الجهل المركـَّب
الجهل المركَّـب هو : الجهل بالجهل. أي عدم إدراك الجاهل لجهله، وهو أخطر أشكال الجهل على الإطلاق.
أنا اتفق مع عدد كبير من المفكرين العرب بأن معظم المشاكل والنكبات التي ما برحت تصيب الأمة العربية، سببها الرئيسي هو "التخلف" عن ركب الحضارة الصاعدة بسرعة هائلة. ومن هؤلاء المفكرين هشام شرابي وقسطنطين زريق ومحمد عابد الجابري وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود، ومحمد أركون وغيرهم. ولكنني أؤكد أن هذا التخلف ليس متأصلا في الذات العربية بل هو مكتسب من الظروف التي مرت على الأمة خصوصا خلال الستة قرون الماضية . ولكن الإشكالية الأكبر هي أن العرب بوجه عام لا يدركون " تخلفهم". ولهذا يدخلون في مأزق هائل يصعب الخروج منه.
كتبتُ هذه المادة منذ أكثر من إثنتي عشرة سنة. وما يزال مغزاها قائما.
واقعية تخلفنا
علاء الدين الأعرجي
الأزمة التي يعيشها الوطن العربي قد تكون حاسمة في اتجاهين، أولهما هو الراجح، في أسوأ الظروف ، وهي الظروف التي تكاد تكون سائدة في هذه المرحلة، التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي ، واستمرت في التدهور حتى وصلنا إلى كوارث فلسطين ولبنان والخليج والعراق، وثانيهما هو المرجوح، في أفضل الظروف، وهي الظروف التي قد تعتبر مثالية وبعيدة المنال، لو توفرت شروط معينة لعل من أهمها: تغيير طريقة التفكير، وإعادة النظر في المفاهيم والرؤى، واعتماد حرية الفكر والتعبير، والتحرر من الخوف من مجرد التهمة أو الصبغة، وتحدي الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتوفر طبقة من المثقفين الواعين الذين يشعرون بمسؤوليتهم إزاء جماهير أمتهم، يؤمنون بالعلم طريقا للتقدم، ويعالجون القضايا المطروحة بمنهجية علمية موضوعية، لا يستحون من نقد الذات ولا يتهيبون تناول أشد الموضوعات حساسية، وهذه شروط قد يصعب تحققها في الوطن العربي على المدى المنظور على الأقل.
وهكذا فإن الاتجاه الراجح، ونعني به الاتجاه الذي يتبعه التيار العام للشعب العربي ومعظم قياداته السياسية وربما الفكرية، يدل على أننا سنواصل الانحدار نحو الهاوية، ما لم تحدث شبه معجزة ورغم كل الجهود اليائسة المبذولة. فمن جهة، ينبغي أن نراقب ونتفهم عمق وسعة الهوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية التي تفصل عن العالم المتقدم والتي تزداد اتساعا في كل يوم وساعة. فإن هذه الفجوة لم تكن بهذا الاتساع والعمق عندما شرعنا بمجابهة الغزو الحضاري الغربي لأول مرة منذ مطلع القرن التاسع عشر. وحتى لو سلمنا جدلا بأننا قطعنا بعض الأشواط في التقدم في بعض المجالات فإن سرعة هذا التقدم ووتيرته تظل تعتبر في حالة تباطؤ بالمقارنة مع سرعة ووتيرة التقدم العلمي والثقافي الذي تحقق خلال نفس الفترة الزمنية في البلدان المتقدمة النمو.
وقد يجوز تشبيه سرعة تقدمنا وتقدمهم بالمقارنة بين سرعة حركة الجمل أو الحمار، وسرعة حركة السيارة أو الطائرة، لذلك فإن الفجوة بيننا وبينهم تظل في حالة اتساع متزايد في كل لحظة، مما يزيد من واقعية التخلف ، وبالتالي الهيمنة الاقتصادية والثقافية التي يفرضها الآخر، وحتمية تقبلها واجتراعها. وللتدليل على ازدياد سعة هذه الشقة وعمقها وتأثير ذلك على زيادة تدهور واقعنا المعاصر ينبغي أن نلاحظ ونقارن بين أوضاعنا السياسية والاجتماعية والثقافية في منتصف القرن الماضي، وأوضاعنا تلك في مطلع القرن الحادي والعشرين، وما رافق هذا الواقع المتردي من الهيمنة المباشرة، من خلال استقرار الجيوش الأجنبية والقواعد العسكرية، في قلب وطننا، وحتلال العراق، وفرض شروط الصلح المهينة على الشعب العربي الفلسطيني باعتباره الطرف المهزوم بحق. وعلى الصعيد غير المباشر، ما يتعرض له الشعب العربي من غزو ثقافي ودعائي. كما نلاحظ اتساع هذه الشقة، وبالتالي زيادة التخلف، حتى على الصعيد الاقتصادي وخلال العقد الأخير فقط على الرغم مما تملكه الأمة العربية من ثروات طبيعية وبشرية. فقد تراجع إجمالي الناتج القومي العربي من نحو 440 مليار دولار في عام 1980 إلى نحو 373 مليارا في عام 1985، ثم تراجع إلى نحو 242 مليار دولار في 1991. ويرجع جزء من هذا التراجع إلى طبيعة التعارض وعدم التكامل في خطط التنمية الاقتصادية القطرية، ومن ثم عدم كفاءة الأداء الاقتصادي العربي. وقد رافق ذلك التراجع إجمالي الناتج القومي العربي انكماش في الصادرات العربية من 7.6 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية إلى نحو 3.2 خلال الفترة 1983-1990 (سالم النجفي، جامعة الموصل، مجلة المستقبل العربي، في 25/7/1996.) {نشرت هذه المقالة أولا، في صحيفة "القدس العربي" لندن، في 1/8/1996، ثم نـُشرت في صحف أخرى، لذلك فإن هذه الأحصاءات أصبحت قديمة نسبيا. ومع ذلك فإن الأحصاءات الأحدث لا تشير إلى أي تقدم يذكر، خصوصا بعد أحداث 11سبتمبر 2001. كما أن تقارير التنمية الإنسانية، التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، خلال الأعوام 2002- 2005، تشير إلى تواصل التخلف الأقتصادي في البلدان العربية لاسيما تلك التي لا تملك ثروات طبيعية كافية، أما البلدان النفطية فإن معظم عائداتها توزع بشكل ريعي، أي غير منتج. وقد توجهت بعض دول الخليج من أمثال دولة الإمارات وقطر والبحرين، إلى الإستثمار التجاري لاسيما في العقارات والمباني الحديثة، ولكنها لم تهتم كثيرا بالصناعات الثقيلة، التي من شأنها إرساء القاعدة الأساسية للاقتصاد القومي. فضلا عن إهمال مسألة التكامل الاقتصادي والتجاري بين مختلف البلدان العربية. الطفرة النفطية الحالية التي رفعت أسعار النفط إلى 140 دولارا للبرميل الواحد ( تموز/ يوليه 2008) قد لا تغير من أصل الإشكالية، ما لم يتغير العقل العربي ، من عقل منفعل الى عقل فاعل. وهذا ما بحثناه في كتاب"ازمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"}
ومن جهة أخرى، فإن هذا التقدم البسيط الذي تحقق في مجال التعليم مثلا وزيادة عدد المتعلمين، ولا أقول المثقفين إلا بتحفظ، لم يدخل إلى العمق بل ظل يراوح في قشرة السطح. فإذا اقتبسنا ما اقتبسنا من الغرب من وسائل الحضارة كاستخدام وسائط الانتقال السريع والاتصالات عبر الحواسيب والأقمار الاصطناعية، فإن هذه وتلك مرهونة بما يسمح به الآخر، لمضاعفة استثماراته وأرباحه في المنطقة، وزيادة هيمنته التكنولوجية والإعلامية (مع ملاحظة أننا قد نتمكن جزئيا، لو شئنا بالإلحاح والاستقصاء، أن نصل إلى بعض المعلومات الأساسية والمفيدة من خلال نفس الوسائط، تلك المعلومات التي تكاد تكون متوفرة على نطاق واسع في مختلف الشبكات المعلوماتية – مثل الإنترنت – إذا أحسن استخدامها وتوظيفها من خلال إنشاء تنظيمات علمية ومعارفية كمؤسسة الموسوعة العربية التي دعونا إلى إنشائها منذ أكثر من عشرة أعوام. أكرر فأقول أن التقدم العلمي لم يدخل العمق بل ظل يتردد على السطح لأن الفرد العربي العادي لم يفقه أو يتفقه أبعاد الحضارة والتقدم العلمي، بل استخدم الطائرة والحواسيب بعقلية تقليدية لا إبداعية، كما أنه لم يستوعب فلسفة ذلك التقدم والحضارة الحديثة، بل ظل مزدوج العقلية، ففي الوقت الذي يستخدم فيه آخر المبتكرات العلمية، يمنع المرأة من قيادة السيارة في بعض البلدان ويؤمن بالقيم العشائرية، ويقتل غسلا للعار حتى عند وجود شبهة أحيانا، خلافا للشريعة الإسلامية. يقول محمد عابد الجابري “فإذا كانت التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة فإن التخلف سيكون هو العلم حين ينفصل عن الثقافة، أو هو الثقافة حين لا يؤسسها العلم، وفي ما يخصنا يمكن القول إنه ما لم نعمل على دمج العلم في ثقافتنا وربط ثقافتنا بالعلم فإننا لن نخطو الخطوة الحقيقية الأولى نحو التنمية” (وجهة نظر، ص 191-1993).
إن العملية الحضارية تقتضي شروطا لا يمكن لأي شخص أن يدعي امتلاك معرفتها بل تطبيقها على شعب عقدته أزماته وتاريخه وموقعه الجغرافي والاقتصادي. ومع ذلك فإن العمل المؤسساتي، أي القائم على مؤسسات ثقافية و/أو اجتماعية و/أو علمية، قد ينجح في قطع بعض الخطوات على طريق التقدم، ولو على المدى البعيد، مما يزيد من احتمالات تحقق المرجوح – التقدم - ، ويقلل من احتمالات تحقق الراجح – التخلف -.
إن قيام مؤسسة موسوعية في المهجر، تجمع أكبر عدد من المثقفين الواعين، والمقدرين لأبعاد الكارثة التي تتردى فيها الأمة في كل يوم، والمدركين لمسؤوليتهم وجدارتهم في تكوين نواة ثقافية وعلمية متطورة، يشكل مشروعا حضاريا رائدا يبدأ في المهجر وينتهي في الوطن الكبير، بل يمد جسورا متراصة بين المثقفين المهجريين وزملائهم في الوطن الأم في كل مرحلة من مراحل تكوينه فيحقق عدة أهداف متكاملة ومتفاعلة.( كنا ندعو في ذلك الوقت إلى هذا المشروع الرائد، وسنتحدث عنه في مقال آخر)
التعليقات (0)