الجمود الثوري:
التغيير والتجديد هي من الصفات الثابتة والازلية للحياة على هذا الكون وقد دخلت في كل جوانبها،والجمود هو النقيض وهو مناف لحركة الحياة وطبيعتها المتنامية وبالتالي سوف يكون مؤشر على الزوال او الضعف!.
الجمود هو علامة للركود وعدم مواكبة للحياة المعاصرة ودلالة على استحالة التطور في كافة المجالات بل قد يكون معوقا لمسيرته!...والجمود نسبي ومتنوع وتختلف درجاته بحسب طبيعة الاصول والفروع التي يدخل فيها،فالجمود في الفقه مثلا يؤدي الى ضعف في القدرة على التصدي لمجابهة المشاكل المعاصرة وبالتالي لايقدم سوى القليل من الحلول النسبية المعتمدة على اجتهادات الماضي التي قد لا تتناسب مع العصر الراهن!...وفي بقية العلوم يحصل عادة تراكم معرفي ينقض او يجدد القديم وهو من علامات التطور العلمي الذي هو من ثمار الحضارة الانسانية.
وفي السياسة ايضا يكون التجديد واقعا مفروضا وملموسا على الجميع واي مخالفة للتيار التحديثي بصورة مطلقة سوف تؤدي لا محالة الى انهيار جدران الفصل والعزل لتحل محلها قيم جديد ظهرت من جراء الابداع والتلاقح المشترك،بل ان من علامات سقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية هو عدم قبول الاولى بالتجديد والانفتاح على الاخر بعكس الثانية!.
الثورة هي آخر وسيلة يلجأ اليها من وسائل التغيير السياسية وهي عكس الجمود السياسي الذي من ابرز ملامحه هو الاستبداد والتخلف والذي يكون خيارا بطيئا للانهيار وليس للترقيع لان واقع القوى هو غير ثابت مما يعني ان القوانين والانظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي متجددة بالتقدم الزمني،وهذا الفعل المشترك يستلزم وجود شروط موضوعية لانجاحه.
كان من اسباب الانهيار الحضاري في العالم الاسلامي هو الجمود الذي ساد ومنع من التجديد،وكان ثباته في السياسة مظهرا مؤلما من مظاهر المحافظة على الواقع السيء للشعوب المحرومة من التعبير عن طاقاتها المكبوتة.
كانت الثورات العربية المعاصرة فرصة مثالية لاسقاط عامل الجمود من الحياة الفردية والجماعية بعد ان سحقت الجمود وحركت الواقع الراكد الذي ساد لفترة طويلة،ولم يتسنى للثورة التونسية فرصة التقاط الانفاس للرغبة في ابداء الخيار الجديد ضمن وسائل التجديد الثوري بفعل عامل السرعة! ولكن الثورة المصرية كانت رائدة في كسر الجمود والركود الاتي منها من خلال استحداث مختلف الوسائل الضرورية بغية انجاح الثورة،لان قوة الحركة التي كسرت حواجز المنع كان بفعل تأثير نجاح الثورة الاولى! وكان من ابرز مظاهر كسر الجمود انها لم تتقيد بالمظاهرات الروتينية التي هي وسيلة من وسائل اية ثورة للمطالبة بأسقاط النظام الذي امتنع وحاول الصمود في البداية مما ادى الى تطور الاحداث من خلال الارتفاع بسقف المطالب الشعبية والتي كانت مخفية منذ حقبة طويلة! ولم تصبر جماهير الثورة المصرية على استمرار رفض رأس النظام الاستقالة فهددت بالزحف على القصور الرأسية بغية القبض على الرئيس الفاسد وزمرته وتقديمهم للمحاكمات الجنائية لانهاء الوضع المآساوي بأسرع وقت،وبالفعل كانت النتيجة مذهلة ودالة على وعي شامل لا يتقيد بجمود باطني لظاهر سلبي يخاف تطوير الاساليب واختصرت الوقت والخسائر!...بينما في المقابل طال امد انتصار الثورة اليمنية واخذت تراوح مكانها بالرغم من الخسائر الفادحة مع قوة المعارضة وضعف النظام! بسبب الخطأ التاريخي الذي وقعت به من جراء الجمود في تطوير حركة المطالب الشعبية وجعلها تنتظر بطريقة سلبية تنازل رأس النظام المتحكم منذ عقود،وكأن الجماهير الثائرة وقياداتها الميدانية لا تفهم المستويات الفكرية المتدنية ولا الواقع التاريخي المستند على تراث طويل من الاستبداد الشرقي الغير قابل للانهيار بفعل المقدرة على الصمود الطويل مهما كانت الخسائر مادام الهدف مصانا من الانهيار وهو المحافظة على الحكم في العالم العربي!...وبالفعل لم يتحقق اي من التمنيات الغير واعية لتلك المرحلة التاريخية الجديدة التي لا تقبل المساومة او الانتظار بحجج واهية!.
