· أصداء الحرمان.. والممنوع في بيت الخبز |
2 |
· |
كلما مرت أمامي عذابات الشجار في أرجاء الدار هممت بالصراخ: يا وردة الراحة، ويا قلب الذكورة النائمة في شجر الزيتون، ويا علقم التأوهات الغريبة.. هيئوا طقوسكم للاحتفاء بذكورتي على جذع نخلة، وعلموا الضوء أن يبدد عتمتي ووحشتي الشديدة..
عندما بلغت السادسة من عمري كنت أعاني من رقة مفرطة في الطبع والروح.. رقة لا تتناغم مع طفل يشق الغبار.. ويشاكس طواحين الهواء، وها هو يخاطب الأشباح وأشباه الرجال.. واختلال يعبث بروحي لا أفهمه، وآلام جسدية تلم بي بين الحين والآخر، ولكني بشكل عام صرت أفضل من ذي قبل، أصبحت أخرج من البيت لأمشي على غير هدى.. أستكشف ما حولي ماضياً عبر الأزقة الضيقة.. أمسح بيدي على الجدران القديمة لمدينتي حتى أجد أطراف أصابعي وقد تشققت، فألعق دماء مدينتي "بيت لحم" المدينة النبيلة الكريمة الشامخة "بيت الإله لاحاما" كما تذكر ألواح تل العمارنة.. مدينتي الخصبة التي تقبع تحت قدمي مدينة القدس مسقط رأس المسيح عليه السلام، تنتشر فيها حقول القمح والشعير والزيتون والكروم. "كانت سحر أختي تصر على تلقيني هذا الجزء التاريخي" منزلنا القديم الذي يقع وسط الحارات المتراصة والشوارع الضيقة يبهرني، يلهب روحي، ويناديني للمشي قربه وحوله.. غير مبالٍ بالأطفال من حولي يتضاحكون ويتصايحون ويتعاركون وأنا أنظر إليهم مذهولاً..
لم أتشاجر مع أحدهم البتة من قبل، لم أحاول حتى أن أستفز أي واحد منهم، خاصة أولئك الذين اعتادوا أن ينعتونني بـ "نداء البنوتة"..
أنتهي من جولتي اليومية، ترافقني الوحدة التأمل في كل ما حولي، ثم أعود للبيت.. أغسل نفسي من أدران الناس والأطفال والشوارع التي علقت بي.. أنام في حضن أمي نوماً هنيئاً أصحو منه مذعوراً على صوت أبي وهو يهدر:
- افهمي جيداً يا ساشا: أنا لن أرضى بأن أصبح لبانة تحت ضروس الجميع آخر عمري في المدينة.. نداء ولد يعني ولد.. وقد اتفقت مع المزين على ختانه.
كانت أمي ترد عليه بصوت هامس حتى أظل نائماً كما تعتقد:
- طبعاً يا أحمد "نداء ولد ونص كمان"، ولكن كل ما أطلبه منك هو أن نأخذه إلى طبيب لختانه، ولا داعي للعم "صالح" المزين..
- وما له صالح؟ كل شباب المدينة تختنوا على يديه!
تعودت أن أسمع صراخهما وهما يتشاحنان؛ لإصرار أمي التي تتبع حاستها السادسة، وقلبها المفعم بالأمومة الرائقة، وهي تدرك بأن هناك خللاً في تركيبتي لا تعرفه، فتتمسك بعرضي على طبيب، وكانت - بعد أن تفشل محاولاتها في إقناعه - تطفئ نار دموعها بالنظر في عيني الضاحكتين، واحتضان جسدي الضعيف الصغير، محاولة أن تتناسى ما يؤرقها حول نوع جنسي - وعلى استحياء - وحتى تتأكد من صدق حدسها وهي تتحسسني قائلة:
- ما رأيك في حمام دافئ أفرك فيه جسمك؟
تعلمت أن أرعى نفسي كشجرة منكسرة تداوي قلبها الجريح دون مساعدة أحد، وخاصة عندما كان أبي يداهم غرفتي ليلقي في وجهي بتلك الممنوعات، وأنا منكمش في فراشي، تفر دموعي فزعاً.. حتى إذا أدار ظهره أحتضن نفسي الممزقة، وأنكفئ على هواجسي وهلعي، مجترّاً اللامعني، ومرارة البحث عن وجود، وذكورة بعيدة جداً عن وعيي وإدراكي.. وعندما أحاول يائساً استدرار الرجولة الضائعة، وأتذكر شجار أبي وفزع أمي من ضجيجه، تتساقط دموعي جمرات في فراشي فلا أنام، ولا أقدر حتى على الرقاد.
- ااااه يا أبتي....
أموت من عجزي عن إبهاجك، وأموت أكثر من حزني على أمي، وأتعجب من ممنوعاته ونواهيه لي ولها!
النوم في حضن أمي ممنوع!
الهمس في الكلام ممنوع!
اللعب بلعب أختي سحر ممنوع!
اللعب في الشارع مع الفتيات ممنوع!
النوم في غير غرفتي مع أحد ممنوع!
عند مخاطبتي أي أحد على أن أنظر إلى عينيه مباشرة!
التحدث بصوت منخفض عندما أطلب أي شيء ممنوع!
كانت تلك قوانينه التي لم أشعر بأهميتها يوماً، تجلدني بسياط الرجولة التي كثيراً ما كان يتشدق بها.. وكنت أعتقد بأن كلام الجيران وأصدقائه عند رؤيتي، وإصرارهم على أني غير طبيعي، وشكه الدائم في صحة كلام أمي بأني "ولد ونصف" كل هذا جعله يتعامل بشدة معي، رافضاً بكبريائه الذكوري أن تكون له نطفة مختلة، وضعت داخلي لسبب لا يعلمه.
يا قرة عيني يا سحر: لن أنسي دموعك أنت وأمي بعد إصرار الوالد على دعوة أصدقائه لحضور حفل ختاني، وإخلاله بوعد أمي بأن يقوم طبيب بعملية الختان لي.. لن أنسي ما حييت الرعب الذي عشته للحظات ,وأنا مقيد عارياً إلا من خوفي وألمي وخجلي , وأنا أري كل العيون تقتحم حرمة جسدي وقدسية حياتي، متعلقة بعضوي الذكري الذي سيقوم بقطع جزء منه عمي صالح المزين.. حتى أتطهر كسنة نبينا محمد عليه السلام، كما قال لي الوالد، ثلاثة أيام بلياليها قبل تلك العملية، وأبي يجلس إلى ليكرر أحد نواهيه: إياك والبكاء فإنه ليس من شيم الرجال..
ولست أدري لم كل تلك الحماسة والفرح غير المبرر لقطع جزء مني بدون إرادتي وبلا حول ولا قوة وقد خلقني الله هكذا؟!
ألم يكن قادراً على تجنبي الألم والمهانة على يد أقرب الناس لي؟
ألم يكن من المفروض أن أترك حتى أكبر وأقرر إذا كنت بالفعل أريد التخلص من تلك الجلدة أم لا؟
وما الحكمة من تلك الاحتفالية اللا إنسانية الموجعة، وأنا عاجز، وغير قادر على المقاومة، ولا حتى البكاء؟
أحكم أبي تقييد يدي، واحتضنني بقسوة من الخلف.. كادت أن تكسر أضلعي الضعيفة.. وأمسك عمي أسعد بقدمي اليمنى، وعمي محمود باليسرى، وأجلساني أرضاً أمام عمي صالح الذي نظر إلى عضوي، وهو يحمل سكيناً حادة، يلمع نصلها أمام عيني.. أمسك بالسكين وقلبه بين أصابعه، وجعل يهمهم بينه وبين نفسه.. وفجأة قال:
- يا سيد أحمد: لا أستطيع أن أطهره؛ فعضوه أصغر من أن يقطع منه، عليك بطبيب مختص؛ فهذا أفضل..
رد والدي بجفاء: ماذا تعني؟ قل إنك أصبحت عجوزاً خرفاً أعمى، وصرت أجبن من أن تختن الآن.. نداء سليم ولا بد من تختينه..
أرخي عمي أسعد وعمي محمود من قبضتيهما.. لم أستطع حبس آلامي ودموعي.. سمعت أحدهم يقترح: خذه إلى المستشفي يا أحمد.. هذا أفضل..
فجأة نزلت كف الوالد فوق خدي ليطفئ خيبته وخجله أمام الجميع وصرخ في قائلاً: ألم أقل لك إن البكاء للنساء يا عرص؟
اختفيت لمدة يومين داخل ذاتي ، لم تقبل نفسي الطعام، خاصة وأنا أتذكر الرعب الذي لفني وأنا أرى سكين عمي صالح وهو يلوح بها أمامي.. وكم من مرات تخيلت الوجع والألم والدماء، لو تمت تلك العملية، فأنتفض من نومي جزعاً، لأجد أمي الصغيرة سحر بجانبي تهدهدني وتبكي معي..
رفض والدي الذهاب بي إلى طبيب.. تخلف عن عمله أياماً لا أدري عددها، بعد أن انتشر الأمر في المدينة، وكنت كثيراً ما أسمعه يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ وهو يتساءل: ما هي حكمتك يا رب؟ أعلمني إياها حتى أفهم.. بعد خمس عشرة سنة من الحنين لنطفة مني تمشي على الأرض تعلي اسمي.. ترسل لي بحثالة لا هي ولد ولا هي بنت.. لماذا أنا؟! ثم يبكي بصوت عال يمزق نياط القلب، وأمي بجانبه تبكي صامتة ذاهلة عما حولها من شدة ما تعاني من ألم..
وعلى غير توقع مات أبي.. امتطى ظهر الموت فجأة ورحل.. رأيت جثمانه مسجًّى فوق السرير، والقسوة تلف وجهه رغم إغلاق عينيه، نافذتيه على العالم..
تري إلى أين سيُذهب به؟ إلى الجنة أم النار؟
أبعد كل هذا القهر الذي شربته منه يدخل الجنة؟
ولماذا تبدو ملامحه ساكنة، لا تنم عن شيء؟
هل سيلقى الله ويعاتبه على هديته التي لم يتقبلها يوماً؟
حاول بعض الرجال إخراجي من الغرفة، ولكني أصررت على البقاء حتى النهاية.. عم علي جارنا - زوج جمانة صديقة أمي - أحضر قماشاً كثيراً أبيض.. وأتي السيد محمود زوج راشيل بخليط من العطور العربية النفاذة.. أما حنا فقد كان يجيء ويذهب بين المطبخ وغرفة النوم محملاً بأوانٍ مليئة بالماء الدافئ..
حمل الرجلان جثة أبي ووضعاها على الأرض فوق قطعة قماش، وخلعا عنه ملابسه، وغطياه بقطعة أخرى من القماش من بداية منطقة الخصر.. انساب الماء الفاتر فوق بلاط الغرفة، وتعالت تمتمات السيد محمود وابن خال والدي آخر أقربائه بالأدعية التي تُقرأ أثناء التغسيل.. وبعد أن انتهيا من الماء، صبّا فوق جسده الكثير من الروائح التي لن تخرج من أنفي أبداً رغم السنين؛ فللموت رائحة..
جففا الجثة، وبدءا في عملية التكفين الأخيرة، حتى إذا انتهيا واختفى وجه والدي انفجرت بالبكاء..
خرجت من الغرفة، واتجهت حيث أمي التي التصقت بها سحر، كانتا تبكيانه ومعهما نساء أخريات.. قبلت يد أمي وقلت لها:
أنا ذاهب مع بقية الرجال للصلاة ومن ثم سنتجه إلى مقابر البلدة.. كانت تلك أول مرة أشعر بمشاعر رجولية تنتابني، ولكن للضرورة أحكام.
ارتفع صوت أمي بالبكاء، وانتحبت سحر، وصاحت بقية النساء.. اجتذبتني إحداهن وعصرتني في حضنها، من بين رائحة جسدها التي دهمتني، سمعتها تقول:
شد حيلك يا نداء.. أنت الرجل بعد أبيك..
تخلصت منها بعد أن شعرت بالاختناق، وأنا أهمس بيني وبين نفسي: لا أريد أن أكون بديلاً لهذا الرجل الذي رحل فجأة بقسوة، غير مبالٍ بأمي وأختي..
كثيرٌ من الرجال مضوا خلف جنازته، ولأول مرة أدرك بأن غالبية سكان الحي قد أحبوه وأثنوا على أخلاقه.
دُفن الوالد، وانتهت مراسم العزاء المملة، شعرت أخيراً بأني عصفور بغير جناحين.. أنتقل في كل ركن من أركان منزلنا بدون نظرة ازدراء أو استخفاف.. الحمد لله.. الآن ستبدأ الحياة..
ثمّ أمر لا يمكن إنكاره، كما لا يمكن الفرار منه؛ إنه الشارع وما أدراك ما الشارع؟ تلك المدرسة التي نتعلم فيها المستور والمحظور، المدرسة التي تذيـبنا كتلة واحدة.. نتقاسم في دهاليزها الضحكة الندية وهمومنا الصغيرة، نبلل جباهنا بعرق الجري خلف النضج البطيء، والخصوبة المتعثرة.
السابعة من العمر المذبوح كانت بداية جديدة لكي أخرج من منزلي، وأواجه العالم، وأصبح مثل أي طفل آخر.. كم كانت فرحتي شديدة وأنا أرى أمي واستعداداتها لدخولي المدرسة، لكنها – ويا ليتها ما كانت - باتت من أشد السنوات إيلاماً لي وإذلالاً، فقد واجهت نذالة زملائي وأقراني من الأولاد الذين لا يختلفون في تكوينهم وطريقة تفكيرهم الفطري الذكوري عن المرأة.. عن السادة الكبار من الذكور، وإن تشدقوا بغير ذلك. من قال بأن الأطفال أبرياء!؟
إن عقدنا جميعاً تتشكل خلال تلك المرحلة ,وعبر تعليقاتهم؛ لتذكرنا بأنهم مثال حي على اللؤم والنذالة والاستغلال..
وها أنا ندااااء الذي لم تكن ملامحه الجميلة الأنثوية غير مقبولة، وأنا أدرس بجانب البنين في نفس المدرسة التي رفضتني في البداية، ولكن مع ضغط أمي قبلني المدير..
سبقتني قصة ختاني الفاشلة أينما يممت وجهي، وشهدت براعة في الإهانات من الطلاب، والتي تعلموها من مدرستهم الأولي "الأهل" وإساءات كانت تطحن نفسي أبسطها:
ابتعد عنا؛ أنت لست ولداً!
أمي قالت لي: لا تلعب مع البنات.
بنت أنت أم ولد؟
لم تكن بيدي حيلة.. كنت أبكي كلما انفردت بنفسي.. وأنصت إلى قلبي وهو يكاد من الحزن يتوقف، وأدقق في شكلي ولا أستوعب شيئاً، وأتساءل بيني وبين نفسي: من أكون؟ أخليطاً من خير وشر؟ أم من رهبة وفتون؟
وعلى هزهزات الحيرة وشواطئها البعيدة الغامضة أغفو، تطاردني الكوابيس، فأصحو مذعوراً لأجد يدي وقد اندست تحت منامتي أتلمس عضوي الصغير وأداعبه، ثم فجأة تتردد صرخات أولاد المدرسة في غرفتي: أنت ملعون.. ابتعد عنا!
أنتبه متلفتاً في فراشي، وساحباً يدي بسرعة، لأرى الجدران مطلية بضحكات الصغار، وانكسارات الفرحة في جوف أمي وأختي.
مع هذه اللحظات الحارقة تعلقت بالوحدة، في وقت كنت أحتاج فيه إلى الرفقة واللهو مثل الأخرين.. لكن تهمتي لا تغتفر، ففي المجتمعات المجرمة لن نجد بريئاً.
اتسعت دائرة الاتهامات والإهانات وتأليف النكات، ولم تقتصر على الطلبة فقط؛ بل امتدت إلى الأساتذة الكرام الذين استغلوني لتأديب الآخرين من الطلاب، والسخرية من نعومة وجمال ملامحي، فحرمت من المشاركة في أي نشاط طلابي أو تسلية جماعية تحت شعار: "ممنوع البنات" وهكذا تعلمت أن أكتم وجعي... أتدثر بالراحة فقط وقت الإجازات..
وما أدري، إذا يممت وجهاً أريـــــد الخـــير أيهـــــما يلينــي
هــــل الخير الذي أنا أبتغيـه أم الشر الذي هو يبتغيني؟!
(المثقب العبدي)
كيف أزهو باقتطاف زهرة رابية، وأنا يا قارئي لم أتطهر بعد من رغوة الإثم الطافح في فناء المدرسة، وحجرة الناظر؟! تلك هي الحقيقة المرة، حقيقة أن يفاجئني صحو الزمان، فأندس تحت جلدي مدعياً التخفي، ولكن لا خفاء، ولا ظهور!
منذ دخولي للمدرسة ولمسي طباع الأولاد الجافة التي لا براءة فيها أدركت أن هناك صنفين لا ثالث لهما: الأول من يسلم مؤخرته ليعيش بسلام، والآخر من يأخذها ليؤمن لهم الحماية..
في الصف الثالث الابتدائي طفح الكيل ولأنني كنت أقص على أختي (والدتي الصغيرة) سحر كل ما يدور معي من إساءات تزهق روحي، تقدمت هي بالشكوى للسيد مدير المدرسة، ذاكرة له عن مضايقات الطلاب لي..
استدعاني المدير الذي لم أكن أحبه إلى مكتبه، وبدأ حديثه معي، رابتاً بيده الغليظة فوق شعري المنسدل، وصوته المزعج يتسلل إلى أذني بجرأة وقحة:
- لماذا لم تأت إليّ مباشرة، وتحكِ لي عن الذين يضايقونك؟
لم ينتظر إجابة مني، وتمعن في ملامحي وكأنه يراني لأول مرة وقال: أنت جميل جداً يا نداء، إذا استمعت لكلامي وفعلت ما سأطلبه منك سأجعل كل الطلاب يخافونك، ونظر في عيني وابتسامة خبيثة ترتسم فوق ملامحه الأربعينية، غضضت من بصري وبصوت هامس رددت:
- أشكرك يا أستاذ..
كانت النزوة الشيطانية التي تشتعل جذوتها فجأة تجول في عينيه.. رأيته يتجه لباب الغرفة ويضع المفتاح في جيبه. توجست شرّاً وأنا أراه يتقدم تجاهي مبتسماً ابتسامة خبيثة، ثم بدأ يتحسس جسدي ووجهي باشتهاء!
- نداء.. اخلع البنطلون؟
بهت واحتلني خوف مجهول وأجبت بضعف واستكانة:
- أنا آسف يا أستاذ.. لا أستطيع.
- ولم يا حبيبي أنا أريد الاطمئنان عليك..
- أنا آسف.. لا أستطيع.. أمي قالت لي: إياك أن يلمسك أحد..
تجهم وجهه وصرخ بحدة:
- ماذا تعني ؟ عندما أقول لك شيئاً يجب أن تفعله وإلا..........
جذبني من شعري بغتة، وفح بأنفاسه اللاهثة، وحملني ثم كبني على وجهي فوق المكتب، وبدأ بنزع البنطلون عني فبدأت ابكي..
نزع بنطلونه بتوتر وهو يفح: إياك أن أسمع صوتك وإلا جلدتك.
حاول اغتصابي وإصبعه الغليظ يخترق لحمي..
حتى الآن لا أذكر كيف استطعت التملص من يديه، والهرب عبر النافذة المطلة على الحديقة الخلفية..
أخذته المفاجأة وتردد صوته يهدر ورائي:
- قسماً عظماً لأجعل أيامك هنا سوداء يا خ...................
اختبأت في حمام المدرسة، وأغلقت الباب وجلست خلفه.. شعرت بنار تشتعل في جسدي وعقلي، فيما كنت أحس بخط من الدم ينسال، بكيت ما شاء لي البكاء.
انتظرت حتى انتهاء الدوام وخروج كل الطلاب، وتسللت إلى الصف، حملت حقيبتي والخوف يشلني، وعندما رآني حارس المدرسة قال مشفقاً ومتعجباً:
- أين كنت يا نداء؟ لقد ذهب كل الأولاد؟
فتح لي البوابة وحاول أن يربت فوق كتفي إلا أنني فزعت، وخرجت مسرعاً، ومشيت ومشيت.. لا أدري إلى أين!
زالت معالم الأماكن.. ذابت.. وخطواتي الثقيلة الخائفة المتألمة تدق الأرض.. يلفني الارتياب والشك والخوف والوجع.
حين وصلت منزلنا ورأتني أمي هلعت لمنظري واضطراب ملابسي، ولاحظت احمرار عيني، فأصرت على معرفة سبب بكائي، ولسبب لا أدركه حتى الآن لم أبح لها بالأمر.. غسلت بقايا الدماء التي علقت بسروالي الداخلي بسرية تامة، وتذكرت بإشفاق وجه أمي والهلع البادي عليه:
آه يا أمي يا حبيبتي.. لا أريد لكِ أحزاناً فوق أحزانك..
لا أريد أن أرى نظرة ألم تتجول في عينيك الجميلتين..
أريد السكينة تورق داخل نفسك المعذبة بي..
أنت من يمسح دمعي.. ويجبر قلبي الكسير..
ترى من يأخذ بيدي لحدائق اليقين حتى أعرف من أنا؟
ولمن أشكو صدعي ومزيج الجراح المسكوب في قلبي؟
أثناء الطابور الصباحي في اليوم التالي لنجاتي من بين براثنه، أفقت على صوته ينادي اسمي عبر الميكروفون آمراً إياي بالصعود إلى المنصة.. تعثرت في خجلي والأسئلة تركض في رأسي:
- ترى ماذا يريد مني بعد فعلته النكراء؟
باغتني أمام جموع الطلاب، وجذبني من شعري صارخاً:
- مدرستنا لا مكان فيها للمخنثين! ( كانت تلك أول مرة أسمع فيها هذا التوصيف) مدرستنا مصنع الرجال وليست للبنات.. شعرك هذا سنتخلص منه اليوم؛ حتى تسترجل وتكون عبرة للآخرين
لم يكن شعري أطول مما هو عليه عند الكثير من الطلبة الذين كان لديهم من الحظ ما يكفي لفصل جيناتهم عن أي سمة من السمات الأنثوية وقت تكوينهم؛ لكن في مجتمع يضم كل المظالم والبغضاء وانتهاك الآخر تموت النفوس ولا تحيا.
وسط بكائي وضعفي وقلة حيلتي أمسك بمقص في يده، وراح يقص شعري وهو يسرد ويسهب للطلاب عن ماهية الفروق الأساسية بين الأولاد والبنات.
بعد أن انتهى من انتصاره أمام الطلاب، قال لي: لا تذهب للصف وانتظرني في المكتب، ثم هددني متوعداً: إن نطقت بشيء عما حدث في اليوم السابق فسأقتلك. ما تزال ملامح هذا المدير محفورة في ذاكرتي، ولم أزل رغم السنين ألتقطها من زواياها، أحفظها، وأبقي عليها علامة من علامات الانحراف الخفي في مؤسساتنا التربوية،
أسأل نفسي أحياناً:
- كم من الطلاب راودهم المدير الفاضل عن أنفسهم؟ وكم واحداً منهم استطاع الهروب عبر النافذة.
ما أبشع أن تستقر القساوة في قلوب البشر الذين تلقوا تعاليمهم الأخلاقية من دساتير الذئاب، فملكوا الاستعداد لنهشك - حتى لو كنت قديساً - بلا ذنب جنيته.
رفضت الذهاب للمدرسة. وكان رفضي قاطعاً، على الرغم من ضغط الوالدة.. رضخت أمي لطلبي بعد موافقة أختي سحر التي كانت قد أنهت دراستها الجامعية بجامعة بير زيت، وبدأت الاستعداد لنيل الماجستير في اللغات..
حولت أمي أوراقي للدراسة المنزلية. وهكذا لم أكن أغادر منزلنا إلا للضرورة القصوى، وتحديداً وقت الامتحانات..
كانت أمي الصغيرة وقدوتي البديعة سحر خير معين لي.. وبمساعدتها حصلت على الابتدائية والإعدادية. كانت معظم أوقاتي فارغة كنفسي تماماً، جليستي ورفيقتي الوحدة، وصباحات من التعب والمرارة.
مع وحدتي كنت أشعر بالهواء يتسلل تحت ثيابي وينحني؛ خشية أن يلامس جسدي غير المحدد الهوية، لأرحل مع هواجسي وسنواتي القليلة وأنا أتحسسه لأتعرف على سره الخفي، الذي لاك الرابعة عشرة من عمري بلا طائل..
وكان جسدي يشتعل بهدوء...
