مواضيع اليوم

الجمهورية في الفكر العربي الاسلامي-تونس نموذجا

مراد رقيّة

2010-07-24 18:01:27

0

الجمهورية في الفكر العربي الإسلامي : تونس مثالاPartager
Aujourdhui à 19:31
الأستاذ قيس سعيّد ،
كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس

قد تصمت القصور أحيانا فيتحدث التاريخ، وقد تتحدث الحوادث فيه فتلتحق الذكرى بالذكرى وتلتحم التواريخ الرموز.

قد تصمت القصور ويصمت معها التاريخ فيتحول الصمت بدوره إلى رمز يشير إلى النسيان ويومئ بالبنان إلى من آل بهم الأمر إلى الدثور.

وكما يحصل أن يصمت التاريخ عن بعض العروش الآثلة، يحصل أن تتحول بعض التحولات فيه إلى مجرد مناسبات تذكّر بحدوثها ولا تتجاوز مراسم الإحياء والتذكير، في حين أن التحوّل حقيق بأكثر من ذلك وحريّ بالوقوف عند آثاره على مختلف الأصعدة بالدرس والتحليل.

ومن المناسبات، في تونس، الجديرة بهذا المقام، وليست أقلها، إعلان الجمهورية. فقد جاء هذا الشكل الجديد من النظام بعد أن مهدت له جملة من الحوادث فكان لا بد له أن يكون وجاء فمهّد بدوره لجملة من الحوادث والآثار.

جاءت الجمهورية فصارت الرعية مواطنين ومواطنات وحل الوطن مكان الديار وغاب التفريق بين الخاصة والجمهور.

أعلنت الجمهورية وألحق الإعلان عنها بالدستور وأحدث لها عيد إحتفاءًا بذكراها ووسام تقديرا لها وإكبارا ومفتي ووكيل ومجلس وقصر وشعار.

وإذا كان من اليسير نسبيا تعريف الجمهورية من جهة أصل المصطلح وتطوره إلى مفهوم في الغرب قبل انتشاره في بقية أنحاء العالم، وإذا كان من الممكن الوقوف عند أهم العناصر المكونة لها ومختلف الآثار المترتبة عنها، فإنه من غير اليسير في المقابل التعرف على أصل لفظ الجمهورية في اللغة العربية وعلى الفترة التي بدأ فيها تداوله ليشير إلى نفس المعاني التي يشير إليها اليوم.

ولاشك في أن الوقوف عند العلامة اللغوية قبل الوقوف عند المفهوم القانوني مفيد في هذا المستوى إذ من الدال يمكن توليد مجموعة من الدلالات واستنباط منظومة فكرية كاملة تختزل ما تراكم فيها من معان تفيد في البحث القانوني وفي غيره من المجالات لأن الأجسام الصامتة، كما يقول الجاحظ، "ناطقة من جهة الدلالة ومعربة من جهة صحة الشهادة على أن الذي فيها من التدبير والحكمة مخبر لمن استخبره وناطق لمن استنطقه".

والجمهورية، لغة، مشتقة من فعل جمهر، وجَمْهَرَ الشيء جمعه والقبر جمع عليه التراب ولم يطيّنه، والقوم اجتمعوا جمهورا. وهي مؤنثة الجمهوري الذي يعني الشراب المسكر والنبيذ الذي أتت عليه ثلاث سنوات أو ما بقي نصفه من عصير العنب بعد طبخه، قيل له ذلك لأن جمهور الناس، أي أكثرهم، يستعملونه.

فلفظ الجمهورية لم تكن له علاقة بشكل الحكم ولكنه يحمل بين طياته معنى العدد الكبير من الناس ويتناقض من هذا الجانب مع فكرة الخاصة أو الصفوة أو العدد القليل. وليس صدفة أن يتم الاختيار عند العرب على هذا اللفظ للدلالة على الشكل الجمهوري للأنظمة السياسية بعد أن كان إسما لنوع من أنواع النبيذ.

ويبدو أن لفظ الجمهورية لم يدخل اللغة العربية إلا بصفة متأخرة عن طريق اللغة التركية. فما يعرف بالجمهورية اليوم كان يشار إليه قبل القرن الثامن عشر، بالمدينة كعنوان كتاب أبي نصر الفارابي الذي نقل جمهورية أفلاطون إلى اللغة العربية تحت عنوان "آراء أهل المدينة الفاضلة" أو بالجماعة المتفاوتة المراتب كما وصف القلقشندي حكومة جنوة أو المشيخة إشارة إلى الجمهورية الفرنسية كما ورد ذلك عند بعض المترجمين أو الرحالة كالطهطاوي الذي عرّف من وصفهم بكبار الجمهورية الفرنسية بأنهم مشائخ وجمهور.

وامتزج في لفظ الجمهورية في البداية معنيان، يشير الأول إلى الديمقراطية ويدل الثاني على شكل نظام الحكم المختلف عن الشكل الملكي وذلك قبل أن تنفصل الديمقراطية عن الجمهورية ليشار إليها بنفس اللفظ تقريبا الذي ظهرت به عند الإغريق.

فالجمهورية، في اللغة العربية تختزن على الأقل معنى الجمهور وتدل على نظام يفترض فيه التعبير عن رأي العدد الأكبر من الناس. وبذلك تختلف من جهة دلالاتها اللغوية عن Res publica في اللغة اللاتينية التي تعني فقط الشيء العمومي قبل أن يتصل معناها بالدولة عموما ثم بشكل معين من أنظمة الحكم.

ولا يمكن أن يتنزل الحديث عن فكرة الجمهورية في تونس إلا في هذا السياق التاريخي الذي تلتقي فيه رواسب الماضي بما أضاف إليها الحاضر من معان ودلالات. لذلك يتجه التوقف أولا عند جذور الفكرة (أوّلا) قبل الوصول إلى تجسيدها بإعلان 25 جويلية 1957 (ثانيا).

أوّلا ـ الجذور :

يفترض البحث عن جذور عدد من المفاهيم والمؤسسات في الدول العربية الإسلامية الكثير من الحذر والاحتياط، إذ جرى عدد قليل من الباحثين على إسقاط بعض المفاهيم الغربية على التاريخ العربي الإسلامي على واقع يقوم، في أصله، على منظومة فكرية مختلفة لا أثر فيها للمفاهيم أو المؤسسات المسقطة عليه. والتأكيد على وجودها دليل عندهم على أن الإسلام عرفها قبل الغرب بقرون وبرهان على أن هذا الغرب هو الذي اقتبس من الإسلام ولا يمثل عندهم موضوع اقتباس.

ومثلت الخلافة، في هذا الإطار، جمهورية عند البعض لأنها لا تقوم على توارث الحكم كما هو الشأن في الأنظمة الملكية بل على ضرورة عقد البيعة للإمام بالاختيار، في حين أن اختيار الخليفة مقتصر على أهل الحل والعقد ويمكن أن تنعقد بيعته بخمسة أو بثلاثة أو حتى بواحد فقط كما ذهب في ذلك بعض الفقهاء. فنظام الحكم العربي الإسلامي، كما قال طه حسين، "لم يكن ملكيا، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء كما كان يؤذيهم أن يظهر لهم الملك، وهو لم يكن جمهوريا، فلم نعرف في نظم الجمهورية نظاما يتيح للرئيس المنتخب أن يرقى إلى الحكم فلا ينزله عنه إلا الموت، ولم يكن قيصريا بالمعنى الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء فهو إذن نظام عربي خالص لم يسبق العرب إليه، ثم لم يقلّدوا بعد ذلك فيه."

لكن الحذر الذي يقتضيه البحث عن جذور فكرة الجمهورية في تونس لا يقف حائلا أمام استقصاء بعض ملامحها، وإن كانت قليلة، في الفكر العربـي الإسلامي (أ) ثم في تونس (ب) كما ظهرت عند بعض المفكرين المصلحين أو كما أبرزتها ردود الفعل عند إعلان قيام أنظمة جمهورية في بعض الدول الإسلامية.