ان عدم استغلال نقاط ضعف النظام العديدة جعل الثورة تراوح مكانها بينما كان الاولى تطويرها واخراجها من القمقم الذي استقرت به من خلال استحداث منهاج متطور من العمل الثوري،فبالرغم من طول الفترة وتدني وحشية النظام بالمقارنة مع عنف وقسوة النظامين الليبي والسوري،الا ان القيادات الميدانية الممثلة للثوار بقيت خارج مركز القيادة الحقيقية والتي استمرت في موقع المتفرج على الاحداث الدامية وسلمت امر حوارها ومطاليبها مع السلطة الى القوى المعارضة التقليدية الاخرى التي وقعت في مستنقع الجمود القاتل منذ فترة طويلة جدا وبدا عليها علامات الانهيار الفكري والتنظيمي التي لا تساعد على ادارة المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد،وهذا خطأ تاريخي بأمتياز مازلنا نرى نتائجه الظاهرة ضمن دائرة مقيدة.
ان وقوف عملية تطوير الاجراءات الثورية في ظل الضعف الحكومي هو خطأ مركب لا ينبغي نكرانه وعدم الوقوف عنده لانه تسبب في اراقة المزيد من الدماء وبقاء الوضع الراهن لفترة اطول كان من الممكن اختصارها كما فعلت الثورة المصرية!...ومن هذا المنطلق يمكن القول ان عدم تطوير المظاهرات الى الزحف المقدس لتحرير القصور الرئاسية من الحكومة القائمة كان نتيجة لعدم وجود المقدرة الكافية للقيادة والتصدي لمستجدات المرحلة المراد استيعاب كافة متطلباتها! والاكثر مرارة في الحدث اليمني هو بقاء الوضع الراهن بالرغم من ضعفه الشديد حتى بعد سفر الطاغية اليمني للعلاج في السعودية وعدم قدرته على الحكم والمواجهة بفعل تأثير محاولة الاغتيال،وبقيت المعارضة تراوح في مكانها بطريقة غريبة حقا سمحت خلالها للجوار الاقليمي والدولي بالتدخل السلبي بعد ان رأت ان قيادات المعارضة غير متكيفة مع الوضع الدولي الجديد ومع الطبيعة الفكرية لاي ثورة مراد منها الانتصار!.
ان الجمود في حركية الثورة اليمنية وعدم استيعاب الفرصة التاريخية التي نادرا ما تتكرر هو ضعف بل وانهيار في المنظومة التنظيرية التي يراد منها قيادة البلاد بعد رحيل الرئيس نحو مستقبل مشرق!.
الواجب المفروض على الشعب اليمني وقياداته الشابة الاستفادة من التجارب الثورية الاخرى وتحرير كافة الوسائل الممكن استخدامها لغرض أنقاذ البلاد بأسرع وقت من النظام الفاسد، لان عدم التحرك سريعا وبوسائل جديدة هو معناه بقاء الوضع الراهن على ماهو عليه وادامة محزنة للصراع والارهاب والعنف مع الطبقات الحاكمة مما يعني تحمل جزءا من المسؤولية التاريخية والاخلاقية في ابقاء البلاد ضمن صراع طويل الامد لا يراعي المصلحة العليا.
التعليقات (0)