ولسبب لا أدركه كانت تلك المرحلة لوحة من شقاء - بكل تفاصيلها - وواقعاً مريضاً متجهماً وصعباً، دعاني إلى الضجر والمرض والفتور؛ فقد أمضيت نصف وقتي أو – إن لم أبالغ - ثلاثة أرباعه ما بين المستشفيات العامة والعيادات الخاصة، أشكو أوجاعاً رهيبة في منطقة الحوض وحول البطن، جعلتني أشعر بروحي خالية، وكأنها تتجول بي في ضباب مزيف..
كنت أبكي ليل نهار آلامي التي انتشرت، وأعاني تعسف الأطباء وجهلهم، وإصرارهم على أنني أعاني من المرارة، أو ربما الزائدة؛ لذا اقتصرت كل الفحوصات على هذين الاحتمالين حتى اختفت الأوجاع فجأة.. وبلا مبرر..
تواريت ونفسي خلف الأيام.. وكم تمنيت أن تغرق في النوم السنوات حتى لا تقتلني الحسرات، وتلهبني بشظاياها التي فتحت سراديب من نار داخل شراييني لتلتهم الرابعة عشرة من عمري دون أن أدرك من أنا؟!
شكوت لأمي الصغيرة سحر فهمست وهي تهدهدني: اسمع ما قاله الشاعر:
لا تخشها يا أخي الصغير
ادخلها بضراعة عصفور شتوي
انس بأنك مريض
وأنك ما بين ذكر وأنثي
لا تنطفئ يا صديقي الصغير
ولا تنم في نقاط خائفة
سنواتي الأولى التي قضيتها ما بين النظر والتأمل جعلتني أبدو أكبر من عمري بكثير..
أنظر إلى أمي التي كنت أراها طيلة الوقت محنية فوق لوحاتها، أو مقرفصة في المطبخ وهي تعد الطعام دون أن تحتج.. كانت تنهض من وقت لآخر تتمطي كي تطرد الوجع، ولتنشر في البيت روائح طبخها الشهي.. تساعدها أحياناً أختي سحر إذا كانت غير مشغولة بدراستها في الجامعة أو بقراءاتها المتنوعة أو أساعدها، أنا أحيانا كي أطرد الملل.
السيده الجسد ليست تلميذه للشيطان...
في جلسات الصفا ووقت الفراغ كانت ترسم أوجاعها بالفرشاة، وتصب ألوانها الباهرة فوق لوحة، أو تدعو صديقاتها على صحن تبولة، وفنجان من القهوة، وبعض من فطائرها البديعة.. راشيل وعبلة وجمانة.. صديقاتها المقربات، وزميلاتها في التدريس، واللواتي أعرف عنهن وأزواجهن كل شيء؛ بحكم أنهن لا يخجلن مني؛ باعتباري جزءً منهن.
عبلة المسيحية، ذات الوجه الطفولي البريء، والجسد الذي لا تطفئه نار، الجريئة دون حذر، الجميلة التي دوماً تشتكي عجلة زوجها، والذي ما استطاع أبداً أن يجعلها تتدفق أنهاراً بين يديه.. كانت غالباً ما تنهي شكواها بالسؤال المعتاد:
- تري كم عدد النساء مثلي اللواتي لا يشعرن بثورة أجسادهن مع أزواجهن؟
ثم تبدأ موالها الحزين: آه ما أتعسني وأنا أعلم بأن هناك نساء تدور الدنيا بهن، ويتعلقن بالنجوم في كل مرة يأتيهن أزواجهن؟ ثم فجأة تضحك ضحكة لاهية، تداري بها ضيقها، ثم تسأل دون أن تنتظر الإجابة: ماذا أفعل، وحنا أبداً لا يرويني؟
تضحك أمي وراشيل وجمانة على أسئلة عبله وحديثها، ولا يبدين تعليقاً، فتستفزهن بكلماتها: والمسيح الحي لو كان فيه طلاق لطلقته.
ترد راشيل اليهودية، الرقيقة كنسمة بحرية، والتي أحبت محموداً المسلم، وتزوجته، وعاشت معه في رفاهية وسعادة تحسدها عليهما كل قريباته المتزوجات وغير المتزوجات، لحسن خلقه، وقد تمنين أن يكون محمود الرجل الوسيم الأنيق الذي يمتلك محلاًّ بمدينة القدس ويتاجر في الأنتيكات من نصيبهن، غير أن راشيل كانت قد كبلت قلبه الذي لم يتسع لغيرها.
ردت بهدوء ورزانة على عبله: مشكلتك يا عبلة فقط تكمن في أنك حتى الآن لم تحبي حنا، لذا فمن الطبيعي ألا تشعري بجسده مهما فعل لكِ.. وأعتقد أنه أدرك تلك الحقيقة فأصبح عجولاً عندما يأتيك حتى لا يشعر بضيقك لو أطال..
- والعذرا كلامك غير صحيح؛ فلو كان يستطيع أن يكون غير ذلك لفعل، ولكن تركيبة جسده صممت على ذلك، ولو أنه حاول ولو مرة مخاطبة مشاعري وأحاسيسي، وأشعرني بجمالي لكنت تسامحت في عدم إرضاء جسدي، وأحببته، ولكنه يأتيني مثل البهيمة، صامتاً لا يعرف من تضاريس جسدي سوى مكان واحد، يفرغ فيه شهوته، ويقوم سريعاً!
تمسك بخيط الحديث جمانة ذات الجمال الآخاذ، القوية كنمرة لا تقاوم، زوجة الاستاذ "علي مدرس الفلسفة والمنطق في المدرسة الثانوية، وبهدوء شديد فتقول:
- أعتقد يا عبله أنك لم تحبي حنا، ولن تحبيه أبداً، لأنه أولاً لم يلامس الحس الأنثوي فيكِ حتى الآن، وثانياً: لأن غالبية النساء العربيات يكبتن مطالب أجسادهن تحت تابو لا يجب أن يخترق؛ ألا وهو الخجل من المبادرة.
- والله صدقت يا جمانة؛ طوال ست عشرة سنة لم أتجاوب معه إلا مرة واحدة، وكان من الممكن أن أطوع مشاعري لتصبح على الأقل رهينة لإرواء جسدي بعد تلك المرة، ولكن ما نطق به بعدها جعلني أستبدل به شيئاً صناعيّاً اكتشفت بيعه بالصدفة في محل بتل أبيب، أطفئ به ثورة جسدي المدفونة كلما اشتقت لرجل..
وتضحك عبلة بعصبية لتداري جرأتها وتقول: الله يسامحكن، قلبتم على المواجع..
لقد تذكرت الآن تلك الليلة اليتيمة: ذات يوم جاء حنا في المساء وقال إنه متعب، ويريد أن ينام. وبعد أن تعشى وأخذ حماماً دافئاً اندس في الفراش، أما أنا فقد جلست مع أيمن ولدنا حتى غفا وبعدها ذهبت إلى غرفة نومي، وأثناء تغيير ملابسي والضوء الخافت يرسل ظلاله الباهتة فوق حوائط الغرفة سمعت صوت حنا يهمس: عبلة: تعالي كما أنت، لا تلبسي شيئاً فإن جسدك يبهرني..
- ظننتك متعباً ونائماً!
- حتى لو كنت متعباً وغارقاً في النوم، وصحوت فجأة، ورأيت هذا الجسد فلن أبالي بأي تعب.. كان يومها رقيقاً كهمس موجة تتعانق مع شطٍ طال ظمؤه، ولأول مرة أشعر بنفسي خفيفة كنسمة صيف، فاندفعت زاهية بين أحضانه، وانسابت الكلمات الحميمة على لساني دون أن أدري، واندفعت أشاركه إحساسه كأجمل ما يكون، حتى خلت نفسي امرأة أخرى غير تلك الخجلى، التي تخشى أن تعبر عن نفسها في الفراش، وارتويت منه ذلك اليوم الذي لن أنساه ما حييت، حتى إذا انتهينا وتركنا جسدينا يرتاحان بعد عناق طويل إذا به يسألني فجأة:
- من الذي علمك أن تكوني هكذا؟
- لم أدرك معنىً لسؤاله في بادئ الأمر ولكن بعد أن سأل مرة أخرى:
- لماذا كنتِ إذن تتصنعين الخجل من قبل؟
كان جسدي ما يزال يلهث من الإثارة.. وبعد انتباه مفاجئ لما قد يدور بخلده قلت: الفرسة من خيالها يا حنا.. إن أراد فهي له مجرد وعاء، وإن أراد أيضاً فكلاهما يستطيع التمتع بالآخر..