أ ـ في الفكر العربي الإسلامي :

تتبوأ المعتزلة مكانة متميزة في الفكر العربي الإسلامي في عدد كبير من المسائل الفقهية والسياسية، ومن بينها شكل النظام السياسي، وليس من الصعب الوقوف عند بعض ملامح فكرة الجمهورية بالرغم من اختلاف الإطار واختلاف الأسس التي يقوم عليها اختيار الحكام. فأبو بكر الأصم، أحد أئمة المعتزلة، رأى أن الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم، حتى أنه أعتبر اليوم، في إحدى الدول العربية، أول من بشر بالفكر الجماهيري، لا بالجمهورية فحسب.

كما ذهبت المرجئة في نفس هذا الاتجاه وقالت الكرامية كذلك أن الإمامة تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين.


ويتحدث ابن رشد في الأندلس عن أنواع السياسات بعد تصنيفها إلى أربع وهي السياسة الجماعية وسياسة الخسّة وسياسة جودة التسلط وسياسة الوحدانية ليؤكد أن أفضلها الجماعية وهي التي تكون الرئاسة فيها بالاتفاق والبخت أي الانتخاب إذ أنه ليس في هذه المدينة لأحد على أحد فضل.

ولكن فكرة الجمهورية لم تظهر بوضوح في الفكر العربي الإسلامي إلا حين اتصل بعض الرحالة العرب بالغرب واكتشفوا فيه هذا الشكل من الأنظمة السياسية. ففي "تخليص الابريز في تلخيص باريس" يشير الطهطاوي إلى "انقسام الفرنسيين إلى طائفتين تحاول إحداها، على عكس الأخرى، أن يكون الحكم بالكلية للرعية، ولكن، لما كانت الرعية لا تصلح على حد قوله أن تكون حاكمة ومحكومة، وجب أن توكّل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا هو حكم الجمهورية."

غير أن الطهطاوي لا يفصح عن رأيه في هذا النوع من الحكم ويكتفي بوصف الطائفة التي تدعو إلى إضعاف الملك وإقامة الجمهورية بالعظيمة.

ويشترك الطهطاوي مع عدد من الرحالة العرب في عدم الإفصاح عن موقفه من الجمهورية. وليس غريبا أن يكون مرد ذلك التحسب لردود الفعل على موقف يتناقض يومئذ مع المواقف الرسمية وغير الرسمية السائدة في الدول العربية والإسلامية. فالشدياق بدوره، الذي سمّى الثورة الفرنسية فتنة وشغبا واستاء من عتوّ ولاة أمور فرنسا وشططهم لحملهم الناس على خلع الطاعة لهم ومن الفرنسيين عموما لتبديل حكومتهم القاهرة بالحكومة الجمهورية اعتقادا منهم أن الشر كله جاء من الملكية، لم يُخف حسنات الثورة الفرنسية والمنافع التي حصلت للفرنسيين منها.

ولم يشذ عن هذا الاتجاه السائد لدى الجيل الأول من الرحالة العرب سوى المسيحي فرانسيس مراّش الذي لم يتردد في إبراز إعجابه بفرنسا وبالحرية التي يتمتع بها فيها الفرنسيون.

فقد جاء في مقدمة كتابه "رحلة إلى باريس" : "فكم سرور واندهاش للأعين عندما ترى هذه الأمة الفرنساوية رافلة بأذيال الحرية الكاملة بدون خشية من التعثر بأشواك سيادة بربرية أو سلطة ضاربة... لابسة ثياب الدين والدنيا بدون جزع من أفواه باصقة أو مخالب خازقة ولا ذعر من سطوات شريعة مارقة".

ولم تلبث فكرة الجمهورية أن تحولت بعد ذلك إلى مطلب نادى بتحقيقه الكثيرون خاصة إثر إلغاء الخلافة العثمانية، من ذلك مثلا خاطب به معروف الرصافي الأمة العربية قائلا :

 

يا أمّة رقدت فطال رقادها هبيّ وفي أمر الملوك تأملي

أيكون ظل الله تاركا حكمه المنصوص في آي الكتاب المنزل

أم هل يكون خليفة لرسوله من حاد عن هدي النبي المرسل

كم جاء من ملك دهاك بجوره ولواك عن قصد السبيل الأفضل

...

ان الحكومة وهي جمهورية كشفت عَمَايَة قلب كل مضلل

سارت إلى نضج العباد بسيرة أبدت لهم حمق الزمان الأوّل.

