- ما فيش مرواح انتي حتباتي النهارده عندي، وبعدين مش عاوزه تشوفي وصلة الرأص بتاعتي؟!
- هادا هو الشغل العدل.. أبي بدله تريكيواز.. كان يحاول تقليد عادل إمام في شاهد ما شافش حاجه.. وهو يضحك من نفسه..
- من عنيا يا حموتّي.. بس تريكيواز؟! دانت تأمر.. حخليك تغرق النهارده في بحر التريكواز..
اختفت آمال لتغير ملابسها.. وعندما جاء حمد كان يرافقه شخص مستكين تبدو عليه علامات الذلة والمسكنة، حمل زجاجتين من الخمر، وعدة لفات ورقية فاحت منها رائحة البحر والأسماك.. وبعد أن رتب الأشياء على طاولة السفرة انحني باحترام لحمد وقال: سأنتظر أسفل العمارة..
تحرك حمد في المنزل وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد، وأحضر الأكواب والثلج من الثلاجة أثناء غياب آمال.. صب لنفسه كأس ويسكي، وصب آخر لي ومد يده:
- خذي يا جميلة اشربي
- آسفة.. لا أشرب سيد حمد..
كان قد عب الكأس الأول جرعة واحدة، وصب الثاني وهو جالس بجانبي وقد رفع حاجبيه تعجباً من رفضي مشاركته الشرب وقال:
كيف تعيشين دون أن تجربي التحليق في سموات النشوة.. تجوبين العالم على صهوة جواد وانت في مكانك لا تبرحينه..
- الله الله.. إنت شاعر سيد حمد!
أطلقت الخمر لسانه، وأعجبه مديحي له فقال:
- ورب الهوى المتألق البشرة، بذراعيه الناعمتين، يحوط قرني باخوس، معانقاً فتتطاير قطرات تلمس الصدور، وتنفذ إلى القلوب وكأنها سهامه..
- هل تعلم من قائل هذه الكلمات سيد حمد؟!
- إش دعوة؟ أنا في مدرسه؟! أنا أحفظ كل الأشعار التي قيلت في الخمر يا ندوه.. بدءاً من الخيام مرورا بأوفيد معلم أصول الهوى وانتهاء بعمنا أبو نواس.
- طيب أكملّك اللي قاله كمان: النبيذ يهب الشجاعة.. ويؤجج في الرجال لواعج العاطفة المشبوبة.. ينتحر الهم غريقاً في بحر من خمر.. ويطل الضحك.. حتى المعدم منا تشرق روحه.. ينبض فرحاً..
التفت إلى حمد.. ومد يده، ووضعها على يدي وهو يقول:
- ما أصدق.. أشوف كل الحريم تافهة وسطحيات.. ما شاالله عليش جومر "قمر" وبعد تقولين الشعر؟!
- أحفظ الشعر فقط ما أقوله.. بس مش كل الحريم متل ما قلت يا سيد حمد..
- علامك والسيد حمد.. أنا حمد يا طاغيه..
فهمت منه أنه رجل عسكري.. ويهوى الشعر بكل أنواعه.. تزوج اثنتين ولكنه غير سعيد بسبب مسؤولياته الكثيرة، ومحاولة كل واحدة منهما تحاول جذبه إليها وإلى أبنائها منه على حساب الأخرى، جاء للالتحاق بدورة عسكرية لم يفصح عن ماهيتها، وحتى يرتاح قليلاً من المشاكل رفض اصطحاب أي واحدة منهن..
خرجت آمال من غرفتها آسرة ساحرة تتوهج كنار في بدلتها التركوازية..
على أنغام موسيقي إنت عمري أبدعت.. واهتز طرباً عمنا حمد، فقام يشاركها رقصها، ويمسك بها في مناطق (ممنوع الاقتراب) منها، وأخذ يرمي عليها نقوداً كثيرة وهي تضحك، وقد اطمأنت إلى أنها سلبت لبه.
عندما كان يشعر بالتعب، ويعجز عن مجاراتها في الحركة يعود ليجلس بجانبي محاولاً الالتصاق بي وهو يهمس:
- عطيني رقم تليفونك؟
- ما عندي تليفون..
- ما عليكي.. أنا بجيبلك واحد..
- هاك رقم تليفوني اتصلي علي..
دس ورقة صغيرة في يدي.. كانت آمال غارقة في وصلتها تغمز لي كلما رأت عينيه تتجولان فوق جسدي وصدري على الأخص.. لأول مرة أشعر بنظرة إعجاب أحادية، فقد كاد حمد أن يلتهمني بعينيه.. أرضت نظراته غرور الأنثى داخلي..
بعد خمس وأربعين دقيقة أنهت آمال وصلتها البديعة، وذهبت لتبديل ثيابها. نظر حمد نحوي نظرة ملتاعة، وهجم على محاولاً تقبيلي من فمي، وهو يلهث ويردد - ورائحة الخمر تفوح من أنفاسه -: إنتي وايد حلوه نداء..تيننين "تجننين"!
أزحته عني وقمت من جانبه..
خرجت آمال بقميص نوم فضي، وكأنها نجمة سقطت من السماء، مفصلاً تقاسيم جسدها العربي الممتلئ بلطف، تفوح منها روائح مبهجة أثارت قابلية حمد لتقبيلها بعنف أمامي.
قالت آمال : تعالي يا نداء.. ساعديني في تحضير الترابيزه عشان نتعشي..
- تفضلو أنتم لأني اتعشيت مع هويدا.
- أوكي إحنا حنتعشي.. وانتي خشي نامي في أودة الضيوف..
قال حمد: أبي أنام الأول وبعدين أتعشي..
قبل أن يدلف إلى غرفة النوم قال: اسمحيلي نداء.. أنا بتأسف. لا تزعليين مني.. أبي أشوفك باشر "باكر" إذا أمكن.. اتصلي علي..
أخرج من جيبه حافظة أثقلت بالنقود.. وفتحها.. وتناول منها أوراقاً مالية كثيرة وقال: هاك اشتري لتش "لك" أي شي.. وترك النقود على الطاولة بجانبي..
أدار ظهره بسرعة.. واختفى في غرفة نوم آمال..
أما هي فقد جاءت لتقول: أيوه يا عم.. عملت شغل الله ينور من غير ما تعمل أي حاجة.. مش قلت لك الرجاله دول مهاويس..
- بس أنا بديش أخدهم..
- ياخد عدوينك يا رب.. هو انت سرقتهم؟ دول جولك من عند ربنا يا مدهول!
- طيب ناوليني ملابسي من عندك..
- أنا حطتهم في أودة الضيوف، نام هنا لحد الصبح.. الوقت اتأخر.. وفاضل ساعات قليلة على الصباح..
- ضروري أروح منشان أغير ملابسي.. واستحم.. وأروح الجامعة..
- شوف يا حبيبي: البيت بيتك.. خش خد حمام، وغير لبسك، وافطر.. وإذا حبيت ترُوح حتلائي اللي ما يتسمى سواق حمد تحت في العربية.. خليه يوصلك مطرح ما انت عايز؛ لأن البيه حيقعد للضهر عندي..
- وإمتى حترتاحي وتنامي..
- آه وألف آه.. هو فيه راحة إلا في الموت يا ألبي.. خليها على الله.. يا عالم إذا كان كمان في الموت راحة ولا لأ.. يا رب سامحني.. إيه يا نداء: هو أنا ناقصاك؟ طيرت النيلة اللي شربتها من نافوخي، روُح يا عمرو يا خالد قبل ما أتوب يا خويا..
- ربنا يتوب عليك من هالشغلانه الزفت.. ويهديكي بصحيح..
- طيب ادعيلي اطبّأ عمك حمد.. وأكون الزوجة نمرة تلاته.. ووحياتك لأمشي على العجين ما الخبطه أبداً بعد كده..
- ياستي ربنا يديكي على قدّ نيتك إنتي وهويدا..
- يلا اسحب يا عين أمك.. وحشوفك في المحل.. ومتنساش تروح مع السواق.
- معقول الغلبان حيستني حمد في السياره لحد الظهر؟! شو هاي "عبودية" ليش ما يروح وبعدين يجيله لما يخلص معك؟!
- وانت مال أهلك يا واد؟! هو راضي.. هو فين حيلاقي واحد في كرم عمك حمد بيقبضه آخر النهار مبلغ وقدره؟!
احتضنتي فجأة وقبلتني قبلتين وقالت: يلا اخلع.. أشوفك بعدين..
على أبواب الفجر...
بعد أن غسلت وجهي حتى أمحو آثار المكياج وأبدلت ملابسي خرجت على أبواب الفجر.. لفحتني هبات من الهواء البارد.. وبدا قليل من النور يتسرب من كتل الغيوم المتراصة بعناية لتغطي وجه السماء.. وجدت سيارة حمد المرسيدس تنتظر أمام العمارة..
أيقظت السائق الذي كان يغط في نوم غير مريح على الكرسي، وطلبت منه توصيلي حسب أوامر السيد حمد.. حملني بكل أدب وبدون أي كلمة..
في الطريق أخرجت المبلغ الذي أعطاني إياه السيد أنطون والسيد حمد لأفاجأ بألفين ومائتي دولار أمريكي وسبعمائة دينار أردني! بهت؛ فتلك أول مرة أمسك بمثل هذا المبلغ في يدي.. وتعجبت من سخاء بعض الرجال وهوسهم بنساء غير زوجاتهم، واستعدادهم لصرف كل ما يملكون من أجلهن؛ دون أن تربطهم بهن أحياناً أي مشاعر سوى ارتعاشة لا تدوم.. وهل هناك ضرورة لسن قانون يمنع الخلل الذي يعاني منه الرجل، واتباعه أهواءه أينما ذهب؟ وخاصة أنه يستظل بعباءة نظام الزواج الذي من المفروض أن يكون مقدساً! إيه.. دنيا عجيبة.. صعب فيها تطويع النفس ورضاها بالمقسوم..
أغمضت عيني أثناء صعود السيارة الطريق الجبلي المتعرج، وقد فتحت عصا سحرية الخزانة الخاصة لكل حكايات هويدا وآمال، وانسال الوجع إلى وجداني وأنا أتأمل طريق الآلام التي مضيا خلالها، وأوصلتهما لما وصلتا إليه:
آمال طفلة التسع سنوات، التي انتزعت من أحضان أمها، ومن المدرسة، لتعمل خادمة في شقة عائلة خليجية في القاهرة..
استعبدت طوال خمس سنوات لم تكن ترى إخوتها أو أمها سوى ساعات قليلة كل عام، أما والدها القاسي فقد كان يأتي ليحصل أجرتها الشهرية دون أن تراه أحياناً.. كانت جميلة، وجسدها جسد امرأة صغيرة، رغم الأربعة عشر ربيعاً..
ذات يوم رآها رجل في الستين من عمره كان في زيارة العائلة التي تعمل عندهم.. وقع في حب جسدها الفائر، عرض على والدها الزواج منها، ودفع له الكثير بمقياس أبيها الفقير والقليل جداً بمقياسه.. وافق الأب الجشع، واستخرج لها شهادة ميلاد مزورة لتصبح بموجبها بنت سبعة عشر عاماً، وتم الزواج دون أن تدري؛ رغم معارضة أمها وبكائها وتوسلاتها الكثيرة، وآمالها في أن تراها عروساً لشخص يلائمها..
تم شحنها مع زوجها المتصابي العجوز إلى الخليج، شرط ألا يقترب منها إلا حين بلوغها السادسة عشرة.. في الطائرة حذرها العجوز من أن تنطق بأي شيء عن كونها زوجته.. في منزله الكبير الذي ضم ثلاث زوجات وواحداً وعشرين بنتاً وولداً من كل الأعمار.. أراد استرضاء زوجته الأولى التي ليس لها أولاد، فقال لها: لقد أتيت لك بفتاة صغيرة وقوية لتبقى بجانبك ليل نهار.. وكانت تلك السيدة الطيبة تحظى بمنزلة عالية بين زوجتيه، ويحترمها الأولاد والبنات وينادونها "أمي العُودة".. عندما رأتها أول مرة قالت لزوجها: أنت جايب النار جنب الحطب؟ إنها صغيرة وجميلة، وأخاف عليها من الأولاد..
ضحك الزوج العجوز الكاذب وقال لها: إن الأولاد تربيتك، وهم يخافون ربهم، ثم إنك عندما تنتهين منها لن تنام مع الخدم خارج المنزل، بل ستسكن الغرفة التي فوق السطح، والمتصلة بجرس في غرفتك لاستدعائها أي وقت تريدين..
سعدت الزوجة الحنون التي كانت تعاملها كابنة لها، فأحبتها آمال، وجعلتها ملجأ لها وقت الضيق، تبكي على صدرها، وتسمعها تردد:
- سود الله وجه أبوك يا آمال.. كم هو قاس وشرير..
كانت آمال لا تخرج إلا معها وبأمرها، وفي نهاية اليوم تصعد إلى غرفتها فوق سطح المنزل مهدودة، تخاف وحدتها وغربتها؛ رغم طيب تلك السيدة الحنون، وتنزل في الصباح الباكر فتذهب إلى المطبخ الخارجي، وتتناول من الطباخ إفطار سيدتها، وتحظى هي بكوب من الشاي بالحليب وقطعة من الخبز المدهون بالجبن حسب طلبها، وتنتظر في غرفتها حتى تستدعيها سيدتها بجرس منها..
ذات يوم صحت آمال من نومها مذعورة على صوت طرق على الباب.. قامت من نومها:
- مين بيخبط؟
- افتحي. ميزت صوت سيدها، فلملمت نفسها وفتحت بسرعة، وهي متعجبة من زيارته الليلية.. دخل بسرعة وأغلق الباب وقال: كيفك آمال؟
- الحمد لله يا سيدي..