ولأنني تربيت تربية متزمتة، وتعلمت أن الكلام عن الجنس قبح ورذيلة، وبأنه لا يجب أن نصرح بمطالب أجسادنا حتى لا يظن الرجال فينا الجرأة والوقاحة، ولأن أجسادنا من تراب فلا يجب أن نطيعها، من أجل كل تلك السخافات بقيت خرساء، أتركه يتناول طعامه، ويسد شبقه مني دون أن أرتوي، وأستعمل البديل الذي يرويني بصمت، ويشعرني بامتنان.
تضحك مرة أخرى بتوتر، وهي ترى نظرات الشفقة تطل من أعينهن، فتقول ببراءة: - يلا أهي حياة.. وبتمر مش ضروري ناخد كل شي، حنا كريم لا يبخل علينا بشيء، وكأنه يعوضني على قبولي الزواج منه لأنه صانع توابيت، وقد رفضته الكثيرات قبلي؛ إلا أنني أعجبت كثيراً بعضلاته المفتولة ووجهه الصبيح، وربنا قادر يخليني أحبه وأرضيه ويرضيني في السرير.
للحظات سمعت أنفاسهن تتردد بين صدورهن. وقبل أن تتكلم أمي سمعت صوتها يناديني بهمس حتى تتأكد من استغراقي في النوم.. كنت بالطبع لا أريد لهذا الحديث أن ينقطع؛ فلم أجبها لتطمئن بأني مستغرق في أحلامي..
تقول لها راشيل بصوت هامس: اتركيه يا ساشا، الصبي نائم، ولو كان مستيقظاً لتحدثت أمامه بكل ما يدور في نفسي، إن نداء تعبث داخله نسمات الأنوثة اللاهية بلا منطق، أكثر من حرائق الرجولة.. ثم تكمل:
ها.. ماذا كنت تريدين أن تقولي؟
تهمس أمي بصوتها المبحوح الجميل: لقد تعود حنا على الأخذ دون العطاء، ومشكلتك يا عبلة أنك منذ البداية اعتدت على خنق رغبات جسدك؛ ما جعله يستهجن عندما نطقت وتحركت معه في السرير..
ردت راشيل: كان عليه أن يبتهج بدلاً من توجيه اللوم والشك السخيف. ألا يدرك الرجل أن حاجة جسد المرأة لجسده مثل حاجته لجسدها، وكلاهما ينادي الآخر في أي وقت وأي مكان؛ ليبعث البهجة ويوقد الأنوار داخله؟
تناولت جمانة رشفة من قهوتها، اخترق أذني صوتها وهي تقول بحزم: الخطأ دائماً أرجعه إلى المرأة فهي وان حققت نجاحات كثيرة، إلا أن تلك الأشياء ما هي إلا غلاف خارجي أنيق، سرعان ما نطرحه إذا مس جلدنا وتقاليدنا المتخلفة، فالمرأة تعيش التقاليد في الجزء العملي من حياتها، أما حاضرها المثقف ففي الجزء النظري، والنتيجة علاقات عرجاء، وزيف اجتماعي، وانفصام في الشخصية.. كما أنها تستمتع بتنكيس رايتها أمام الرجل مع أن حريتها ليست هبة يقدمها لها، بل منحة إنسانية لا بد من الحفاظ عليها!
كم كنت أحب تلك السيدة وأتخيلها كثيراً في السرير، فكم هي مثيرة ومتمردة ورائعة، وكم تمنيت سعادتها مع عمي علي المتأنق الهادئ دوماً..
سمعت أمي تهمس وهي تتنهد - بعد أن تأكدت مرة أخرى من استغراقي في النوم -: لقد انقطعت علاقتي الحميمة بأبي نداء منذ ولادتي لنداء إلا ما ندر؛ لأنه كان يعتبرني المسؤولة عن الخلل الذي يعاني منه ولدنا..
ردت راشيل: هكذا الرجال دائماً تغلبهم الأنانية، فإن كانت نطفهم سليمة عبر أجساد أولادهم الفتية قالوا إنهم من نسلهم، وإن كان هناك خلل في أحدهم قالوا إنه منا.. رحمك الله أبا نداء، اطلبي له المغفرة.
عبرت أختي سحر باب الحديقة، واتجهت حيث جلست أمي وصديقاتها. وبصوت ينسجم مع أصوات العصافير قالت: مساء الخير.. فروة من تقطعن الآن؟ عمي حنا، أم عمي محمود، أم عمي علي أم أبي رحمه الله؟
تفرقع عبلة ضحكة صاخبة وتردد: كلهم وحياة عينك يا سحر.
تنظر إلى أمي وتستكمل: انظري يا ساشا وابتهجي، فسحر ابنتك بمائة من رجال هذا الزمان. أما نداء فسيكون بالعلاج سيد الرجال.. نسيت أن أسألك: ماذا قال لك الطبيب بعد أن رأي نتيجة التحاليل؟
رحلة الالف اه تبدأ بطبيب...
عاد بي السؤال إلى الهم الأسود؛ فلم أكن على أدنى درجة من درجات العلم أو التوقع حتى أتيقن مما سيحدث.. فزيارات الأطباء المعتادة كانت من قبل بسيطة: إحصاء عدد ضربات القلب، الإصغاء بواسطة المكبر الصوتي إلى إيقاعات الشهيق والزفير، ميزان زئبقي للفم وآخر حول اليد، بعده يبدأ العمل بقائمة من الأدوية الضرورية أحياناً وغير الضرورية في كثير من الأحيان , ومن ثم تناول الأدوية حسب مواعيدها، والتوقف عن أي نشاط والإخلاد للراحة في الفراش لمدة يوم أو يومين على الأقل.. ولكن على غير المعتاد كانت زيارة الطبيب تلك المرة مختلفة تماماً عما سبقها من زيارات، وحتى هذا الطبيب الجديد الآتي بوسامته وعلمه من أميركا كان تخصصه في العقم والذكورة.. ولست أدري لماذا الذكورة بالتحديد؟
كنت قد قمت بزيارته أنا وأمي قبل تلك المرة، وأرسلني إلى مختبر خاص لأخذ عينات من دمي لقياس نسبة الهرمونات وعدد الكروموسومات، ومصطلحات أخرى جرت على لسانه لم أفهم منها الكثير، ولم أستوعبها حينها. إذن فلا بد وأن النتيجة لن تكون كالمعتاد؛ مجرد نزلة برد أو قلة نوم أو حتى هبوط الضغط أو ارتفاعه.
مكره أخاك.. قدري أن أترك جسدي المنهك ليهتكوا ستره، وينثروا خجله فوق طاولاتهم المعقمة .
الأطباء وما أدراك ما الاطباء ؟!...
لن أنسى ما حييت الطبيب وهو يتملى وجه أمي الصبوح، أمي الرسامة الرقيقة صاحبة الوجه النضير، طاهرة الجبين والقلب الكبير التي كانت تسرق الوقت لتضيء منزلنا بألوانها العذبة المتناسقة، تكسو الجدران بآلامها المبهجة، وهي تقف بمفردها في مواجهة الحياة بعد موت والدي، لديها الكثير من الكنوز المخفية تلمسها وقت حاجتك، وأبداً لم تضن بها على أنا وسحر.. أمي ملاذي من الدنيا ومن التساؤلات التي تقهرني وتفتتني. تذكرت يومها نظرات الطبيب لها، ولمست إعجابه بها، وقد سعدت بهذا الشعور وتخيلت أمي بين يديه، وهو يتجول بعينيه فوق جسدها متنقلاً بيسر ما بين تلال ووديان تشع بالبهجة، يجبر قلبها المكسور، ويساندها في الحياة، أذكر كيف أفقت فجأة على صوته المشع بالفرح، وكأنه وقع على كنز، بعد أن تمعن في نتيجة الفحوصات المخبرية:
- كل الفحوصات تشير إلى أن ابنك "كلاين فلتر" يا سيدتي...
وجمت أمي للحظات ثم سألته: ماذا تعني يا دكتور؟
- الشرح طويل يا سيدتي ومعقد وعلمي وطبي أكثر من اللزوم.
قالت أمي بإصرار: أرجوك يا دكتور، لا يهمني أمعقد هو أم غيره.. أريد أن أتفهم حالة ابني وبالتفصيل؛ حتى أستطيع التعامل معه.
ما دام الأمر هكذا - ولو أنني أعتقد أنه قد جاء متأخراً - فسأشرح لك: من المعروف علميّاً أن في كل خلية من خلايا الجسم البشري 23 زوجاً من الكروموسومات، وكل واحد منها يحتوي على الجينات التي من شأنها أن تحدد لوننا وسماتنا، والجنس الذي سنصير إليه، كذكور أو إناث... ترث النساء كروموسوم "إكس" واحد من الأب وواحد من الأم وبالتالي تكون صيغتها الكروموسومية "إكس إكس 46" أما الرجال فيرثون كروموسوماً واحداً من أمهاتهم "إكس" وكروموسوماً واحداً من آبائهم "واي" فتكون الصيغة الكروموسومية للرجل "واي إكس 46" وفي بعض الحالات النادرة - مثل التي يعاني منها ولدك - يحدث الخلل بأن يرث بعض الذكور كروموسوماً إضافيّاً أو أكثر، ليصبح العدد في النهاية "واي إكس إكس 47" وحتى الآن لم يعرف السبب الرئيسي لهذا الخلل الوراثي الذي ينتج عن عدم الانفصال الكروموسومي، الذي من شأنه إحداث هذا الاختلال في الصفات الوراثية للمولود الذكر، ويطلق عليها طبيّاً متلازمة "كلاين فلتر" وهو اسم أول طبيب اكتشف تلك الحالة..
للحظات نسيت أمي وجود صديقاتها، فكانت تردد ما سمعته من الطبيب، والذي حفظته
غيباً، وكأنها غير مصدقة لما قاله!
بصوت حزين سألت عبلة: أليس لتلك الحالة علاج؟
- قال الدكتور بأن هناك حالة من هذا الخلل تحدث في كل ألف حالة، وحتى الآن لم يعرف لها علاج محدد إلا بالهرمونات لمحاولة تحديد الجنس الذي يكونه، على الرغم من أنه ليس حلاًّ قاطعاً وخطراً في الوقت نفسه، ولكن هذا هو ما يستطيعون وصفه لحاملي هذا المرض الوراثي، كما أن تحليلات نداء كلها تؤكد إصابته بهذا الخلل. قالت جمانة: ولماذا لم تسأليه عن أعراض هذا المرض، وتأثيره في الشكل العام؟
- سألته والله يا جمانة وقال لي: إن من يحمل هذه المتلازمة هو مبتلىً من رب العباد في الدنيا، وله الأجر إن صبر، وأعراض هذا المرض ظروف نفسية معينة، تجعله - بسبب هذا التناقض الجيني الحاصل في هويته – مضطرباً عاطفيّاً ونفسيّاً لأن عليه التعامل مع الناس كرجل، مع أن شكله يدل على أنه أنثي.
وقد يحدث صراع بين هذا الرجل وذاته الأنثوية التي يشعر معها وكأنه امرأة في انفعالاته ووجدانه التكويني الذي فرضته عليه الجينات الدخيلة.. وأشكال أصحاب تلك المتلازمة يحملون ملامح متشابهة مع من هم مثلهم في طول القامة وانخفاض معدل نمو الشعر، سواء في الوجه أو في مناطق الجسم الأخرى، إضافة إلى نمو الصدر وتضخم الثدي وصغر حجم الخصيتين.. المهم أن تكوينهم الجسماني أنثوي الشكل؛ نظراً للضيق الواضح في الأكتاف واتساع الفخذين، وهذا هو الشكل العادي لجسد المرأة.
همست راشيل بصوت مبلل بالدمع: تلك والله مصيبة.
شعرت بها وهي تنتقل بيسر حيث أرقد، وتحسست وجهي وشعري وقالت: كم نحبك يا نداء! إني أراك والله أفضل بكثير من الرجال الأنذال..
كان لكلمتها مفعول السحر، ولمستها حركت في داخلي أشياء وأشياء لا أدري معانيها ودلالاتها. وتذكرت كيف كنت يومها أستمع لصوت الطبيب كأنه زجاج يتكسر، وكأن الأمر لا يعنيني، لم يهمني في الأمر سوي حزن أمي ودموعها التي لم تتوقف. وقد حاول الطبيب تهدئتها واضعاً يده فوق كتفها يربت بحنان ظاهر، متعاطفاً معها ومعي.
- ألم تسأليه عن ميوله الجنسية يا ساشا، وهل سيحيض أم لا؟
- سألته يا عبلة فقال إن غالبيتهم يفرض عليهم الشذوذ، والانحراف في الطباع، وفي الميول الجنسية، وإذا وجد هذا الانحراف فهو غالباً ما يأتيهم نتيجة للانحراف الجيني اللا إرادي؛ بسبب اختلال الصفات الوراثية وشذوذ الكروموسومات التي تغير الرغبات الجنسية للمريض الرجل الذي يحمل أيضا في تكوينه الجيني الصفات الأنثوية، وأما الحيض فلا بالطبع.
مصمصت عبلة شفتيها وسألت بإصرار: يعني هل سيمارس حياته الجنسية ويتزوج أم لا؟ وإذا كانت هناك انوثة تغلبه فهل يتزوج من رجل أم ماذا؟ وما هو العلاج؟
- قال إن بعضهم يميلون لإقامة علاقات شاذة مثلية، حيث يفرض تكوينه الجسماني عليه هذا الانحراف وطبعاً هذا مرفوض أخلاقيّاً ودينيّاً رغم أنه سلوك لا إرادي.
ولا أدري والله: هل يسألون عن ذلك؟ هل يحاسبهم الله كما يحاسب الذين اختاروا الشذوذ بإرادتهم... أليسوا معذورين مقهورين؟ ليت أحداً يفتينا في ذلك.. فما ذنب هؤلاء الذين لم يختاروا هذا لأنفسهم؟!
هل تدرين أيضاً يا عبلة؟ إن معظم أصحاب تلك الحالة من الرجال يشعر بأنه متزوج من تلك الجينات الأنثوية في داخله، لما يحس به من انقسام متلازم معه بين المثالية في شعور الذكورة، والنضوج الحسي الانفعالي أيضاً لمشاعر الأنوثة؛ لذلك لا تكون لديه رغبة قوية للارتباط؛ لإحساسه بأنه مرتبط أصلاً بأنثى تكبل إحساسه. ليت بالمقدور أن يكون بعضهم قابلاً للتحول الذاتي للذكورة أو الأنوثة الكاملة كما في بعض النباتات والأسماك.. يا ليت!
هتفت عبلة في إلحاح: يعني مفيش حل؟ أو ليست هناك طريقة لإراحته، والتخفيف من هذه الأعراض؟
- ربما يستطيع الطبيب أن يحدد إحدى الوسائل الطبية التي تقلل من أعراض الحالة وليس التخلص منها؛ لأن ذلك أصلاً مستحيل، فهذه الحالة متلازمة وليست مرضاً مكتسباً بعد الولادة.
غصت أمي بدموعها.. تمنيت احتضانها لولا تظاهري بالنوم العميق..
آه يا أمي الجميلة.. إنها تهب الأطباء عرقها لتجد لي حلاًّ، وتحميني من غوائل أزمنة لا ترحم. ترتدي ما تبقى لديها من الماضي لتشتري لي دواء يرمم ذاتي المنهزمة. أمي تخيط لنا قمصاناً من الورد مروية بدمعها.
صرخت جمانة في أمي قائلة: ما لك يا ساشا؟ لم أشعر يوماً والله أن نداء ليس رجلاً، فهو مهذب ومفكر، رغم حداثة عمره. لقد أحسنت تربيته، وهو بعقله وأدبه ملء العين والقلب.. إياك أن أرى دموعك بعد اليوم، ولتكوني قوية به وبسحر..
حاولت خالتي جمانه الجميلة تغيير الجو فسألت: سحر:
متى سنفرح بك؛ لقد طال انتظار المهندس سعيد.
كركرت سحر للتغيير المفاجئ من موضوع لآخر وقالت: بصراحة يا خالتي أنا لا
أحبذ فكرة الزواج الآن، فما يزال الوقت مبكراً..
ردت عبله بجرأة فجة: والله إذا كان المهندس سعيد مثل عمك علي، يدفع بعمود من النور داخلك مرتين أو ثلاث مرات في اليوم، ويطفئ لهيبك، فأهلا به..
ضحكن جميعاً ما عدا أمي التي قالت بصوت منخفض: انتبهي يا عبلة.. سحر هنا. وردت جمانة: تلك هي عبلة، ترمي كلامها ولا تبالي..
