جاءت الكلمة إثر تساؤل أحد السادة النواب حول إلقاء مثل هذه الكلمات الدينية وفي مثل هذه المناسبات في مجلس النواب وأعتبر ذلك لا ينسجم مع طبيعة الدولة المدنية مع أنه أكد من طرفه أنه صائم ومصلي ، ذلك ما أثار ردود فعل عدد من الأعضاء داخل مجلس النواب والذين أشاروا على الدكتور إبراهيم الجعفري بالحديث لغرض رد هذا التساؤل والحيلولة دون حدوث ملابسة ليس لها سابقة، فجاءت هذه الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة، وأتمّ السلام على أشرف الخلق أجمعين سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين..
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..
قال الله - تبارك وتعالى - في محكم كتابه العزيز:
((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))
هذه الأيام نعيش، وإياكم إطلالة ذكرى ولادة رسول الله (ص) التي وضعت حداً فاصلاً بين مرحلتين من حياة البشرية - مرحلة عصفت بها رياح الجاهلية، وأشاعت القتل والفسق والفجور والسرقة، ووأد البنات، وممارسة مختلف أنواع الجرائم، ومرحلة أخرى غمرت الأرض بالحب والحرية والسعادة.
رسول الله (ص) أعطى دروساً وعبراً من الجزيرة العربية إلى كل أمم العالم، وعبر من مقطعه الزمني الذي انطلق منه ليغمر البشرية في كل مراحلها اللاحقة؛ فمن الخطأ أن نختزل شخص رسول الله أو خطابه (ص) على المسلمين أو على مرحلة معيّنة، ولشدما يؤلمني أن يكتب الآخرون عن رسول الله (ص)، وهم لا يلتقون معه بالشريعة لكن يلتقون معه بالقيم والفكر والأخلاق كما كتب عنه (ويل ديورانت) في مجموعة كاملة في (48) جزءاً بـ(24) مجلداً، وهو شخص أميركي لا يمت للعرب، ولا إلى الإسلام بصلة، ولشدما يؤلمني أن يتحدث عنه الآخرون من موقع البُعد، ويتغنون باسمه الشريف حتى قال عنه (جواهر لال نهرو) في مذكراته التي كتبتها (أنديرا غاندي)، وهو رجل لا يمت إلى الإسلام بصلة، يقول: إنه محمداً استطاع أن يحوّل العرب من أمة على هامش الحياة إلى أمة تقود الحياة بزمن قياسي.. يؤلمني ذلك في الوقت الذي نجد أن بعض المسلمين لا يدركون عظمة محمد (ص) وعظمة الإسلام أو أنهم يدركون ذلك ولا يجرؤون عن التحدث بهما.
لو استطردتُ مع الذاكرة بأن نتحدث عمن قالوا عن محمد (ص) فلا يقف الحديث عند حد، وإذا تناولنا الموضوع من زاوية مدنية فلا نجد شخصاً تتجسد فيه الحقوق المدنية كمراعاة الإنسان مثل محمد بن عبدالله (ص)، محمد الذي عبر إلى الآخر يوم قال للمسلمين عندما ضاقت بهم مكة بكل ما وسعت: (اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها حاكماً لا يُظلـَم عنده أحد)، وأراد بذلك (النجاشي).
لقد عبر إلى الدين الآخر، ولا ينبغي أن نتردد أن نطرح بكل محافلنا رمز الحب والحرية في وقت تعصف العواصف، وتتهدد كرامة الإنسان، وتتهدد حريته، ويُقتـَل في كل مكان..
ينبغي أن نصدح بصوت محمد (ص) في كل ميدان من الميادين بأنه عنوان المدنية.
من الذي أنقذ المرأة من ذلك الحضيض حضيض القتل (الوأد) لا لشيء إلا لأنها أنثى؟
من الذي جعل الأسود الذي لا يُعترَف بحياته، ويضعه وزيراً للإعلام (بلال الحبشي) في أول خطوة في طريق الإسلام يأتي ببلال، ويقول له: يا بلال أذن؟
من الذي جعلنا نعبر إلى الآخر (صهيب الرومي، وسلمان الفارسي)؟
إنه محمد، وشريعة محمد.
علينا أن نقتدي به، فلا قيمة للقوانين والحياة المدنية إن لم نجد لأنفسنا مصداقاً نترسم خطاه، ونقلده، ولا قيمة للمبادئ ما لم تتجسد، وأرى مصداقاً عملياً:
((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))
هل تعرفون علامَ تدل (قد) في العربية إذا دخلت على الفعل الماضي؟
إنها تفيد الماضي، وتواكب (الحاضر)، وتتأبّد (تستمر).
هل تعرفون ما الفرق بين الأسوة والقدوة؟
القدوة أن تقتدي بأحد في زمن ما، أو من جانب معيّن، أما الأسوة فإنك تتسع بكل حياتك على كل حياته من دون استثناء.. فِعلُ رسول الله أسوة لنا في كل زمن، وفي كل مكان، ولو إن هؤلاء الناس الذين يعانون الآن من العذابات، وقد عضّتهم أنياب الظلم في كل نسيج من أنسجة الحياة يقتدون، ويتأسّون برسول الله لوضعنا حداً لهذه المآسي، ولجنـّبنا، ودرأنا عن أنفسنا غائلة الحروب.
فاتني يوم جاءت العراقية إلى القاعة، ولم أكن موجوداً هنا؛ لذا أوصل صوتي بالترحاب بهم في الوقت الذي أشعر فيه أن غياب العراقية كان خسارة برلمانية أدرك جيداً أن عودة العراقية إلى البرلمان هو مكسب وطني لكل العراقيين فالتشكيلة هذه، والتوليفة والباقة المنوّعة كالزهور في هذه القاعة تعكس تنوع المجتمع العراقي.
أنا أتعقل أن أسمع الرأي والرأي الآخر في داخل البرلمان، ولا أتعقل أن يغيب الرأي الآخر، فغياب الرأي الآخر يعني موت البرلمان.
قيمة البرلمان أي يشهد حراكاً وحركة مستمرة، وتجد فيه الرأي والرأي الآخر، لكن الذي لا أريد أن أراه، وأفجع به حين أفاجأ بتحوّل الرأي الآخر إلى قطيعة..
أتمنى أن تكون هذه التجربة قد أعطت درساً لجميع، وأخاطب كل القوائم من دون استثناء (التحالف، وكردستاني، والعراقية، وكذلك بقية الإخوة والأخوات أخاطبهم جميعاً:
أرجو أن لا يضعوا الانتماء إلى كل قائمة وإلى كل حزب في داخل قوائمهم على حساب الوحدة الوطنية العراقية.. الانتماء الوطني يجب أن يتقدم على كل الانتماءات.. الانتساب إلى قومية شرف لك، وأن تنتسب إلى مذهب شرف لك، وأن تنتمي إلى قوة سياسية شرف لك، لكنك حين تكون هذه الانتماءات سيفاً يقطع عمق العملية الوطنية فهذا ليس شرفاً..الشرف الحقيقي أننا عراقيون، وبعد ذلك يتفرّع منه نحن الانتماء الجهوي والفئوي والديني..
أتمنى أن تكون عودة العراقية قوة إلى قوتكم، ونحن نعيش وإياكم فصولاً من الإنجازات الرائعة، وكان آخرها هو انسحاب القوات الأجنبية من العراق، والذي لم يحصل ذلك لولا تضافر جهودكم الخيرة لتحقيق هذا الإنجاز..
مرة أخرى أحيّي من خلال هذا البرلمان ذكرى رسول الله (ص)، وأتمنى وإياكم أن نعيش حياته.. نعيش قلبه حين نعرض قلوبنا على قلب رسول الله.. هل لنا أن نحب، ونكره كما كان رسول الله يحب، ويكره.. نعرض عقولنا على عقل رسول الله.. هل إننا نفكر بالطريقة التي كان يفكر بها رسول الله (ص).. نعرض تصرفاتنا وسلوكنا على شخص رسول الله (ص)؛ هذا العرض على رسول الله يجعلنا نعيش رسول الله الواقع، ورسول الله العقل الكبير، ورسول الله القلب الكبير، ورسول الموقف الكبير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات (0)