- ما تجولين سيدي.. أنا زوجك يا آمال..
لم تكن تستوعب معنى الكلمة إلا بعد أن همس لها:
- ادخلي الحمام وتسبحي ، البسي هذا..
كان في يده قميص شفاف لونه سماوي فاتح، له روب من الدانتيل..
- ولكن يا سيدي....
- ما ابغي كلام.. يلا روحي تسبحي ..
ابتعدت عنه باكية وهي تردد: الست لو شافتك هنا يا سيدي حتدبحني..
- أنا صاحب البيت هنى .. وأجولش أنا زوجك..
خرجت من الحمام وشعرها الطويل المنسدل مبلل.. غفا القميص السماوي فوق جسدها الندي الأملس، ووقفت في زاوية الغرفة خجلى من عري لم تعتده..
نظر إليها العجوز باشتهاء وقال لها: ما أروعك.. وايد جميله يا آمال.. تعالي.
نظرت إليه بخوف، ولأول مرة تراه عارياً، والشهوة تطل من عينيه.
اقترب منها ودفعها إلى السرير.. هجم عليها بقسوة.. لم يرحمها.. شرب من عذابها ووجعها مرة واثنتين وثلاثاً حتى ارتوى وتركها خلفه تنزف حتى الصباح، وعندما استدعتها سيدتها لم ترد.. صعدت إليها لتجدها عائمة في بركة من الدماء، صرخت صرخة عالية، صعدت على أثرها الزوجتان الصغيرتان وبناتهن وأولادهن.
- اتصلن بالإسعاف..
فتحت عينيها لتجد سيدتها معها في الغرفة تمسك بيدها، وهي تقول: لا بارك الله في الفياجرا وفيك يا مبارك..
هذت آمال تحت تأثير البنج بما حدث لها على يد زوجها مبارك..
كان شرط السيدة حتى ترضى أن يطلق مبارك آمال ويرجعها إلى أهلها، لم تصدق آمال أنها عائدة إلى وطنها، وفرحت كثيراً.. ولكنها قررت ألا تعود لأهلها.. حاولت أن تعمل في أي مجال آخر غير خدمة البيوت..
التقطتها يد محتال آثم أوهمها بالمجد والزواج، وقدمها لترقص في ملهى صديق له، ومن يومها أصبحت تنتقل من يد ليد، حتى حطت بها الرحال في الأردن مع زوجها المحتال الذي نهب كل ما وفرته من مال ومصاغ وتركها وهرب..
رفعت قضية طلاق من زوجها الفار.. وما تزال القضية معلقة لحين حضور الزوج! عملت راقصة في ملهى ليلي.. وما تزال حتى الآن تنتقم من كل الرجال، في شخص مبارك العجوز، ووالدها الجشع، وزوجها المحتال..
أما هويدا التي اضطرت للعيش مع عمتها بعد موت والديها على أثر انفجار قنبلة في الباص الذي كان يقلهما إلى بيروت لشراء بعض الحاجيات الضرورية، وقد تركا هويدا يومها حتى لا تغيب عن مدرستها عند الجيران، كانت إذ ذاك في العاشرة من عمرها، تدرس في الصف الخامس الابتدائي، في جنوب لبنان بمنطقة تسمى "علما" عندما ذهبت إلى عمتها التي كانت تقيم في قرية صغيرة لا تبعد كثيراً عن قريتها الجميلة وأهلها الطيبين في منطقة "دير ميماس" حيث عاشت هناك بمفردها؛ لأنها كانت قبيحة الشكل واللسان، وكل من حولها كان يشكو سوء خلقها.. كانت تعيش على بيع بعض الأشغال اليدوية التي تقوم بصناعتها.. كثيرة التأفف.. ولا يرضيها أي شيء في الحياة التي ملأتها حنقاً على كل البشر.. ولعدم وجود أقارب آخرين يقومون على رعاية هويدا اضطرت أن تقوم بتلك المهمة الصعبة عليها..
انصب كل تفكيرها على أن تهب هويدا للكنيسة، لتصبح راهبة، وتخفف من الإنفاق عليها، خاصة أنها منعتها من الذهاب إلى المدرسة، واعتمدت عليها في عمل كل شيء في المنزل؛ حتى تعمل بأكلتها كما كانت تقول لها، ويا ويلها لو أنها رفضت أن تذهب معها إلى الكنيسة لأداء الصلوات..
ولكن كان لهويدا رأي آخر، حيث وقعت في حب ابن الجيران بسام، الدرزي الذي أيقظ فيها حس المرأة، برسائله الملتهبة.. هربت معه إلى بيروت حيث يعمل، وكانت إذ ذاك قد أتمت السابعة عشرة من سنوات الشظف والقسوة والقهر مع عمتها.. وهناك تزوجا - بعيداً عن أهله وعمتها - زواجاً مدنيّاً..
ذاقت هويدا الحب، ونهلت منه صغيرة على يد زوجها وحبيبها الرائع الحنون.. مضت سنتان على زواجها، ولم تعرف عن عمتها أية أخبار.. ولم تحاول أن تعرف.. أما بسام فلم يقطع عادته في الذهاب إلى أهله أسبوعيّاً؛ على الرغم من عدم استقبالهم له، وإصرارهم على طلب واحد - إذا أراد صلحاً معهم - أن يطلقها ويعود إليهم، ولكن أبداً لم يكن يفكر سوى في إسعادها..
لم يكن ينغص عليهما إلا تأخر الحمل؛ حتى كان اليوم الذي ذهبت إلى الطبيب الذي أخبرها بحملها بعد إجراء الفحص لها.. لم تصدق يومها أنها حامل، فأسرعت بالعودة من عند الطبيب، وأيقظت بساماً بقبلة طويلة، وأخبرته بالبشارة.. من فرحته حملها ودار بها في شقتهما الصغيرة، ولم ينزلها حتى تعب..
لم تمر أيام على فرحتهما حتى استقبلت خبر موته برصاص قناص، أثناء تراشق النار بين فصيلين، وهو عائد من عمله في مطبعة لإحدى الجرائد الشهيرة ببيروت..
رفض أهل بسام استلام جثمانه لدفنه هناك، فدفن بمساعدة زملائه في المطبعة، في مقابر الصدقة.. وبعد الانتهاء من كل الأمور المتعلقة بدفن بسام عادت إلى عمتها التي رفضت أن تستقبلها مثل أهل بسام أيضاً على الرغم من معرفتهم بأنها حامل، فاضطرت أن تعود إلى بيروت بحثاً عن عمل..
وجدت نفسها وحيدة وغريبة، بقلب جزع، وحيرة لا حدود لها؛ فقد كان بسام هو كل حياتها، لا تعرف أحداً غيره وصديقه فيصل المسلم السني الذي كان يزوره أحياناً، ويعمل معه في المطبعة نفسها..