عبلة: آه منك يا جمانة.. طوال أيامك تأكلين حتى تغصي من علي، ولا تفكرين في أختك البائسة التي تستجدي لمسة حانية من صانع التوابيت الأناني..
تخيلت أختي سحر وقد احمر وجهها، وهي تتلمس طريقها إلى داخل المنزل وهي تقول: معذرة أنا عندي عمل، أراكم على خير..
قالت راشيل: ربنا يحميها ويوفقها، والله إنها بنت بمائة من رجال الزمن الطيب، ربنا يسعدها ويسعدك بها يا ساشا، ويشفي لكِ نداء..
انقضى الوقت سريعاً، وبدأن الاستعداد للرحيل، وكل منهن تواسي أمي بكلمة قبل رحيلها.
لبست ثوب العيش لم أُستشر"عمر الخيام"
أما أنا اليقظ النائم، الممتص لكل همسة وكلمة تدور في فلكي فكان يطيب لي أن أتخيل أني مع إحدى صديقات أمي وخاصة جمانة الجميلة، وكنت أحاول تفصيل الواقع على قياس ما أريد، ولكني لا أجد شيئاً يتحرك هناك؛ وكأن جسدي قد خلق من صخر لا حياة فيه قررت أن أبحث وأتساءل: لماذا أنا هكذا؟
ولإدراكي البسيط بأني لا أدرك، انتقلت لمدارج الحيرة، ومحطات جديدة للبحث والاستفسار حول حقيقتي.
توزع بحثي بين المراجع القديمة والأطباء، مروراً بالسحرة والدجالين والحكايات الشعبية وانتهاء بالتأويلات الفلكلورية التي كم جرحني توصيفها: الخنثى من الشيطان، يأتي عندما يجامع الزوج زوجته دون أن يذكر اسم الله قبلها / الخنثى بنت الشيطان تأتي بعدم ذكر اسم الله عمداً فيدخل الشيطان جسد الرجل ويشاركه الجماع!
وترن في أذني تعليقات الأولاد الساخرة، وأزداد حيرة!
إن الشرور تنبع من بين جوانبنا "لويس الرابع عشر"
آه يا أبتي.. لم أسمعك تردد اسم الله؛ إلا في أواخر أيامك!
هل ذكرته عندما أتيت أمي في أختي ونسيته معي؟
أعشقني شيطانك؟
أتعمدت أن أكون بلا هوية؟
كم تؤلمني أناي.. وطوفان الأسئلة يغرقني..
ولماذا نسيانك لم يُصب إلاي؟
من أكون....؟
كم أنا متعب........... سامحك الله يا أبتي؟
تذكرت أمي ودموعها وهي تسأل الطبيب: لو أعطيناه الهرمونات كما ينصح الطب: هل من الممكن أن يتحدد جنسه؟
وقد وعيت رده يومها تماماً عندما قال لها: إن الهرمونات تؤخذ للتخفيف من الأعراض الأنثوية لديه أو الذكورية، وحسب اختياره. ولكن غالبيتهم لا يشفون 100 % من تلك المتلازمة..
لا أزال أذكر كيف علا نشيجها وهي تحتضنتي بشدة وقد أحرقت دموعها قلبي..
آه يا حبيبتي.. ليتني كنت سليماً حتى أبعد عن وجهك الجميل الأحزان.
ليتني كنت قادراً على تغيير جيناتي من أجل عينيك، ولكن ليس الأمر بيدي..
بكيت معها، وأخفيت وجهي في حضنها كعصفور هذه الهلع في عالم لا يؤمن إلا بالضجيج. ها هو عبء جديد ستحمله "ترتق الثقوب التي ستحدث في نفسي"
لا أزال أذكر كيف انهالت بأسئلتها من بين دموعها: وكيف أتعامل معه يا دكتور؟
- كفي عن البكاء لأنه بخير، كما أن من غير المستحسن البكاء أمامه.. أريدك أن تعلمي أن تلك الحالات قد تتفاوت في نسبة حدوثها بين كل حالة وأخرى، فهناك الحالة التي ينتج عنها تخلف في مستوي التعليم، وصعوبة في التواصل والتخاطب مع الآخرين، وحالات أخرى يعاني أصحابها من الاكتئاب الحاد لعدم تقبلهم واقعهم.
ثم قال: دورك من أهم الأدوار في توجيهه والتخفيف عنه بالنصح والمتابعة.. كما أن من الضروري أن تعرضيه على طبيب نفسي ليصف له أدوية مضادة لحالات الاكتئاب التي سيمر بها, لأن حامل هذه المتلازمة القدرية غالبّاً ما يكون منهكاً من التناقض بين المشاعر والوجدان، وفي صراع دائم غامض ومتخبط بين أحاسيس الرجولة والأنوثة الدخيلة التي يشعر بأنها تمكنت من اغتصاب الرجل داخله، وتغلغلت في جسده عبر جيناتها الأنثوية الفتاكة، التي استطاعت الإيقاع به فغيرت أهواءه ورغباته، لتعلمه أنها قادرة على النيل منه، والقضاء على فحولته.
وسط دهشتي واكتئابي كنت أستمع إلى ما يقوله الطبيب، وقد راودني شيء لم أجرؤ على البوح به أمام أمي بنشيجها المتقطع، والدكتور بتحليلاته وتفسيراته العلمية..
من قال بأني أريد دحر الأنثى داخلي، وهي التي تضيئني بإحساس بريء، وتشعرني بآلام الآخرين وأحزانهم؟! هذا ما كنت أود الصراخ به، لكنني ضبطت نفسي، وقمعتها أكثر من مرة، فكلما انفجرت مساحة من الصمت بين حديثهما، هممت بالصرخة، لكني سرعان ما أخرسها وأكتمها في عروقي حيث إنني الوحيد الذي أعلم أني أتصرف بسلوك أنثوي لا أكون مدفوعاً له، والغريب أنني لا أشعر في قرارة نفسي أنه تصرف خاطئ، لأنه كان يحدث في نطاق ضيق، وبشكل غير متعمد، وبشعور فطري كالميل إلى ملابس البنات مثلاً , والوقوف أمام المرآة لتأمل تفاصيل وجهي الناعم، وأمنياتي بأن أكون بنتاً جميلة، ولكن تلك الأمنيات كانت مستحيلة؛ تحت كرباج مراقبة الوالد الصارمة لي، وانتهاكه لحرمة جسدي أكثر من مرة، وهو يمسك بي عندما يسمعني أهمس بطلب شيء من أمي، لأجده فجأة وقد مزق لي سروالي، وأمسكني من عضوي صارخاً فيّ:
- أليس هذا كافياً لتصبح رجلا؟!
وكم من مرة ضربني ضرباً مبرحاً تاركاً آثار قسوته على جسدي الضعيف وروحي الكسيرة؛ لتزداد وحشتي، وتكبر كراهيتي له بين ضلوعي، حتى تكاد تعلن عن نفسها صارخة به: تلك كلها آثامك صبت داخلي.
لم يكن لأحد أن يستوعب هذا التناقض الغريب في أمرين متضاربين: الجرأة والخجل، وذلك الخليط العجيب ما بين الصبغة الأنثوية والذكرية على الصعيدين: النفسي والجسدي. كم كان يؤلمني شعوري بالحرج من الرجال أو الأولاد في سني، وإحساسي الأنثوي تجاههم، وعدم فهم والدي لحالتي، وقسوته علي بدون مبرر منه:
تلكم هي الذكرى
وذلكم هو الأب
ما أوجع الذكرى!............. "نجيب باوزير"
غبت عن أمي والطبيب أكثر من مرة، حتى أفقت على صوته وهو يقول:
- المهم الاختيار الآن، ولو أنه جاء متأخراً؛ إلا إنه ضروري جداً للتخفيف عنه.
لست أدري: لماذا خطر على بالي الموت في تلك اللحظة ولكن انسابت كلمات ميخائيل نعيمة تهدهد كياني:
إن بليت بداءٍ.. وقيل داءٌ عياءٌ
أغمض جفونك.. تبصر في الداء كل الدواء
رجولة.. أنوثة... فماذا تختار أو تختارين؟ هذا ما كان يردده الطبيب على مسمع أمي! كادت الدهشة تقتلني، للحظات غبت عما يدور حولي، وتساءلت: هل أمي هي التي عليها أن تختار؟ وهل ستكون الهرمونات الذكرية هي الخيار الأول في لعبة التحديد الجنسي؟
هل ستختار ما يمليه عليها المجتمع؛ دون حساب للضرر أو النفع؟
وما هو المفروض طبيّاً، وما غير مفروض؟!