 

ولكن فكرة الجمهورية لم تلق دائما القبول والترحيب، من ذلك ما كتبه عبد الكريم الخطابي عن النقد الذي واجهه من زعماء القبائل ومشائخ الطّرق، فقد أوضح قائلا: "كنّا أنا وأخي أطلقنا على بلادنا اسم جمهورية الريف منذ سنة 1923، وطبعنا في فاس أوراقا للحكومة عليها هذا الاسم للدلالة على أنّنا دولة مؤلّفة من قبائل مستقلّة متحالفة لا دولة نيابيّة ذات برلمان منتخب. أمّا الجمهورية فلم يكن ليتخّذ معناها الحقيقي إلاّ بعد مدّة من الزمن لأنّ جميع الشعوب تحتاج حين تأليفها إلى حكومة حازمة وسلطة قويّة ونظام قومي متين. ولكن لسوء الحظّ لم يفهمني غير أفراد قلائل يعدّون على أصابع اليدين.


ب ـ في تونس :

اشترك المصلحون التونسيون في نهاية القرن التاسع عشر مع سائر المصلحين المسلمين في الدعوة إلى الإصلاح، ولكنها دعوة إلى الرجوع لقواعد الدين ودعوة في ذات الوقت إلى الاستلهام من الغرب استلهاما يكون متّسقا مع أحكام الإسلام.

وليس غريبا ألاّ تحتل فكرة الجمهورية في هذا الإطار المتسم عموما بالحذر الشديد حيزا يعكس حقيقة إعجاب هؤلاء المصلحين بها.

فابن أبي الضياف، على سبيل المثال، لا يتردد في ذكر نفع الحكم الجمهوري للعامة والخاصة على السواء، ولكنه لا يتردد في الآن ذاته في التأكيد أن قواعد الملّة الإسلامية لا تقتضي هذا الصنف من الحكم. فبعد تعريفه لما يسمّيه بالملك الجمهوري بقوله: "أن محصّل هذا الصنف، أن الناس يقدّمون رجلا منهم باختيارهم، يلبي سياستهم ومصالحهم، لمدة معينة، ولمّا تتم يخلفه غيره، باختيارهم أيضا وهلمّ جرّا. وقد يستحسنون سيرة أحد، فيطلبون منه زيارة مدة ولا يجعلون لهذا المقدّم شيئا من فخامة الملك وشاراته، بل هو كواحد منهم ينفذ ما يتفق عليه الرأي من أهل المشورة. ولهم في ذلك قوانين يحترمونها احترام الشرائع المقدسة ويقفون عند حدها". بعد هذا التعريف مباشرة، يعود ابن أبي الضياف ليذكّر بوجوب الإمامة في الإسلام" وهو منصب يأثم المسلمون إذا تركوه".

ولا يبدو خير الدين باشا أكثر جرأة من صاحب الإتحاف، بل على العكس يكتفي بالإشارة إلى انتقال بعض الممالك الأوروبية إلى جمهوريات دون إبراز أي موقف على الإطلاق.

ولم تطرح مسألة الجمهورية بحدة في تونس إلا إثر إلغاء الخلافة العثمانية في حين أن صدى إعلان دولة الجمهورية الريفية بالريف الغربي لم يتجاوز الفرح والمساندة للإنتصارات العسكرية التي حققها عبد الكريم الخطابي.

وقد انقسم التونسيون بين مناصر للإصلاحات التي أدخلها كمال أتاتورك وبين مؤيد للخلافة. ففي نفس الوقت الذي تأسست فيه تقريبا لجنة الخلافة برئاسة أحمد توفيق المدني لم يتردد عدد آخر من التونسيين في مساندة الإصلاحات الجديدة بتركيا. وقد ظهر هذا الاتجاه حتى داخل جامع الزيتونة نفسه.

ولم تطرح مسألة الجمهورية مرة أخرى بوضوح إلا عند عزل الباي محمد المنصف. ومن المفارقات أن يكون المنصف باي نفسه هو الذي وعد أحد المؤرخين الفرنسيين الذين تحولوا لزيارته في منفاه بمدينة "بو" الفرنسية بأنه لو عاد إلى تونس، فهو الذي سيتولّى بنفسه إعلان الجمهورية. وقد أكد نفس هذا الموقف أحد النوّاب بالمجلس القومي التأسيسي يوم 25 جويلية 1957.

