مواضيع اليوم

الجلوس على أنقاض وطن!

ممدوح الشيخ

2010-04-22 23:18:34

0



بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

ماذا لو كان الشاعر المصري أمل دنقل حيا وشاهد مأساة الأنفال؟
سؤال قفز إلى ذهني وأنا أقرأ التفاصيل المفجعة لعملية إعادة دفن رفات 104 أطفال وامرأتين كانتا حاملين، من ضحايا الجريمة. والجنازة لا أبالغ إذا قلت إنها علامة تاريخية فارقة في تاريخ هذا الجزء من العالم، فخلال ستة عقود من حكم نحب التحرر الوطني، التي كان من سوء ظنا أنها تفرقت بين المعسكرين القومي والمتشدد والماركسي، كان الضحايا ينتقلون من الظل إلى الظلام!
لقد كانت الدولة "المتألهة" تغتال خصومها وتغتال معهم تاريخهم وكرامتهم وهويتهم ومستقبلهم وقبل أن تواري جثامينهم الطاهرة قبرا مجهولا في قبو من أقبيتها المظلمة، كانت تدفن معهم الحقيقة. وإذا كان من نجاح حققته الأنظمة المستبدة في مشرقنا الحزين فهو نجاحها المذهل في بناء عروش أمجادها على أنقاض أوطانها.
ومع تشييع هذه الجنازة "التاريخية" ينتصب – وإلى الأبد – شاهد على وحشية نخبة سياسية فاشية لم تأبه لحرمة، ولم تتورع عن جرم مهما كان وضيعا!
وقد تخيلت الشاعر المصري أمل دنقل بالتحديد بسبب مقطع مؤثر من قصيدته الأكثر شهرة: "لا تصالح"، يقول أمل دنقل عن أحزان حفيدة كليب القتيل:
لا تـُصالـِح
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكـَّر
إذا لان قلبـُك للنسوة اللابسات السواد
ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة
أن بنتَ أخيكَ اليمامة
زهرةٌ تتسربل في سنوات الصبا
بثياب الحداد
كُـنتُ إن عُدتُ تعدو على درجِ القصر
تـُمسـِك ساقيَّ عند نزولي
فأرفعها وهي ضاحكةً فوق ظهر الجواد
ها هيَ الآن صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر من كلماتِ أبيها
ارتداءِ الثيابِ الجديدة
من أن يكون لها ذات يومٍ أخٌ
من أبٍ يتبسـَّم في عُرسِـها
وتعودُ إليهِ إذا الزوجُ أغضبها
وإذا زارها يتسابقُ أحفادُه نـحوَ أحضانـِه
لينالوا الهدايا
ويلهوا بلحيتهِ وهو مستسلـمٌ
يشدوا العـَمامة
لا تـُصالـِح
فما ذنبُ تلكَ اليمامة
لترى الـُعشَّ محترقا فجأةً
وهيَ تـجلسُ فوقَ الرماد؟


وهذه القصيدة التي يتم استدعاؤها دائما لإبقاء مأساة الشعب الفلسطيني (على يد الاحتلال) حية في الذاكرة، بقيت – للأسف – بكائية لا تذرف الدمع إلا على ضحايا الاحتلال أما ضحايا الاستبداد فلا بواكي لهم!
وهذه التفرقة بين جرائم "الاحتلال" وجرائم "الاستبداد" أحد أهم ملامح الخلل في الفكر السياسي العربي المعاصر، وهي فضلا عن ذلك "ثقب أسود" في منظومة الرؤية الأخلاقية لهذه النخب. وقد تذكرت هذا المقطع وتأملت صمت الصامتين..وتساءلت عن هذه اليمامة التي لا يجوز أن يختلف الموقف من مأساتها باختلاف جنسية الجاني أو الضحية، فاليمامة في الصحراء العربية هي نفسها اليمامة في أربيل أو دهوك أو جمجمال.. .. .. والجموح البعثي الفاجر كان جريمة بحق "العروبة" قبل أن يكون جريمة من اعتبرهم البعثيون "أعداء العروبة".
ورغم أن التصنيف يظل تعبيرا جهل مركب بحقائق التاريخ فإنه – في كل الأحوال – لم يكن ليجيز "استباحة" من منحهم النظام البائد وسام: "عدو"!
فحتى الخصومة – عادلة كانت أو ظالمة – لها شرف وانتهاك شرف الخصومة هو أسوأ ما ارتكبه صدام حسين على امتداد حكمه، فإذا كانت الفكرة الانقلابية قد علمت شعوبنا الاحتفاء بالغدر، فإن التعايش مع انتهاك شرف الخصومة دون الشعور بتأنيب ضمير هو الميراث الأكثر بشاعة لهذا العهد الأسود، وهؤلاء الأطفال الرمز الأكثر تعبيرا عن زمن ذهب ولم تذهب مرارته.
إن الغياب العربي عن هذا المشهد الذي يوجب الإدانة والاعتذار لأسباب أكثر عمقا من السياسة بأجنداتها، وأبعد غورا من التفكير السطحي الذي يرى العالم عبر شعارات ضيعت من عمر العراق – ودول عربية أخرى – عشرات السنين.
والسؤال الذي يبقى من هذه المراسم الجنائزية هو: لماذا لم تتطهر النخب السياسية الثقافية العربية بهذه الدماء الزكية وتلقي عن كاهلها عبء الدفاع – بالتواطؤ الصامت – عن مخازي البعث العراقي؟!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !