إنه رجل حرفته الموت ، يعيش بثوبين وقلبين ، الثوب الأول يرتديه قبل أن يدخل تلك الحجرة السوداء العفنة ، ومعه يرتدي قلبا حديديا ويدا صلبة لا تعرف التردد ليكون رسولا لعزرائيل يسلب الأشقياء من دنياهم ويسلبها منهم .
كان في البداية يشعر أن الغرفة ملأى بالأشباح ، كان يتخيل أن هذه الأشباح تجتمع في كل مرة يدخل فيها الغرفة لتقيم حفلا لاستقبال شبح جديد تخرج روحه من جسد آثم لقاء جريمة ارتكبها ، فترقص رقصة الموت على أنغام الصمت ... كان يتعجب كيف يطاوعه قلبه على أن يلف الحبل حول عنق رجل تتحرك كل أعضائه نابضة بالحياة ؛ ثم لا يتركه إلا وقد تدلى في الهواء وقد سكنت أعضاؤه .
كان ذلك في البداية ، أما الآن فقد اعتاد الأمر ، لم يعد القتل بالنسبة له سوى " أكل عيش " ، أو أوامر واجبة التنفيذ يسميها أحيانا " الواجب " .
فإذا خلع ثياب العمل ارتدى ثياب الحياة ومعها يرتدي قلب إنسان ، ثم يعود إلى منزله لتستقبله زوجته الشابة بابتسامة حانية ، وتنطلق ابنته ذات السنوات الثلاثة لتتعلق بعنقه فيخرج لها نصيبها اليومي من الحلوى فتطبع على وجنته قبلة سعيدة من شفتيها الصغيرتين تبعث في قلبه نشوة الأبوة فيحتضنها بقوة ثم يمر على شعرها الناعم بيد حانية .
في ذلك اليوم ذهب مبكرا إلى عمله فقد كان لديه مهمة سيقوم بتنفيذها في الثامنة ، ارتدى ثياب العمل ، وفي داخل الغرفة السوداء أخذ يعد العدة ؛ حبلا جديدا لعنق جديدة ، ذلك الباب الأفقي أسفل القدمين يعمل بشكل صحيح ، كل شيء جاهز ومعد وفي انتظار الضيف الجديد .
يقولون أنها امرأة في الخمسين ، قتلت زوجها الذي يكبرها ببضع سنوات _ أو بذلك حكم القاضي _ أما هي فتقول أنها مظلومة ، كلهم يقولون ذلك .
نظر من خلال باب الغرفة إلى الخارج ، كان الموكب قد ظهر ، جسدها الناحل يبدو من بعيد يترنح ويكاد أن يسقط ، ألقى نظرة أخيرة على الغرفة " كل شيء تمام "، اقترب الموكب من الباب ، وقعت عيناه على ذلك الوجه الأصفر ، يبدو مألوفا ... إنها هي ...
توسط الموكب الغرفة ، عيناها زائغتان لا تكاد ترى ما حولها ، الضابط يقرأ نص الحكم الذي نطق به القاضي ، المشاهد تتسابق قافزة إلى ذاكرته ، هي الوحيدة التي كان يناديها بكلمة ... " أمي " .
فبعد أن ماتت أمه وهي تلده ؛ حملوه إليها حيث كانت جارتهم وكان لها ولد يكبره بأيام ، فمن صدرها تشرب الغذاء والحنان ... بل والحياة .
رجل الدين يتلو عليها بعض آيات من القرآن الكريم ويذكرها بالتوبة والندم قبل الموت ، لسانها يكرر الشهادة بصورة هستيرية ، شعر بخفقان قلبه ، أراد أن يحتضنها ويبكي ، فقد مضت عدة سنوات منذ أن ترك الحارة ليتزوج بعيدا ، ويوم بعد يوم انقطع عن الحارة وانقطعت أخبارها عنه .
جاء دوره لأداء مهمته ، نظر إلى الحبل الجديد ، تذكر يوم العيد حين كان في السابعة من عمره ؛ طردته زوجة أبيه من المنزل بحجة شقاوته وأنه يخرب في المنزل ويضرب أبناءها ، حينها استقبلته هي في بيتها واشترت له ثوب العيد جديدا مع ولدها .
في آلية بطيئة أمسك بغطاء الرأس ليغطي به رأسها ، لا زالت تكرر الشهادة ، تذكر حين علمته كيف يتوضأ ويصلي ، تذكر حينما كانت تعد له الطعام كلما ذهب لزيارتها حتى لو لم يكن جائعا وكيف كانت تصر على إطعامه بيدها ، تذكر حين كان يذهب ليدفن رأسه في صدرها ويبكي من سوء معاملة زوجة أبيه .
أمسك بالحبل الجديد ليدخل رأسها في حلقته ، أخذ يحدث نفسه : هل يمكن أن أسلبها الحياة بعد أن منحتني هي إياها ؟ ولكنها مجرمة . وما يدريك لعلها بريئة ؟ لست قاضيا ، أنا فقط أنفذ الأوامر وأقوم بأداء واجبي . ولكنها أمك ؟ !!!
اقتربت يده الباردة من الذراع الحديدي استعدادا لفتح البوابة الأفقية ، قطرات العرق الغزيرة على جبينه أخذت تتسلل إلى عينيه ، للمرة الأولى يشعر أنه يرتدي الثوبين في نفس الوقت ؛ ثوب العمل وثوب الحياة ، يده الصلبة أخذت ترتجف وهي تمسك بالذراع المعدني ، صوت شهادتها لا زال يملأ أذنيه ، وصوت قلبه لا زال يردد : " إنها أمك " . بصعوبة أحكمت يده قبضتها على الذراع المعدني ، ثم ...
تراخت عضلات يده ، أدار ظهره للموجودين بالغرفة ، ألقى بنفسه في أحد الأركان جاثيا على ركبتيه وقد تعالى صوت بكائه قائلا : " لا ، لن أفعل ، لن أفعل " . لقد فشل في أداء واجبه ، لكنه شعر أنه إنسان ...
التعليقات (0)