ولعله من المفيد الإشارة، على صعيد آخر، إلى أن تونس كانت عرفت في القرن الثامن عشر نوعا من الحكم الجمهوري. ففي معاهدة سلم أبرمتها تونس مع فرنسا بتاريخ الأوّل من جويلية 1728، ورد أن الطرف التونسي هو جمهورية تونس. وأشير إلى تونس كجمهورية في المعاهدة المذكورة في ثلاث مناسبات.
والسبب الواضح في اعتبار تونس جمهورية في القرن السابع عشر على وجه الخصوص يعود إلى أن الداي كان منتخبا من الديوان ولم يكن الحكم وراثيا فيها. ويؤكد مثل هذا التفسير وقبل هذا التاريخ بكثير، أحد مبعوثي مدينة البندقية إلى تونس سنة 1625 الذي رأى فيها يومئذ "جمهورية شعبية تمارس ضربا من الديمقراطية العسكرية".

ومن القرن السابع عشر لم تتجسم الفكرة إلا في أواسط القرن العشرين.

ثانيا ـ التجسيم :

مهدّت لإعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 جملة من النصوص وجاء قرار المجلس القومي التأسيسي يوم 25 جويلية 1957 (ب) تتويجا لمرحلة أولى من الإعداد (أ).

أ ـ الإعداد :

بدأت مرحلة الإعداد بصفة واضحة بداية من تعيين الرئيس بورقيبة وزيرا أكبر في 15 أفريل 1956. ولعل نصّ الأمرين العليّين الصادرين بتاريخ 11 و15 أفريل 1956 كافيان لوحدهما للإشارة إلى الحوادث القادمات، فقد ورد فيها : "عيّن منقذ الأمة وقائد الشعب المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وزيرا أكبر رئيسا للحكومة ووزيرا للخارجية ووزيرا للدفاع الوطني"، يبدو كأن النص ليس نصّ أمرين عليّين، فالذي عيّن شكلا هو الباي والمُعيّن هو القائد والمجاهد والمنقذ للأمّة بما في ذلك الباي نفسه. أما قبل هذا التاريخ فإن الرئيس بورقيبة، لم يتوان عن التأكيد على تعلق الشعب التونسي بالملك كما ورد ذلك في تصريحه يوم 1 جوان 1955، أو كما جاء ذلك أيضا في التحية التي رفعها مؤتمر الحزب الحرّ الدّستوري المنعقد بصفاقس يوم 20 نوفمبر 1955 إثر اختتام أعماله. وقد جاء في هذه التحية أن المؤتمر القومي للحزب الحرّ الدّستوري "يرفع إلى جلالتكم بمناسبة إنتهاء أعماله أسمى آيات التعظيم والإخلاص لعرشكم المفدّى ويتمنى أن تتم في عهد جلالتكم أماني الشعب في تحقيق نظام ملكي دستوري ديمقراطي وفقا لخطاب عيد العرش في 15 ماي 1951 ونسأل الله أن يحفظكم ويطيل بقاءكم."

قد يكون المؤتمر قد سأل الله أن يحفظ العرش الحسيني ولكن الله لم يستجب على كل حال لدعاء المؤتمرين. وتتالت منذ سنة 1956 النصوص لتقليص اختصاصات الباي والحد من الإمتيازات التي تتمتع بها العائلة الحسينية. ففي 3 أوت 1956 صدر أمر عليّ لتنقيح الأمر الصادر في 21 سبتمبر 1955 والمتعلق بتنظيم السلط العمومية تنظيما مؤقتا ليسحب من الباي السلطة الترتيبية وليترك له فقط تعيين الآغة وتعيين الحكام من الدرجة الأولى.

وفي 26 افريل 1956 صدر أمر عليّ يتعلّق بتحوير إدارة الملك الخاص للباي ودائرته السنية ليضع هذه الإدارة تحت تصرّف متصرّف للحكومة التونسية يشرف عليه وزير المال.

