلم تعد هذه التقسيمات هي الوحيدة للجهل، فلقد ابتكر المفكر الفرنسي أوليفييه روا مصطلحاً جديداً، وهو ما أسماه ((بالجهل المُقدس))، وأعتقد بأن هذا المصطلح سيكون منافساً قوياً للمصطلحات التقليدية المستخدمة.
ولكن هل صحيح أنه يُوجد جهل مقدس؟ وهل هناك إنساناً عاقلاً يُقدس الجهل؟ !!
ربما يستبعد البعض وجود هذا النوع من الجهل خصوصاً في نفسه، ولكن مع ذلك نستطيع أن نقول بأن هناك الكثير في مجتمعاتنا يقدسون الجهل ويتباهون به، وإن كانوا غير واعين أو غير مدركين لذلك، فهم يقدسون الجهل ويتفاخرون به، وكأنه شهادة أو وسام شرف يستحق الفخر أو التبختر به على الأقران، وكثيراً ما نسمع بعضهم يلهج لسانه بكلمة: (أنا جاهل .. أنا جاهل) وهو في غاية الرضا والسرور، في مشهد يوحي للسامع بأن الجهل أصبح ميزة تستحق الاحترام والتقدير وليس نقصاً أو عيباً.
قد يظن البعض بأن في هذه الكلمات من المبالغة الشيء الكثير، ولكن هذا ليس صحيحاً، ويكفي للتدليل على صحتها النظر إلى مواقف الناس في بعض الأمور ذات الارتباط الديني أو الاجتماعي، فالجهل المقدس يزداد بروزاً على الساحة كلما اقتربنا من مناقشة الأمور التي تتعلق بالعادات والتقاليد (المألوفات) الاجتماعية أو الدينية، فالبعض يرفض أن يكون له رأي مستقل فيها أو حتى تساؤل بسيط حولها، بحجة أنه جاهل ولا يحق له أن يقيمها أو أن يفكر فيها، بل عليه أن يأخذ مواقفه -المتعلقة بها- جاهزة من غيره (من بعض رجال الدين مثلاً).
فعندما يُثار حول شخص أنه منحرف أو ضال أو علماني أو متأثر بالغرب أياً كان نوع التهم المنسوبة له، نرى البعض لا يحاول الإطلاع على ما قاله هذا الشخص من خلال كتاباته أو تصريحاته، وإنما يكتفي بأخذ رأي بعض رجال الدين حوله، فإذا قالوا له هو هكذا، أصبح كما قالوا دون أن يكلف نفسه الإطلاع على ما قاله الشخص نفسه، وإذا سألته لماذا تتبنى هذا الموقف من هذا الشخص مع أنك لم تطلع على ما قاله، فسيقول لك وبكل ثقة: أنا جاهل، لذا فقد أخذت هذا الكلام أو هذا الرأي من رجل الدين الفلاني أو من الثقاة أو من المطلعين على موضوعه.
ويا ليته يغلق فمه ولا يتكلم لاعترافه بجهله وقصوره، ولكننا نراه على العكس من ذلك، يناطح في سبيل إثبات ما تبناه من مواقف وآراء أخذها جاهزة من غيره.
والمشكلة هنا ليست في الجهل وحده، وإنما في الحرص على الاستمرار فيه والتمسك به، فإذا كان الإنسان جاهل بقضية معينة، فما المانع من إطلاعه عليها لينهي جهله بها، ولكن ما نجده من بعضهم أنه يرفض الإطلاع ويفضل البقاء جاهلاً، فهو حريص كل الحرص على المحافظة على جهله، وكأنه يحافظ بذلك على ثروة قيمة لا تقدر بثمن، ((ثروة الجهل .. وما أدراك ما هي؟!!)) .
ولهذا نرى الكثير من الناس يقدسون الجهل من حيث يشعرون أو لا يشعرون، لأنهم مُلتزمون ومُقتنعون بأنهم لا يحق لهم الاعتراض أو الاستنكار أو حتى التساؤل على ما يثار في الساحة الدينية أو الاجتماعية من مسائل وقضايا (حتى وإن كانت بسيطة)، بل إنهم يعتقدون أحياناً بأنه لا يحق لهم حتى مجرد التفكير فيها، وكل ذلك لأنهم جاهلون ويُخاف عليهم من التأثر بالمنحرفين.
للأسف بأن هناك من يدعم ويشجع مثل هذا التفكير الساذج ويبث في الناس ثقافة الجهل المقدس، وبالخصوص بعض القيادات الدينية والاجتماعية، فكثيراً ما نجد هؤلاء يحرصون على أن لا يفكر الناس إلا في الأمور التي يريدونهم أن يفكروا فيها، لأنهم أقنعوا الناس بأنهم جاهلون فعليهم أن يلتزموا الصمت أو أن ينتظروا الإشارة منهم ليحددوا بعدها مواقفهم والمطلوب منهم.
وكثيراً ما سمعنا بعضهم – أي رجال الدين- وهم يخاطبون الناس بقولهم: أنتم جاهلون فلا تتدخلوا في أمور الدين.. أنتم جاهلون فلا تقيموا ولا تستنكروا على رجال الدين.. أنتم جاهلون فلا تطلعوا على الكتابات الأخرى، فهذا الكاتب علماني أو متأثر بالغرب وذاك ضال ومضل، وغيره مشكك ومنحرف، فلأنتكم جاهلون فلا تقرءوا لهم ولا تطلعوا على آرائهم، وذلك حتى لا تتأثروا بها أو بهم.
وهكذا دائماً ما نجدهم يحذرون من هؤلاء دون أن يشجعوا الناس على الإطلاع وزيادة رصيدهم العلمي والمعرفي، وكأنهم بذلك يريدون أن يبقى الناس جاهلين وساذجين، ولهذا قد لا نكون مبالغين لو قلنا بأن كثيراً من خطاباتهم تشجع الجهل وتدعوا لتقديسه بدلاً من محاربته والانتفاضة عليه.
وللأسف بأن هناك من يتأثر ويلتزم بمثل هذا الكلام، بل ويتفاخر بتنفيذه، ولذلك نراه جامداً وخاملاً لا يقرأ ولا يطلع على شيء إلا إذا أخذ الموافقة من أسياده (بعض رجال الدين) وكل ذلك خوفاً من التأثر بالفكر المنحرف (العلماني، الغربي، الضال، المضل، المشكك، المنحرف ...)، ولا يكتفي هو بذلك فقط، وإنما نراه يطالب غيره أيضاً أن يقتنع بأنه جاهل مثله، وبأن عليه أن يبقى على جهله ويحافظ عليه لكي لا ينحرف أو يضل.
وبهذا نجد الكثير يقدس الجهل ولا يحاول الانتفاضة في وجهه من خلال المزيد من المعرفة والإطلاع والتأمل، وإنما اعتاد أو هكذا يريد أن تصله الآراء والمواقف جاهزة وإن كان بمقدوره أن يحصلها أو يدركها بنفسه، لأنه يفضل هذا أو لأنه يعتقد بأن هذا هو الصواب، وكل ذلك بحجة الجهل وعدم العلم.
والمشكلة أنه لا يرى في هذا عيباً أو نقصاً، وإنما يرى العيب فيمن يحاول الإطلاع والمعرفة والتأمل، فهو يرى نفسه جاهلاً ويقدس جهله، ويطالب غيره أيضاً أن ينظر لنفسه مثلما ينظر هو أو يكون مثله أيضاً في المحافظة على جهله وعدم إطلاعه، (وذلك خوفاً على الإيمان من التزعزع)، وهنا تكمن المصيبة .. فيا للهول !
لذا علينا مسؤولية كبيرة لكي ننفض غبار الجهل من عقول مجتمعاتنا، التي تقدس الجهل وتشجعه، وكأنه يستحق كل هذا، والغريب أننا نرفض تقديس العلم والنظريات العلمية لأن كثيراً منها اكتشف فيها الخطأ بعد فترة، ولكننا مع ذلك نتقبل وبرحابة صدر تقديس الجهل، وننسبه ذلك أحياناً للدين بحجة المحافظة على الإيمان والتقوى.
ولكن ماذا نصنع وأبو جهل وأم جهل وأخو جهل وابن جهل وصاحب الجهل لا زالوا يعيشون بيننا ويسيطرون على عقولنا طريقة تفكيرنا؟ !!
التعليقات (0)