كلها كائنات خفية لعبت دورا بارزا في السيطرة على خيال الجماهير المقهورة وتعليلها للاحداث التي تفلت من سيطرتها والتي يستعصي عليها تفسيرها . كما انها قد استخدمت ومازالت بكثرة لتبرير ما يود الانسان التستر عليه من فضيحة او عيب او تقصيربزعم الوقوع تحت تاثير الجن مما يساعده على الحفاظ على سمعته . هذه الكائنات الخفية تسقط عليها صور انسانية وتقوم مجموعة من الخرافات حول علاقاتها ببني الانسان . فهي تسكن الارض السفلى نهارا لتخرج منها ليلا فتعيث فسادا وغواية . وقد تصاحب بعض الناس او تقوم بينه وبينها علاقات عاطفية وعلاقات حب تصل احيانا حد الزواج او الارغام عليه . زواج انسي من جنية اغرمت به وارغمته على اللحاق بها الى الارض السفلى او هي تاتي لتزوره ليلا منافسة بذلك زوجته وموقعة بينه وبينها الخلاف الذي يصل حد الطلاق . وكذلك زواج انسية من احد رجال الجان . ويتم الامر في الحالتين على شكل غواية وارغام . ويثير دوما مصاعب ومصائب حياتية لمن ابتلي به من بني الانسان ولذلك فهي تثير الخوف دوما كما تثير الشك والحذر . كما قد تقوم بينها وبين بعض بني الانسان علاقات تحالف ضد اعداء معينين . وهي الى ذلك تقيم في مناطق لا يجوز الاقتراب منها او المساس بها لانها تظهر على صاحب المحاولة ليلا فتثير الذعر في نفسه او تؤذيه اذا حاول الاعتداء علي مقرها . ويشيع الكثير من حالات الهلوسة الهذيانية - البصرية السمعية - حول رؤية الجان واللقاء بهم وسماعهم في افراحهم واحزانهم . وما كل ذلك سوى اسقاط لمكنونات النفس اللاواعية وتجسيد لها على شكل كائنات خفية . انها اسقاط لرغباته الدفينة والتي تعرضت لقمع اجتماعي شديد ( رغبة في الطلاق مثلا والزواج من قرين يتمشى من الشخص المرغوب فيه جنسيا تسقط على الجنية مصدر الغواية التي لا تقاوم ) . او هي اسقاط لمخاوف تعتمل في لاوعي المرء ويخشى بروزها الى حيز الوعي ايما خشية نظرا لما تتضمنه من تهديد لمكانته او سمعته او توازنه فلا يجد افضل من تجسيدها من خلال كائن خفي تعترف به الجماعة . ومن الخصائص الهامة لهذا التجسيد تبرئة النفس من كل لوم اجتماعي او ذاتي على ما رغبت فيه او خشيته فالمرء في هذه الحالة مجرد ضحية ولا يملك من امره شيئا . تلكم هي خاصية من خصائص اسقاط الازمات والصراعات النفسية في العالم المتخلف الذي يمارس اقصى درجات القهر ويفرض اقصى حالات الجهل على ابنائه . فكل رغبة او خوف يقمعان بشدة لما يتضمنانه من ادانة فلا يبقى امام المرء سوى التعبير من خلال التجسيد الخرافي .