وفي 3 ماي 1956 صدر أمر عليّ آخر يتعلّق بضبط حقوق وواجبات أعضاء الأسرة الحسينية المالكة ليبطل، كما ينص على ذلك الفصل الثالث منه، جميع الامتيازات والإعفاءات والحصانات مهما كان نوعها والمعترف بها قبل صدور هذا الأمر لأفراد العائلة الحسينية.

وبنفس هذا التاريخ صدر أمر عليّ آخر يتعلق بإدارة تراث الباي الخاص ودائرته السنية والملك الخاص للدولة المخصّص للتاج ويقضي بوضعها تحت تصرف وكيل يعيّن من بين متصرفي الحكومة التونسية، ولهذا الوكيل الحق في إدارة الأملاك المنقولة وغير المنقولة التابعة للباي والتصرف فيها إيجابا وسلبا.

وألحقت في النهاية، العسّة المصونة للباي بالجيش التونسي عملا بأحكام الأمر المؤرخ في 30 جوان 1956 والمتعلق بإحداث جيش تونسي.

وهكذا، لم يبق للباي ولأفراد العائلة الحسينية سوى قصر أو بضعة قصور وتاج لا حقّ له حتى في التصرف فيه أو كما قال أحد المؤرخين "صار النظام الملوكي بتونس هيكلا أجوف كمثل الثمرة التي قضت أمدها الطبيعي ثم جفّت ويبست فتراها تنحّت عن غصنها بدون كلفة وتكاد لا تسمع لسقوطها دويا".

وسقط العرش الحسيني دون دوي يوم 25 جويلية 1957 لتدوّي مائة طلقة مدفعية في فضاء تونس احتفالا بمولد الجمهورية.

ب ـ الإعلان :

جاء إعلان الجمهورية بعد تمهيد ولم يكن يخفى على أحد أنه آت حتى على الباي نفسه. فالصحف التونسية والفرنسية كانت بدأت الحديث قبل أسبوع على الأقل عن التغيير القادم لشكل النظام في تونس.

وتمهيدا لاجتماع المجلس القومي التأسيسي الذي حدد ليوم الخميس 25 جويلية 1957، عقد الديوان السياسي للحزب الحر الدّستوري يوم 22 من نفس الشهر اجتماعا يبدو أنه هو الذي تم فيه إعداد مختلف الترتيبات لإعلان الجمهورية بما في ذلك نص الإعلان وطريقة الاقتراع عليه، إذ جاء في صحيفة العمل الصادرة يوم 25 جويلية أنه من المتوقع أن يشارك السيدان رئيس الحكومة ونائبه في المناقشة بصفتيهما النيابية والحزبية وأن توقف الجلسة بعد الحوصلة التي سيقوم بها زعيم الأمة ليتمكن المجلس من تحرير لائحة تهدف إلى إلغاء النظام الملكي وتكليف رئيس الحكومة بصفة مؤقتة برئاسة الدولة وبمباشرة جميع الاختصاصات التي كانت ممنوحة للملك بما فيها إمضاء الدستور الذي سيسنه المجلس التأسيسي والذي سيضع الدواليب القارة للدولة.

إن ما ورد بصحيفة العمل قريب من جهة صياغته من نص الإعلان ذاته، هذا النص الذي لم يقرأ إلا في الساعة السادسة مساء. لذلك فإن إمكانية إعداده قبل يوم الإعلان أمر ترجّحه هذه الصياغة المتقاربة.

كما أن طريقة الاقتراع التي تم الاختيار عليها كانت محددة قبل يوم الإعلان وقد ورد في نفس الصحيفة أن الاقتراع العلني الفردي هو شكل من أشكال الاقتراع المتبع عادة في المجالس النيابية في الظروف الرهيبة والمواقف الحاسمة حتى يعرف الشعب حقيقة كل نائب لم ينتخبه إلا لتبليغ إرادته وللعمل في مصلحته وحتى يتمكن من مناقشة الحساب. فحسب صحيفة العمل لم يكن للنواب إما التصويت الايجابي على اللائحة وإما الحساب.

لا شكّ أنّ المقصود بالحساب هو حساب السياسة والتاريخ حيث يحاسب المصوّت بعد فرز أصوات المصوّتين.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !