في الحقيقة، يستحق الشباب السوري و خاصة في درعا، الشكر، على إعادتهم الجنسية السورية لأكرادٍ، أخوة لهم، شركاء معهم في الوطن السوري، منذ أن وجدت سوريا، و حلهم لمشكلة مزمنة، تسبب بها النظام الرسمي السوري منذ نصف قرن، حيث قام الحكام و المسؤولون الذي تتالواعلى سدة الحكم بعد خلق المشكلة، قاموا جميعاً و دون إستثناء، ليس بعرقلة حلها فحسب، بل بإستخدام مناصبهم و طاقاتهم الخلاقة و مواهبهم الإبداعية في تأزيمها، و إدخالها في زنكات و متاهات و تشعبات، فرخت من المشكلة المسماة (أجانب الحسكة) التي كانت تبدو عصية على الحل، مشاكل أخرى، كالمكتومين وتحقيقات الولادات و غيرها، بحيث أضاعوا القضية الإساسية، ألا و هي كون التجريد من الجنسية، نقطة في بحرٍ أسود، يهدف إلى إغراق الشعب الكردي في سوريا، و ذلك من خلال مشروع عنصري متكامل، وضعت أسسه من قبل رئيس الإستخبارات السياسية في محافظة الحسكة في ستينات القرن الماضي، و كان تنظيم إحصاء إستثنائي في هذه المحافظة، يعمد فيه إلى إغفال عدد كبير من المواطنين الكرد، حلقة من ذلك المشروع، إلى أن تهاوت هذه أخيراً تحت ضربات أقدام هؤلاء الأبطال، التي لا زالت تزلزل الأرض تحت إركان النظام.
إن حصول الكرد على الجنسية السورية اليوم، و في هذه الظروف، خلى من كل فرحة، رغم أنهم قد عملوا لأجل ذلك كثيراً، وإنتظروه سنين طويلة، دفعوا خلالها دماً و عرقاً، حتى توجهُ أخيراً شهداء درعا و اللاذقية و بانياس و حمص و غيرها من المدن السورية بدمائهم، و مصدر الكدر هنا هو أن هذه الجنسية قد عُمدت بدماء شباب رائع، قطرة واحدة منها، و من دماء من سبقهم من الكرد، التي سالت من أجل سوريا كلها، أغلى من جنسيات العالم كلها. لكن، و من جهةٍ أخرى، يعتبر الكرد هذه الجنسية أكثر من مجرد بطاقة شخصية سيدسونها في جيوبهم، إنها أغلى من ذلك بكثير، فهي هدية من شباب سوريا إلى أخوتهم الكرد، ذكرى عزيزة يحملونها في عقولهم و قلوبهم، و وساماً يعلقونه على صدورهم، و ديناً لن يعجزوا عن رده، إرتبط الحصول عليها إرتباطاً وثيقاً بنضالهم وتضحياتهم، مهما حاول النظام أن يصور الأمر على غير ذلك، و يجيره إلى ما يدعيه من أجندة إصلاحية.
إذاً، الظروف التي (مُنحت) فيها الجنسية السورية للكرد، و التي لم تكلف رئيس النظام سوى سطراً واحداً، إضطر فيه أن يحني رأسه لعاصفة الشباب الثائر، و لأشياء أخرى، تدل بوضوح، و في ظروف صدوره تلك، ليس على (توافر النوايا الصادقة) كما رأى البعض، بل على نوايا أخرى أبعد ما تكون عن الصدق، منها محاولة رشوة الكرد لكي لا يشاركوا الشعب السوري ثورته، و عزلهم بضرب إسفين بينهم و بين باقي فئات الشعب السوري، و كذلك خلق فتن و عداوات بين الجميع، بإظهار لا مبالاة كل شريحة بما يجري للأخرى، و هو ما فشل فيه النظام حتى الآن.
كان على النظام أن يعترف منذ سنين طويلة بقصور إحصاء عام 1962، و أن يعترف بخطأ المضي في تطبيق نتائجه، وأن يجري آخر شاملاً يزيل فيه العيوب التي إعترت ذلك الإحصاء، مع التعويض على المتضررين، رغم إن تعويض بعض الأمور يبدو مستحيلاً اليوم، و كان عليه لكي يثبت صدق نواياه، أن يقوم بإزالة آثار مشروع طلب هلال و دراسته عن الكرد التي لم توفر بشراً أو حجراً في المنطقة الكردية إلا و أصابته بشرورها، و أن يعتذر عنها لا أن يقوم بتكريم صاحبها.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه النظام اليوم هو في تغيير هوية سورية ذاتها، و تحويلها من مزرعة عائلية خاصة يملكها هو إلى دولة مدنية حديثة ملكٌ لمواطنيها، و هو ما سيحصل في حال الإستجابة لطلبات المتظاهرين التي يساهم النظام بتعنته في رفع سقفها، حيث يبدو في غير وارد الإستجابة لأي منها، لأن ذلك يستوجب منه تغيير نفسه، و ليس ترقيع بعض الأمور هنا و هناك، أو تقديم وعود و تسويفات لإمتصاص الغضب الشعبي، لحين عودة الهدوء، و هو ما يجعل شباب سوريا أولى من غيرهم بتغيير هويتها.
إذاً يتنازع الكرد اليوم شعور مزدوج و هم يهمون بالتوجه للحصول على بطاقة الجنسية السورية التي دشنها الشباب السوري بدمه، فمن جهة يشعرون بإستعادة حقٍ سُلب منهم، رغم أن هذه البطاقة لن تمنحهم في الظروف الحالية سوى رقم عضوية في نادي السجن الكبير المسمى سوريا، و من جهة أخرى يشعرون بالثمن الباهظ الذي دُفع مقابل ذلك.
لقد أصبحوا مواطنون في دولة، في الوقت الذي يقوم فيه نظامها و لسوء الحظ بقتل مواطنيه.
سيسري عليهم بعد اليوم ما يسري على المواطنين السوريين.
التعليقات (0)