اتصلت بفيصل، وطلبت منه أن يؤمن لها عملاً، فسألها: أين ستقيم؟ فقالت إنها لا تزال في شقتها، ولكنها ستنتقل منها قريباً..
خلال وقت قصير كان أمام باب الشقة يجمع حاجياتها، واستضافها في بيته القريب. كان فيصل يعمل في المطابع مثل بسام رحمه الله، يغيب عنها طوال الليل، ويأتيها في النهار بعد أن تكون قد انتبهت من نومها، فتعد له طعام الإفطار، فيشكرها ويدخل لينام حتى العصر، ليصحو منتعشاً منتصباً أمامها بقامته الفارعة، ووجهه الوسيم، محاولاً إضحاكها وتسليتها بشتى الوسائل، دون أن يأتي على ذكر صديقه.. وكثيراً ما كان يسألها في مرح:
- تري ماذا أعد لنا الشيف على الغذاء؟
- كل اللي بدك اياه..
- كيف البيبي اليوم؟
- الحمد لله.. ما لاقيتلي شغل يا فيصل؟
أنا عم تَئِّل عليك..
- شو هيدا الكلام اللي بيزعل؟! هيدا البيت بيتك أولاً.. وأنا كلي تحت أمرك.. وإن شاء الله تجيبي لنا بسام الصغير.. وبعدها يحلها ألف حلال..
طفرت دموعها، وقد تذكرت ما هي فيه..
اقترب منها فيصل، وربت على يدها برفق قائلاً:
أنا آسف هويدا.. ما كان قصدي.
مسحت دموعها وهمست: ولا يهمك فيصل.. الله كريم..
تناولا الغذاء دون كلام، وشربا القهوة، واستأذن فيصل ليخرج إلى العمل، وقال لها: لا تنسي تسكري الباب منيح من جوه.. ولا تفتحي لحدا..
تلك كانت توصيته اليومية لها، ثم يغادرها بعد أن يترك لها بعض النقود، حتى إذا احتاجت شيئا تستطيع أن تشتريه..
كان منزل فيصل الصغير في منطقة مزدحمة بالأسواق والمقاهي التي كانت تغلق أبوابها مبكراً؛ خوفاً من اشتعال فتيل القتال بين الفصائل المختلفة في أي وقت، ودون سابق إنذار.. وكانت تستطيع أن تطلب أي شيء من الناطور الذي تعامل معها برفق شديد، وكأنها ابنته؛ شاكراً السيد فيصل على حسن أخلاقه..
كانت تتسلي وقت غياب فيصل بتنظيف البيت، وإعداد الطعام، ومن ثم ترخي العنان لدموعها الساخنة، وهي تسترجع قراءة قصاقيص الورق التي كان بسام المثقف الغارق في أوجاع الوطن الممزق يرسلها لها، عندما كان يأتي لزيارة أهله، مبدياً فيها ولعه بها وبحبها،
وأحياناً كانت تستعصي عليها كلماته الفصحى الحانية فتنتظر حتى يأتي ليفسرها لها..
تنساب الذكريات أمامها، وهي تمسك بالرسائل المختصرة القصيرة، النافذة كسهم والتي كان يعطرها بأنفاسه قبل أن يبعثها لها، تفتحها على مهل، وتمسك برسالته الأولى التي توالت بعدها الرسائل من طرفه فقط؛ لأنها كانت تقول له دوماً: بحر كلماتك الجميل يغرقني، وأخشى أن أرد عليك فتهرب مني..
تتذكر كيف كان يحتضنها بجانب النبع - مكان لقائهما - وهو يردد: سأعد عشر رسائل فقط؛ وإن لم تتزوجيني بعدها راحت عليكي.. وبالفعل قد تزوجا بعد رسالته العاشرة لها!
تتصفح الرسائل بترتيبها رسالة رسالة.. وتستغرق مع سحر المشاعر:
الرسالة الأولى:
أميرتي الجميلة: المسافة بين الزمن المحال واللحظة الممكنة هي المسافة نفسها بين نبضك الساحر وقلبك الشفاف.. بين العين وحدود الرؤية؛ فإلى متى ستظل قارورة عطرك الأثير وجسدك الكريستالي يشاكس شبكة الصياد؟!
أسيرة الزمن المحال: لقد وقعت أسيرك وانتهيت؛ فهل من يد تمسح عن وجهي سطوة الاختلاف؟!
الرسالة الثانية:
حبيبتي هويدا: لماذا تبخلين علي؟
هل يجب أن تكون الأميرات الجميلات بخيلات وقاسيات، وهل كل الهويدات متعبات؟
هل لأن أرض أيامك كفت عن الدوران، بعد مسيرة ربيع السابعة عشرة، وأعطتك من خصبها، وجعلتك نجمة في ليالي؟
ألآن شمسك تضاعف نارها داخلي، ولأنك قادرة على أن تؤدبي الحزن بابتسامة منك، وقادرة على أن تطعمي جسدك الكريستالي بالكبرياء إلى حد التخمة، ولأنك غير قادرة على إيقاف تدفق حبي على أرضك السهلة المنيعة؟!
الرسالة الثالثة:
مطر عباءتك يدق نافذة روحي! وعطر جسدك يحرضني على أن أعبئ جيوبي بالنجوم، وأترقب طلتك من الشباك لأنثر ما في جيوبي من دراري يسعدها لو أشبهتك..
أفكر فيك..
الرسالة الرابعة:
ها أنت تفرضين حصاراً جديداً علي، حصار اختلاف ديانتينا الذي لا يود الاختباء بين الأوراق، كيف يلتقي في أعرافنا درزي ومسيحية؟! دعينا نتوضأ بعبير الإنسانية يا أميرتي.. يا أميرة العطر المشاكس.
الرسالة الخامسة:
أنا لا أملك إنكار كرمك حبيبتي حتى في امتلائك بالأسئلة، وأشعر بأنها المرة الأولى التي أتذوق فيها قبلة من أميرة معبأة بالأسئلة.. أليس غريباً أن يقتلني العطش، وفي عطر جسدك يكمن الغرق؟ أليس غريباً أن يفرقنا دين ينص على المحبة؟!
صباحك وردي الحضور.
الرسالة السادسة:
دفء يديك تركته يتنزه في أوردة الوجد، فهو وحده القادر على أن يزرع الابتسامة في قلوب البسطاء مثلي، وأن يجعل النشوة تنام مطمئنة فوق أناملي!
الرسالة السابعة:
أسألك بالله الذي نجله أجمعين: هل هناك فرق بين الوردة والعطر الذي ينسكب منها؟
هل هناك فرق بيني وبينك كوني درزيّاً وكونك مسيحية؟
إننا نخبئ الدين بين الضلوع , وردة تمرح بطفولة , على أرجوحة من نور في حنايا القلب..
الرسالة الثامنة:
سأقايضك: امنحيني قبضة من عطرك، ونذراً بأن تكوني لي.. وسأمنحك مسافة من أوردة الوجد، أو حتى إقطاعية من قلب أخضر!
سأفخر بأننا قادرون على أن نبني قصراً من الرمال تحت زخات المطر، وأن نبني مدينة من الثلج تحت خط الاستواء؛ لأن بريق عينيك، وسحر ابتسامتك وتفاصيلك المستأثرة بكل الجمال دون نساء الأرض، جرفت البقية الباقية من صمودي الهش أمام جاذبيتك؛ فكيف لا أعرف أن أغرق في حبك وبهائك؟
الرسالة التاسعة:
موافقتك أخيراً على الزواج كفيلة بأن تجعلني عاشقاً أبديّاً لتضاريس جسدك وقلبك، وأسير لذة قادمة لا تنتهي؛ لأهديك من قلب قلبي وردة الثريا، تنير عتمة الروح، وحتى نلتقي تكفيني قطرة من عطر يدك، لتصافحني وتنعشني إذا مست جبهتي , وتمنحني نوراً بألف نور؛ لأن في داخلي حنيناً إلى حنان يديك، وشوقاً لعينيك، نافذتي للروح العطشى للارتواء..
الرسالة العاشرة:
اليوم موعدنا حبيبتي.. قلبي في انتظارك مساءً، يهدهد أشياءه العطشى إليك.. ويفتفت على وجنتيك تحية: أ ح ب ك.. أ م ي ر ت ي
غامت في عيني هويدا الجميلتين الدموع، ونامت محتضنة ذكرى حبيبها.. في الشهر الثامن جاءها المخاض.. أسرع بها فيصل إلى المستشفي حيث وضعت طفلاً ذكراً ولكنه.. ويا للحسرة.. كان ميتاً..
بكته كثيراً وهزتها الأحزان.. وطلبت من فيصل أن تغادر، حتى لا يسيء له ولها الجيران.. أسعدها الله بطلب فيصل ليدها قائلاً إنه كان ينتظر أن تضع حملها..
تعجبت من نفسها وهي توافق على الزواج منه، وكأنها نسيت حبها الكبير لبسام..
عاشت مع فيصل حتى سن السادسة والعشرين حياة هادئة هانئة.. كان جمالها قرة عين فيصل..لم تحمل مرة أخرى فظن أن العيب منه، وبدأ يتابع الأطباء الذين أكدوا أنه لا ولن يستطيع أن يكون له ولد لعيب خلقي غير قابل للعلاج. طلقها طلقة بائنة دون أن تدري، حتى تتزوج وتحيا حياتها كما قال لها.. كان سخيّاً فلم يظلمها، وطلب منها إن هي احتاجت له فسيكون تحت أمرها، حيث سيعود لقريته قرب سهل عكار..
بعد طلاقها من فيصل تقاذفتها الأيام والظروف التعيسة.. مرت بها ظروف تجبر الصخر على الانحناء.. ولأنها لم تكن تملك سوى جمالها فقد تقاذفتها الأيادي القذرة، ورضيت أن يلتهمها الذئاب لقمة سائغة، وذهبت إلى الأردن على يد إحداهن كانت تعمل راقصة هناك، قامت باستخراج جواز سفر لها، وأرسلتها لتعمل في ملهىً ليلي، مضيفة وراقصة - إن احتاج الأمر - ومسلية للزبائن.. هناك التقت بآمال فأصبحتا صديقتين، تتاجران بجسديهما، وتحرقهما الغربة في أتونها، وتلسعهما الحاجة للحياة الكريمة بنارها، دون العثور عليها..
شعر نداء بدموعه حارة تهمي، فبكى نفسه وبكى من أجلهما..
عندما وصل إلى غرفته وجد صديقه جهاداً جالساً في انتظاره أمام الباب، وقد رآه ينزل من السيارة المرسيدس فقال:
ولك نداء وين كنت يا عرص.. شو بتشتغل من ورايا..
احتضن نداء صديقه وهو يضحك، وتنفس أريج أرضه من خلاله..
- تعا ادخل هلأ بنحكي..
دخلا الغرفة التي كانت ذات مدخل خاص، بمعزل عن الفيلا الكبيرة وكأنها بنيت من أجل عزلة نداء..
أفرغ جهاد شنطته وهو يقول:
- والله حلوة غرفتك يا ملعون.. جبت لك شوية عنب على دين كيفك من بتاح تكفا، وكمان شوية برتقال وفطاير مشكلة وكعك بالتمر ومعمول من الوالدة وسلامات وأشواج من أختك سحر ومن ديفيد ورافاييل وزيدان السوري ومحمد عبد السلام المصري..
- أوكي حط كل إشي على جنب.. واحكيلي شو اللي جابك..
- يخرب ذوقك.. شو ما بدك تشوفني؟ هادا جزائي اللي بدي أطمن على أحوالك؟ على كل أنا ما راح أطول عندك..
- يا غبي بدي اياك تطول.. أنا مشتأجلك كتيير..
- شوف يا سيدي: أنا جاي استشيرك بشغله مهمة.. أنا بدي اتزوج!
- مبروك.. ومين المحظوظه إن شا الله؟
- راحيل.. إبنة المعلم رافاييل..
- شو !؟ واو.. آخرتك يهودية يا مصخمط على عينك؟ خلصوا بنات العرب؟
- الحب يا نداء.. أنا كثير بحبها.. وهي حامل كمان.. وأبوي وأمي مش موافجين وبدهم يزوجوني بنت عمي.
- وعرفوا إنها حامل؟
- إنت هبيلة ولا هبيله؟ كيف بدي أجولّهم؟ لو عرفوا لطخُّوني..
- وين كنت تشوفها؟ واتأكدت أن الحمل منك يا حمار؟
- آه يا عرص.. أنا حمار؟ ولك ما انخلق لسه اللي يضحك علي، وبالذات في هادي الأمور، اطمئن أنا بالفعل كنت أول واحد.. وأنت عارف هدول ما بيكذبوا، إذا كان قبلك ألف فحيقولولك ما بيهمهم.. بناتنا بس اللي بيكذبوا، بيعملوا عمليات الترقيع طول الوجت، والرجل العربي الحمار المغفل بيصدق إنه الأول والأخير!
- لا تحكي عن بناتنا ولا تجمع وحياة أبوك.. ضَلّك يا خويا في إسرائيل، بس لا تجيب سيرة بناتنا..
- ما شاالله.. والله صاير مصلح اجتماعي كمان..
- متى حتتزوجها يا فالح؟
- ما بعرف.. بدها شي ست شهور بس تخلص كليتها..
- راح تسلم ولا بدك تتزوج زواج مدني إنتا التاني؟ ما هي موضه هالأيام..
- وانت حتجول فيها.. هي بالفعل تقرا الآن عن الدين الإسلامي، وجالت لي اتركني كما أنا حتى اقتنع.. وأنا بموت فيها، سواء أسلمت أم لم تسلم..
- حلوه يا جهاد؟
- يا سلام! هادا سؤال تسأله؟ أخوك ما بيوجع غير واجف.. فلقة قمر.. مره بحق الله.. تعطيك حلاوة الدنيا لتتجرعها في لحظة.. في السرير فرس، لا تنتظر المبادرة مني كنسائنا العربيات.. هي تخترقني كل وقت وأي وقت يحلو لها.. صريحة في حبها.. شافتني عند أبوها، ومن يومها واحنا بنشوف بعض في المخزن أو في غرفتي لما يكون محمد عبد السلام في المناوبة، تيجي لعندي، وترجع الفجر منشان يشوفها أبوها قبل ما يروح شغله، وهي تروح على جامعتها.. وازيدك من الشعر بيت: جالت لابوها إنها حامل وبدها تتزوجني.. زعل شوي منها، وبعدين جالها إنتي حرة.. هادا اختيارك..
- ما شاء الله.. ربنا يزيدك من نعيمه يا سيدي.. وكمان بدك تتزوج جامعية وانت ما معك إلا ثانوية..
- الحب ما بده شهادات ولا خبرة عمل، الحب ما بده يكون وهم وحلم بعيد المنال..
- وكمان صرت شاعر يا زفت..
- أنا الآن أتسلى بالقراءة.. فقد فتحت راحيل قريحتى على أشياء وأشياء..
- يا سبحان الله..
- وبدي كمان أكمل بالجامعة انتساب لأي داهية.. لأنها بتدرس سياسة واقتصاد.. يعني فضيحه يا زلمه..
- والله انها هبله اللي حبتك..
- بتعرف محمد عبد السلام؟ تزوج عربيه من عرب الـ48 وما بده يرجع لمصر أبداً.
- وليش؟ هو ممنوع يرجع؟
- لأ بس لانه الناس هناك ما راح تفهم انه تزوج عربية بل سيقولون إنها يهودية وخاصة إنها تحمل الهوية الإسرائيلية،، ومصر تحديداً وعلى المستوي الشعبي لا تقبل أي تطبيع لعلاقات مع اليهود فما بالك بالزواج.. وخاصة أن عرب الـ48 ينظر إليهم من الطرفين سواء من العرب أم من اليهود بحذر شديد..
- وكمان صرت تفهم في السياسة؟
- طبعا كله من راحيل يا واد..
- طيب إيه رأيك تروح معي الكلية بعد شوي، نفطر هناك، وبعدين نتمشي شويه في عمان، تشوفها وتشتري اللي خاطرك فيه..
- لأ أنا تعبان الآن.. بدي أنام.. روح على كليتك، ولما ترجع نروح أي مكان نتمشى لأنه ضروري أكون على الجسر بكره الفجر.. منشان عندي شغل كتير..
- أوكي.. الغرفة غرفتك.. تصرف متل ما بدك حتى ارجع..
خرجت إلى الطريق أفكر في جهاد وقصة حبه، وأحرقت قلبي الحسرات، الكل يحب ويُحَب وأنا مكانك سر.. محتار بين منطقتين.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
فجأة قررت ألا أذهب إلى الكلية، وأعرج على السوق لأشتري بعض الأغراض وأوصي على منسف من محلات جبري، حتى أكرم صديقي جهاداً..
انتهيت من رحلة التسوق سريعاً وعدت إلى البيت.. كان جهاد لا يزال نائماً.. وضعت الأشياء التي اشتريتها في مكانها، وجلست أمام الكمبيوتر في انتظار أن يأتي الغداء لأوقظ جهاداً الذي علا شخيره كالعادة..
في الواحدة دق جرس الباب، وتناولت الطعام من صبي المطعم وأعطيته النقود. رتبت الأكل على الطاولة وناديت على جهاد حتى يصحو ففوجئ بما أحضرت وغضب مني قائلاً:
- شو هادا اللي سويته؟ هو انا غريب، الله لا يعطيك عافيه؛ خربت ميزانيتك هالأسبوع.
- يا عمي قول يا باسط: أنا ولله الحمد بدرس وبشتغل براتب كويس، وما بحتاج حتى أختي سحر إلا في النادر..
- برافو عليك يا نداء.. رجل ولا كل الرجال.. والله العظيم أنا بحبك جداً.. إنت نعم الصديق، واللي مش عارف بيقول كف عدس لأنا بنحكم على الناس بالمظاهر.. شو هادا القرف؟ امتى حنتغير ونصير رجال؟
جلسنا إلى الطعام نأكل صامتين، حتى قطع جهاد الصمت بسؤال:
- شو ما في إيشي جديد في حياتك.. لا عملية.. لا نسوان.. ولا حتى رجال..
- الشهادة أولاً.. وبعدين الشغل وبعدين العملية شو رأيك بهالحياة..
- تسكر النفس.. وان شاء الله ما بعيش حياة متلها أبداً.. بس أنا مش مصدقك وإذا كانت هادي حياتك وين كنت امبارح للفجر..
بل غيتس شخصيّاً 7
قص نداء كالعادة القصة كاملة على جهاد، وهو الذي ما اعتاد أن يخفي عنه شيئاً.. وما حدث له مع آمال وهويدا في تلك الليلة بالتفصيل. ضحك جهاد حتى دمعت عيناه وهو يقول: والله فكرة حلوه يا نداء، إنت بالفعل مثل القمر، ولما تلبس متل البنات متأكد إنك حتكون صرعه..
- أنا مش فاضي لهادي الأشياء، على الرغم من ربحها الوفير والمضمون؛ فأمامي أهداف محددة، ولن أحيد عنها.. كما أني أدرك أن لشكلي فائدة اقتصادية، وللجمال سطوة كما تعلم.. ولأسلوب التعامل أيضاً سلطة، وأستطيع أن أجني ذهباً من هذا، لكن لا أرضاه لنفسي.. وأين أذهب بعلمي وثقافتي وإخلاصي وحبي لله.. قد لا يكون الأمر لكوني متديناً أم لا، لكن تلك حدود وخطوط حمراء، وضعتها بنفسي ولا أستطيع تجاوزها..
قام جهاد من مكانه واحتضنني وقال: يخرب عقلك، والله بألف رجل من اللي مسجلين في شهادات ميلادهم "رجل"، بالفعل أنت يفخر بك من يعرفك والنعم منك يا نداء.. لم أذهب إلى المحل أيضاً في ذلك اليوم، واعتذرت للسيدة "شذا" بسبب وجود صديقي جهاد..
تجولنا في عمان حتى المساء، اشترى صديقي بعض الهدايا، وقميص نوم أبيض أوصيته بشرائه ليوم الدخلة على راحيل.. قرصني في مؤخرتي وهو يكركر:
- دماتك خفاف يالملعون..
غادر جهاد إلى إسرائيل مارّاً بأهله مرة ثانية، وعدت كما كنت إلى الدراسة والعمل.. أنهيت دراستي بنجاح، وحصلت على شهادة دبلوم في تصميم المواقع بتميز، بل فزت كذلك في مسابقة طرحتها شركة ميكروسوفت عن أجمل تصميم يعبر عن تداعيات ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر وتأثيره الكوني.. وقد كان مركزي السابع على العالم من بين آلاف المتسابقين، فوصلتني شهادة موقعة من بيل جيتس شخصيّاً، وشيك بعشرة آلاف دولار!
فرحت كثيراً بالمبلغ، واعتبرته نواة للتوفير من أجل العملية؛ هذا بالإضافة إلى المبلغ الذي منحني إياه أنطون وحمد.. كانوا تقريباً ثلاثة عشر ألف دولار.. وقبل زيارتي إلى بيت لحم اشتريت طقم ذهب لحبيبتي وأمي سحر ومجموعة كرافتات لزوجها الغالي أرفقتها بدعوات من قلبي بأن يرزقهما الله ولو طفلاً واحداً يلون حياتهما بالبهجة التي يستحقانها، كما اشتريت خاتماً جميلاً لزوجة جهاد، وزجاجة عطر له..
بعد حصولي على المركز السابع ونشر صوري في الجرائد التي أفاضت في الحديث عن عبقريتي وإبداعي، تهافتت شركات التصميم علي..
اخترت واحدة منها، واشترطت أن يكون دوامي نصف دوام فقط.. تابعت عملي صباحاً في الشركة ومساءً في المحل وتوسعت علاقاتي، ونجحت في اجتذاب عدد كبير من الزبونات للمحل..
ومع إعجاب الرجال بشكلي الفاشن أصبحت مدمناً لجمالي، وتقاطيع وجهي، ولون عيني الرمادي، ونهدي المشتعلين باستدارة بديعة، وبشرتي البيضاء الملساء الصافية..
وخلعتُ قشرة الرجل ...
آه منك يا آمال! ماذا فعلت بي؟ الله يسامحك..
منذ أن فعلت بي ما فعلت، وخلعت قشرة الرجل عني في منزلها، وأنا أسير للمرأة داخلي: أتأملها.. أتحسسها في جسدي.. وعندما أنفرد بنفسي أجدني أرتدي الملابس النسائية الزاهية الألوان والشفافة والمفتوحة عند الصدر، لتظهر جماله الذي كنت أخفيه عن أعين الرجال بملابسي الرجالية الواسعة.. وأظل أدور في انتشاء أمام المرآة..والنار تأكل جوارحي!
لا معنى لشيء في هذه الحياة إلا الوحدة والموت "إيرمان سالاكرو"
في تلك الفترة كان جسدي كله يؤلمني، ولا أدري السبب؟
ذات يوم اعتمدت قليلاً على يدي فإذا بها تتفتت، وكأن عظامي أصبحت كتلة من تراب.. أسرعت بالاتصال بالدكتور حاييم بعد أن تم تجبيس يدي في مستشفي الحسين بعمان، وكان السؤال الملح: لماذا تتفتت عظامي؟ هل هي الآثار الجانبية للهرمونات الذكرية التي أتناولها؟
سألته كذلك عن عصبيتي التي أصبحت واستثارتي من أي شيء، وكل شيء، وكرهي الشديد للناس مع أنه كره في رأيي مبرر.
قال لي الدكتور حاييم إن كل ما يحدث لي هو شيء طبيعي؛ لأن الهرمونات الذكرية لم تناسب حالتي منذ البداية، كما أنها لن تناسبني فيما بعد.. وتكسر العظام والمزاج السيئ كلها أمور طبيعية في هذه الحالة حيث أعاني من حالة أكثر تعقيداً من الكلاين فلتر تسمى: Partial Androgen Insensitivity Syndrome وتعني حالة تبلد الجسد، وعدم تفاعله مع الهرمونات الذكرية؛ فلقد خمل الهرمون، ولم ينجح في تقليل الأعراض الأنثوية.
وأردف د. حاييم: لقد أثبت تحليل دمك قبل أن تغادر إسرائيل أن الهرمونات لا تعمل مع احتمال إصابتك باللوكيميا؛ لذلك أوصيك بعمل تحليل لدمك كل ثلاثة أشهر، وأن تتوقف عن تعاطي الهرمونات الذكرية فوراً.. وغيرها إلى الأنثوية، ثم تابع مع طبيب مختص بالأردن أو مصر؛ حيث إن من الممكن إجراء عمليات التحويل بعد عدة فحوصات، فحالتك واضحة لا لبس فيها..
صدمني ما قاله الدكتور حاييم.. إذن ها هو الموت يلوح لي. ترى هل كانت الهرمونات الأنثوية هي الأنسب منذ البداية؟
أكان من الممكن تلافي كل هذا لو ساعدتني أمي ومن حولي في الاختيار الصحيح؟
جن جنوني.. أصبت بالصدمة، وزادت كوابيسي حتى صار النوم رعباً.. ليس من المرض الذي ترك بصماته فوق جسدي الضعيف فحسب، ولكن من كل شيء وأي شيء.
هدم أمام عيني كل ما بنيت..
آه يا روحي.. يا ذاتي المتعبة.. يا عمري الذي ضاع بين هذا وذاك..
تباً للجميع.. تباً لأبي.. تباً للمرض.. تباً لأمي.. تباً للذكورة والرجولة والأنوثة والعار.. تباً لي ولحياتي.. تباً لعزرائيل إن لم يغيبني بالموت..
لم لا تنقذني بالموت يا رباه.. أنقذني يا رب.. خذني عندك.. ترفق بعبدك الذي لم يسئ لأحد.. خذني لرحابك يا الله فأنا في حاجة إليك..
وبكيت ما شاء لي البكاء وحيداً منكسراً..
بئس ما فعلت بنفسي.. وبئس ما فعله المجتمع بي..
اختار جميع من حولي الهرمونات الذكرية إلا أنا..
يالله خضعت لإرادة الجميع غيري أنا.. صغر سني، ورغبة من حولي أخطأت بي الطريق.. يا حبيبي.. اعني يا معين..
على أن أبدأ من أول المشوار، وأتعاطى الهرمونات الأنثوية، وبمتابعة طبيب في عمان.. لم يكن باليد حيلة.. اتكلت على الله.. وماذا سيحدث لي أكثر مما حدث بعد خيانة كل من حولي..
مرت الأيام بي مملة ثقيلة.. أتعاطى الهرمونات، وأعمل وأعمل حتى أنسى.. أراوح ما بين الشركة في الصباح والمحل في المساء..
أنستني الأيام ما أنا فيه وكنت أتابع تغييرات جسدي والتحليلات الدورية.. اكتسبت خبرة ممتازة في التصميم، وطورت نفسي، وأبحرت عميقاً في عالم الكمبيوتر.. كنت أظل ساعات طويلة أمامه.. جعلته صديقي الحميم أتوافق معه تارة، وأتشاجر تارة أخرى.
تعاملت معه كإنسان عاقل.. أحادثه بصمت.. وهو يستمع ويطيع..
- اشتغل، اخرس، يلا حبيبي، والله إزا ما بتشتغل يا اخو الـ 60 شر... بيكفِّي بلادة.. وبعدين معك.. أصبح جزءاً مني وأصبحت جزءاً منه..
هكذا كنت أقضي أيامي.. في الشارع ربع رجل، يبحث عن عيون النساء، وفي المنزل ثلاثة أرباع امرأة بجمال صارخ فتاك، تبحث عن صدر رجل تدفن فيه همومها، وخوفها من المجهول..
آه ما أصعبها من حياة.. كم أتمني أن يزورني الموت..
إذا كان الشيطان وراء الباب فإن إغلاق الشباك لا يفيد شيئاً"كوستلو"
كنت جالساً في المحل أقرأ في كتاب يتميز بركاكة الترجمة وسوءها "سيارة الليكساس وشجرة الزيتون".. وهو محاولة من توماس فريدمان لفهم العولمة.
باغتني صوت نسائي رقيق يقول: إنه تافه لا يستحق القراءة؛ لأنه يمجد أمريكا؛ إذ يقول فيه: تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقرّاً للقوة.. ولا توجد دولة أكثر قابلية لذلك من الولايات المتحدة!! شفت أكتر من هيك استفزاز.
رفعت بصري فرأيت صبية مكتملة شهية، تمسحني بعينين جريئتين من أسفل لأعلى..
وقفت وتركت الكتاب جانباً وقلت: أول مرة أعرف أن هناك جمالاً يقرأ ويحفظ أيضاً.. أمرك.
رأيت نظرتها وقد تسمرت فوق صدري وأعتقد أنها كانت تخمن: ما أنا على التحديد؟
وبالفعل سألتني: أنت رجل أم امرأة؟
لست أعرف سبب الجرأة التي هبطت فجأه علي؛ فلأول مرة في حياتي أنطقها صريحة دون أي تردد: أنا الاثنين.. أنا الذكر.. وأنا الأنثى.. فمن تريدين منهما؟
قالت: مع أن الصوت لذكر فإنني أرغب في الأنثى.
اعتقدت في البداية أنها تريد التحدث معي بأسلوب الأنثى التي تقدر على فهم الأنثى..
لكن اعترافي الصريح كانت نتيجته صراحة متبادلة.
أكملت حديثها: أنا لا أحب الرجال.. ومن الواضح أن للمرأة فيك حظّاً كبيراً؛ فليكن تعاملي إذن مع أنثاك التي تحياها، وأتمنى لو أصبحنا صديقتين..
- اسمي نهال..
- تشرفنا.
لاحظت وميضاً دافئاً يتدفق من عينيها.. وبعين الرجل داخلي تفحصتها جيداً: قامة فارعة بلطف.. بشرة مشربة بحمرة.. نهدان قويان نافران كتفاحة ناضجة تصرخ لاقتطافها.. شعر قصير أشقر ناعم، تنسدل غرة منه فوق جبينها، لا تخفي حاجبيها المشدوين بأناقة وتهذيب.. عينان جريئتان لونتهما أشعة الشمس التي تملأ المحل بلون عسلي فاتح، وفم يحظى بأجمل شفتين مكتنزتين.. كأنهما على استعداد دائم للتقبيل.. سمعتها تقول:
- على فكرة: أنا دخلت المحل لمجرد النظر فقط، ولكن يبدو أن حظي سيكون مبهراً؛ فأنا أبحث منذ زمن عن صديق أو صديقة.. وها أنا أقع على الاثنين في واحد.. وهذا شيء فريد ونادر.
قلت لها وقد كنت كالغريق الذي يتشبث بقشة: أتمنى ذلك.. والآن.. ماذا تريدين ؟
- لا شيء.. أدرب نفسي على حياة جديدة.. حياة النساء!
لاحظت نظرة التعجب التي لاحت في عيني وقالت: أنا عدت منذ فترة زمنية قصيرة لأنوثتي, بعد أن كنت قد أقصيتها تماماً؛ متعاملة في شكلي ومظهري مع الرجل داخلي..
وكأني وقعت على كنز فقلت لها: هل لي أن أراك على فنجان قهوة بالخارج.
فاجأتني.. بل لطمتني عندما سألت: أليس لك منزل نلتقي فيه..
سجلت العنوان ورقم الهاتف سريعاً على ورقة حتى أتفرغ لزبونة كانت قد أوصتني على بعض الأغراض..
تناولت الورقة مني.. وقبل أن تغادر سألت: اليوم متى ستغلق المحل؟
- في العاشرة سأكون بالبيت.
- العاشرة والنصف سأكون عندك..
سألت نفسي كثيراً: كيف ستهرب من أهلها.. وتأتيني في العاشرة والنصف.. هل تعيش بمفردها في عمان.. ماذا تريد مني؟ مئات من الأسئلة حفرت أخاديد في نفسي دون ارتواء عندما كنت أشتري لي ولها سندويتشات شاورما وبيبسي.
أتت في موعدها تماماً وبنفس ملابسها، القميص الأحمر بوروده الصغيرة التي لدقة رسمها تبدو فواحة بعطرها.. بنطلون الجينز الذي التصق بنصفها الأسفل كاشفاً عن جزء كبير من أنوثتها..
لم أكن أتوقع أبداً ما حدث.. فقد خلعت القميص أولاً ليفر نهداها من أسرهما؛ إذ لم تكن ترتدي صدرية تحت القميص.. ورمت بالبنطلون جانباً ووقفت كفينوس.. تنتظر القربان من مريديها..
- أعطني بيجامتك أو أي شيء؛ لأني لن ألتف طوال الليل بملاءة السرير، ما لك واقفاً هكذا ا كأنك لم تر جسد امرأة من قبل.. كيف والثلثان منك أنثى؟
ودون سابق إنذار هجمت علي، وراحت تفك أزرار قميصي ليخرج صدري هارباً من قيده.. وضعت يدي لأخفي ما ظهر مني فأبعدتهما ووضعت يديها فوقهما وقالت:
إياك أن تخجل من كونك هكذا.. ثم نظرت إلى وهمست: كم أنت جميلة يا نداء!
لست أدري ما الذي تحرك في جسدي وأنا مستكين بين يديها، وقد أخرستني جرأتها..
- على فكرة يا نداء: إذا أحببت أن تخلع البنطلون فلتفعل..
صارعتني نفسي: كيف أكشف لها عن عاري؟ كيف أدعها ترى رايتي غير الخفاقة؟
كانت تدور في المنزل عارية تماماً وأنا أفكر في البحث عن سبيل مشرف للانسحاب..
فتحت الورق عن السندويتشات، وأفرغت البيبسي في كوبين، وأجلستني بجانبها على الكنبة، ومدت يدها لتقرصني من
التعليقات (0)