وابرز مثال على حالة التجسيد الذي ينفي المسؤولية الذاتية كما يحفظ السمعة حالة التلبس او الخبطة التي تفسر من خلالها بعض الاضطرابات التفسية ذات الطابع الهستيري او الصرعي . انها اكثر التفسيرات شيوعا في البيئات المتخلفة . فهي تعلل وتوضح ما تعجز عنه هذه البيئات من تاويل نفساني اجتماعي علمي للاضطرابات النفسية والسلوكية وهي نبرز التحلل السلوكي الذي يبديه المريض . تحلل هو في حقيقته انجاز لنزوات مكبوتة وافلاتها من سيطرة الارادة وتحكمها في السلوك لتحقيق رغبات مورست عليها اشد درجات القمع . وهي اخيرا تغطي مسؤولية الاسرة والجماعة في مرض الفرد وتتستر عليه . فما اسهل القول ان فلانا ممسوس او متلبس كوسيلة للتستر على مسؤولية الجماعة . يحدثنا طه حسين في كتابه ( شجرة البؤس ) بوضوح عن هذه الحالة . الزوجة القبيحة التي ارغم زوجها على الاقتران بها نتيجة لرغبة الوالدين وبامر من شيخ القرية وبشكل اعتباطي لم يراع رغبة الزوج ولا رايه . فكان ان دبت الكراهية في نفسه تجاه زوجته المفرطة القبح بعد ان كبتت سنين طوالا ارضاء للوالدين والشيخ . وكان ان هجرها بصراحة واخذ يسيئ اليها في كبريائها الذاتية في امر لا تستطيع له تغييرا . ولم تلبث هذه الزوجة الضحية ان اصيبت باعراض هستيرية اهتياجية سوداوية نتيجة لما تعرضت له من مهانة وهجر وما صب عليها من حقد دون ان تملك القدرة على الرد او الحق في الدفاع عن نفسها ( المراة الاداة المسيرة ) . وسرعان ما وجد الزوج والاسرة التي تآمرت عليه وعلى زوجته حين فرضت عليهما هذا القران تفسيرا ولا اسهل لهذه النوبة من خلال التلبس بالجن . وصورت انها ضحية احدى النساء اللواتي يقمن صلات مع الجن حين روت هذه الاخيرة حكايات مرعبة عن التلبس . هذا التفسير يفضحه المؤلف في الصفحات التالية حين يبين انه ليس سوى تستر على مسؤولية الاسرة تجاه المريضة . وان مرض هذه الاخيرة ليس سوى نتيجة لما تعرضت له من استغلال وتحكم بمصيرها دون ان تملك حق الاختيار في البداية ثم ما تعرضت له على يد الاسرة من نبذ وتحقير فيما بعد دون ان تتمكن من رد الاذى عنها لان المطلوب منها هو ان تذعن مستسلمة لارادة تلك الاسرة .
كم من حالات مرضية وكم من صراعات زوجية وكم من ازمات بين الابناء والاباء في العالم المتخلف الذي يقمع كل حرية تعبير وكل ارادة اختيار عند افراده تفسر من خلال هذا التبرير السهل وتلقي مسؤوليته على الجن والعفاريت بشكل يحفظ النظام القائم ويمنع كل تساؤل حوله وكل تشكيك فيه … وبدل ان ينظر القائمون على امر المريض الذي هو في الحقيقة ضحية اضطراباتهم ومآزقهم العلائقية والمعبر عن رغباتهم المريضة في الاسباب الحقيقية للمرض والتي لابد ان تضعهم امام مسؤولياتهم الفعلية نراهم يذهبون للبحث عن العلة في جني او عفريت قد تلبسه اثر حادثة يخلقونها او يتخيلونها .
ثم هناك مشكلة تحكم الجن والعفاريت في مسائل الزواج والخطبة والعلاقات الجنسية . كل الازمات الزوجية والجنسية تلصق بهذه الكائنات الخفية بدل ان توضع في اطارها الحقيقي وترد الى سببها الفعلي الاجتماعي الاسري النفسي . فالعزلة والفصل بين النسين وسوء الاختيار الزوجي نتيجة للعلاقات التي يفرضها الاهل وروابط المصاهرة التي تقام لخدمة مصالحهم ويستخدم فيها الابناء كمجرد ادوات لخدمة هذه المصالح والامراض الجنسية النفسية الناتجة عن القمع الجنسي هي وحدها المسؤولة عن الازمات الزوجية . ولكن طرح المسالة بهذا الشكل يهدد امتيازات الاسرة التسلطة والقائمين على راسها ويهدد النظام السائد في الجماعة الذي لا يخدم في النهاية سوى هذه الامتيازات . ليس هناك اذا اكثر تضليلا وخداعا من القاء المسؤولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة .
ومن الطبيعي ان يستفحل الاعتقاد بالخرافات حول الجن والعفاريت بين النساء نظرا لوضعية القهر المفرط التي تفرض عليهن في المجتمع النامي . ومن الطبيعي ان تلجا النساء الى مختلف اساليب الشعوذة لحل ازماتهن الزوجية والعاطفية والجنسية طالما سدت امامهن كل سبل التاثير الفعلي في الواقع المفروض عليهن وطالما استلبت منهن ارادة التحكم في المصير . وهكذا تسقط على هذه الكائنات الخفية قدرات كبيرة على تحقيق ما يعجز المرء عن تحقيقه بجهده كما تسقط عليها كل المصائب والشرور والاخطار . ويتخذ الانسان المقهور في الحالتين وسائل معينة لدرء شرورها من ناحية واسترضائها وجلبها الى صفه حليفة له في معركته مع اعدائه وخادمة لمصالحه من ناحية ثانية . ويبرز المشعوذون الذين يتاجرون بمآسي الانسان المقهور كوسطاء بينه وبين هذه القوى . ويحيط هؤلاء انفسهم بجو غريب ويتلون احاديث وادعية مبهمة يزعمون انها لغة التخاطب مع الجان . ويمزون هذه اللغة ببعض التسابيح الدينية زيادة في التضليل وادخال الاقتناع في نفس ضحيتهم بانهم يمارسون طقوسا دينية مما يلعب على وتر ايمانه ويدفع به الى التسليم لهم ولمطالبهم الابتزازية التي لا تنتهي وترهقه من امره عسرا برغم ارضاء هذا او ذاك من ملوك الجن او ملكاته وهو كائن كثير الطلبات عادة لا يرضى قبل استنزاف الضحية .
بالاضافة الى الوسائل المكلفة جدا في التقرب من هذه الكائنات الخفية بواسطة المشعوذين بغية تسخيرها لخدمة بعض المآرب هناك طقوس وممارسات لدرء شرها . يتوسلون الى ذلك : الرقى والتعاويذ والاحجبة ذات الزعم الديني لانها تطرد وتبعد الارواح الشريرة وتكف اذاها ولكن يبقى ان اشهر هذه الممارسات هو الزار
الزار هو حفل استخراج العفاريت والارواح الشريرة واستئصالها من الجسد الذي حلت فيه كي يشفى من المرض الناتج عن حلولها هذا . وكما يشفي الطبيب من امراض الجسد فان المشعوذ هو طبيب النفوس المريضة التي اصابها مس من عفريت او جان . وكما يستدعي طب الجسد مهارة في معرفة المرض اسبابه وعلاجه كذلك يستدعي المس والتلبس مهارة المشعوذ في التعامل مع الارواح الشريرة وطرق طردها .
وتاخذ حفلة الزار شكل طقوس لها اصولها ومستلزماتها وشيوخها او شيخاتها . ويدعي هؤلاء القدرة على التواصل مع هذه الارواح من خلال تحالف مزعوم مع امرائها وملوكها التي تستطيع ان تامر اتباعها كي تكف شرها عن المريض او تغادر جسده . ولكن الثمن مرتفع طبعا تحت ستار طلبات كثيرة عريبة . من الناحية النفسية العلمية جوهر حفلة الزار هو عملية تفريج هستيري للكبت الجنسي والعدواني المتراكم والذي ينخر جسد المريض . ويصبح هذا التفريج ممكنا من خلال جو الحفلة الاخاذ الذي يعطل الضوابط الخلقية ويصد مشاعر الاثم المسؤولة عن كبت الرغبات والنزوات ( يعطل الانا الاعلى ) . ويحل شيخ الزار بسلطته محل الانا الاعلى للمريض من خلال عملية سيطرة نفسية عليه يتوسل اليها الطبول والبخور والايحاء بالرقص الهستيري . هذا الجو الغريب يؤدي الى نوع من التحلل المؤقت من التزمت النفسي تطفو خلاله المكبوتات على السطح وتثار الهوامات اللاواعية من خلال البخور والطبول وبعض الادوات ذات الرمزية القضيبية والذوبان الغلمي في شخصية شيخ الزار او شيخته .وعندما تنصرف المكبوتات على هذا الشكل وتشبع الرغبات الجنسية بشكل خيالي من خلال الرضوخ لسلطة شيخ الزار يخف ضغط اللاوعي ويشعر المريض بالارتياح لما يلازمه من للتازم الكامن في اعماق النفس . على ان حفلة الزار تتضمن الى ذلك تمردا خياليا ومؤقتا على السلطة الاجتماعية والاسرية القامعة . والتي كانت في اصل العلة فتحل سلطة الشيخ محل سلطة المجتمع . من خلال التحالف مع الصور الاولية الطفلية للوالدين في حالة رضوخ غلمي له . على ان الامر في كل الحالات وليد القمع الجنسي والحيوي يسوقه النظام الاجتماعي . وهو من خلال التصريف المحدد خلال حفلة الزار يحتفظ لهذا النظام بسطوته على الافراد ويبعد عنه الشبهات وضروب الشك التي تؤلف مدخلا الى التغيير الاجتماعي . وهكذا فالسيطرة الخرافية على المعاناة تحتفظ في النهاية للنظام الاجتماعي الذي ولدها كل هيمنته وتبقى على رضوخ الافراد المقهورين لهذه الهيمنة .
التعليقات (0)