يُدهَش الإنسان أحياناً إلى حد الغضب، حينما تواجهه الطبيعة بوجه غير مألوف، فينزعج حينها إلى حد الخوف، لينتابه الشك في البديهيات، ثم لتنهار حتميتها، وثباتها، واستقرارها، وتسقط مصداقيتها لينقبض حتى النخاع؛ إذ يرى وجه البراءة وقد عكره قناع شيطان، ولكن "الشكوى لأهل البصيرة عيب".
بدا الأمر لي عبثيّاً.. وقد تملكني الملل، ولعل من البديهي أن السكوت الذي يحدثه الملل ليس كالسكوت الذي يصنعه الألم، إن قلبي يتناثر من الوجع.. وقد رق من الخراب الذي بداخلي.. واهتز جزعاً من رياح عاتية ستهب لتأخذ منه ولا تعطيه.
حاولت أن أنفعل، ولكن يبدو أنني فقدت القدرة حتى على الانفعال!
نظرت إلى الطبيب، وتذكرت من سبقه من الأطباء تجار الأجساد، ونحن بضاعتهم - إلا من رحم ربي ــ وفى نفسه نطفة من ضمير متيقظ، يراعي من خلالها القسم الذي أقسمه.
لا تتعب نفسك في أن ترقى أعلى هذا الدرج ...
الأمر إذن واقع ثقيل، ليس فيه أي مسحة من خيال!
أنا مصاب بخلل كروموسومي..
مرحباً بك يا نداء في عالم الثنائيات، الشيء ونقيضه / الحلو المر / القوي الضعيف / الرجل المرأة / الخنثى المُشكل!
أنا ثلثا أنثي وثلث رجل.. وما على سوى الاختيار للتعديل المحتمل غير الأكيد ما بين الرجولة أم الأنوثة.
كنت أصغر من أن أستوعب أن قراراً كهذا سيكون في يدي أو حتى في يد أمي التي ترتجف وجلاً كلما فكرت فيما سيجلبه الغد لي.
أمسكت ما تبقى مني بعد تلك الكلمات، واحتضنت أمي لتنسكب دموعي، حارقة ما تبقى لي من أمل.. وخرجت من عند الطبيب مهزوماً مصدوماً.
وعلى الرغم من إدراكي القليل؛ إلا أنني كنت آمل أن يقول بأنني أنثى، وأن هناك خللاً بسيطاً قابلاً للإصلاح، أو يقول إنني ذكر، والخلل أيضاً قابل للفصل في القضية، ولكن أن يقول لي بأنني اثنان في واحد / خنثى، فهذا ما لا أستطيع أن أتفهمه!
نظرت إلى أمي أنشد دفئها، فرأيت دموعاً تخط أسطراً من الألم المزيج بالحزن فوق الوجه المليح! أمسكت يدها، وتلمست جزعها وأرقها وقلقها، وقد اهتزت ثقتها في الحاضر، واطمئنانها للمستقبل. ومرة أخرى مر الموت على بالي:
يا اللــه..
إن لكـل جـرح ساحـلاً
وأنا جراحاتي بغـير سواحل
كل الأماكن لا تبدد وحشتي
ما دام وجعي الكبير بداخلي "نزار قباني"
وتسللت كلمات عمر الخيام داخلي وأنا استمع إليها بصوت أمي الشجي الحنون الرائق.. لربما تمسح هزائمي التي بلا نهاية:
سر الحياة لو أنه يبدو لنا لبدا لنا سرُّ المماتِ المبهـم
لم تعلمن وأنت حي سرها فغدا إذا مـا مت ماذا تعلم؟
لم أكن أستوعب معاني تلك الكلمات، بينما كنت أستمتع بالشجن المشحون داخل كل حرف من حروفها، وصوت أمي الذي يهز بقايا الصبر داخلي فينثره هباءً منثوراً لتتجول روحي بين أودية مغمورة بالسكون والعتمة والموت.
نظرت إليها طويلاً علها تغيثني بالحل يطل فوق شفتيها بأن أصبح أختاً لأختي، ولكن تجسدت في عينيها الرغبة بأن أكون أخاً لأختي!!
البكاء المضحك ...
ها أنا أضحك وأبكي نفسي، وأتذكر برجسون، عندما قال: الضحكة نزهة المقهور، توارى خوفه وتخفي شعوره!
وتعجبت من نفسي وقد تملكتني نوبة من الضحك بلا توقف، وتعجبت من حكمة كاسترو عندما قال: إن حكم أمة أسهل من إضحاكها! وتساءلت كيف يكون الضحك صعباً..
ها أنا أخيراً أضحك - ومن كل قلبي - بعد أن أمضيت يومين صامتاً مذهولاً عما حولي.. يومين قضيتهما في سكون وهدوء، وبلا حركة، وبدون أمر الطبيب، وحشد من الأسئلة ينهال فوق رأسي، وسيل من التساؤلات يحيط بي؛ دون أي بصيص لأمل أو إجابة تشفي فضولي، وأنتهي منها بضحكة صافية تخرج من قلبي كلما تحسست بروز ثديي واكتناز مؤخرتي.
مع التدرج الواضح في الإحساس وتلك المشاعر المخيفة، والتي يصادرها مجتمعي، ويعاديها، تلك التي كنت أشعر بها، من ميل للذكور الذين كنت محسوباً عليهم نظريّاً، وعلى الرغم من تربيتي المتشددة، وإصرار الكل على معاملتي كولد إلا أن تلك المشاعر كانت تجتاحني ما بين الحين والآخر.
والغريب في الأمر أنني لم أكن أعجب بأي شخص، إلا أن يكون بمواصفات خاصة، فأتصوره معي بأي شكل، مع رغبة أنثوية عارمة تجتاح جسدي!
وعلى الرغم من اعتزازي الضئيل بكوني رجلاً فإنني كنت أرى أن من حقي أن يكون لي علاقة بأحدهم، يحبني وأحبه.
آه كم هذا الشعور قاتل ومريع.. كم كانت تقتلني الغيرة عندما كنت أرى إحداهن وقد تعلقت بيد شاب وسيم، تختال به ويختال بها، وأنا وحيد يرفرف قلبي متألماً لا يجد من يتعلق به.
وكم كان يصدمني هذا، ويتركني غريقاً في بحار من الحيرة، أناشده أن يصمت عن الدق داخل أضلعي؛ لأن ظلام الليل لن يحفل بهمس أوجاعه..
وعلى تصارع الأفكار في رأسي أنام متعباً في أحضان الأحلام البهية، فأرى الزنابق البيضاء، تتيه ببياضها أمام عيني ويغرد الشحرور منشداً أغاني الفرح، وتتراقص في خيالي الحوريات؛ لأصحو فجأة على هاجس مرير، وسؤال يلح:
ما اختيارك؟ أذكراً أم أنثي؟؟
آآآآآآه.. لو كانت أيامي أخف وطأة وصدمة!
لو شاركني أحدهم الأنين.
لو كانت حياتي أقل اشتعالاً بالأسئلة.
لو كانت تلك المصيبة التي وقعت فوق رأس أمي أكثر رحمة.
آآآآآآه.. لو كان لي مأوىً في قلب أحد غير أختي وأمي، أتدثر بعطفه وحبه وحنانه ضد عواصف الزمن!
ولكني كنت وحيداً مع أرقي وألمي ومشكلتي التي تجثم فوق صدري بلا حل.
وأفق ضائع يطويني، وأحزاني نهر يتدفق داخل شراييني.
وآلام الأكوان كلها اختبأت في قلبي المحزون المرهق لتسكرني فيزداد أنيني!
أخيراً - وبعد عناء - قررت أن أقدم نفسي قرباناً للتقاليد البالية، ولأمثالنا التي سادت وملأت أفقنا كله: "البنت اللي ما تجبش العار تجيب العدو لحد الدار، علم ابنك تشوف حالك، علم بنتك تشغل بالك، لما قالوا دي بنيه انهد ركن البيت عليا، البنت نام وقوم وعد هموم، هم البنات للممات، الرجل ديك فرفور والمرأة جناح مكسور "عبارات وأقوال وأمثلة توارثناها أباً عن جد ترفع من قدر الرجل وتقلل من شأن المرأة.." فهل بقي هناك مجال للاختيار!
التعليقات (0)