الجذور التاريخية لفكرة فصل الدولة عن الدينا
لقد نشأ هذا الفصل في أوروبا في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة والسلطة الزمنية حيث انتهى بأطرافه إلى هذه المثنوية التي تمثلها هذه العبارة الكنسية الشهيرة اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وقد يكون لهذا الفصل ما يبرره في المجتمعات الأوربية الصليبية: فالمسيحية لا تملك تشريعا مفصلا لشئون الحياة يضبط معاملاتها وينظم علاقاتها ويضع الموازين القسط لتصرفاتها وإنما هي مواعظ وإرشادات روحية بحتة... بالإضافة إلى ما مارسته الكنيسة من صنوف الطغيان والقهر والتسلط ضد العلماء والمفكرين بل في حياة الناس قاطبة حتى أغرقت أوربا في بحر من الدماء! فقد وقفت مع الجهل ضد العلم، ومع الخرافة ضد الفكر، ومع الاستبداد ضد الحرية، ومع الملوك والإقطاعيين ضد الشعب، حتى ثارت الجماهير عليها، واعتبرت عزل الكنيسة ورجالها عن الدولة كسبا لها ضد هؤلاء الطواغيت!!
هذا بالإضافة إلى أن الدين الذي فصلته أوربا عن الدولة لم يكن في الحقيقة وحيا معصوما من عند الله، وإنما هو مسخ مشوه عبثت بأصوله أصابع الأحبار والرهبان! ممن كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا!
لهذه الأسباب وغيرها فصلت أوربا الدولة عن الدين، وانطلقت تبني حضارتها بعيدا عن هذه القيود الكهنوتية الظلوم. هذه هي القضية على الصعيد الغربي... ومن أوربا وعلى يد المستشرقين من مفكري الغرب وصنائعهم من المستغربين في بلادنا انتقلت هذه الدعوة إلى الشرق، وطفق ينعق بها خصوم الإسلام في كل واد، وكانت تركيا دار الخلافة أول بلد إسلامي تنتقل إليه هذه الدعوة فكان ما كان من إلغاء الخلافة وانفراط عقد هذه الأمة، ومن بعدها انتقلت إلى سائر البلاد الإسلامية.
مقارنة بين تطبيق العالمانية في الغرب وتطبيقها في بلاد المسلمين:
إن قياس الشرق الإسلامي على الغرب الصليبي في هذه القضية خطيئة فادحة لا تقل في فداحتها عن خطيئة قياس القرآن الكريم على أناجيل القوم المزيفة! ودين الإسلام الخاتم على ديانات القوم المحرفة! فإن ما في هذه الأناجيل والديانات من باطل أضعاف أضعاف ما فيها من حق، وما كان فيه من حق فهو منسوخ بالقرآن الكريم!!
ولنتأمل في هذه المقارنة بين تطبيق هذا الفصل في الغرب والمجتمعات المسيحية وبين تطبيقه في الشرق والمجتمعات الإسلامية، ليدرك مدى جسامة التزييف الذي يمارسه المفتونون بهذه الدعوة في قياس الشرق على الغرب في هذه القضية.
1- إن المناداة بفصل الدين عن الدولة في تاريخ المسيحية عود بها إلى وضعها الأول المذكور في أناجيل القوم، وأن انحرافها عن هذا المبدأ جر عليها وعلى شعوبها البلاء والشقاء، أما في الإسلام فإن المناداة بفصل الدين عن الدولة انحراف به عما ورد في القرآن الكريم، وأن وقوع هذا الفصل في بعض مراحل التاريخ هو الذي جر على الإسلام وعلى المسلمين البلاء والشقاء.
2- إن علاقة الدين بالدولة – في تاريخ القرون الوسطى – جعل من رجال الدين طبقة تمثل السيطرة والاستعلاء والاضطهاد والتعصب، ولكن علاقة الدين بالدولة – في عصور الإسلام الزاهرة لم تخلق مثل هذه الطبقة، إذ الإسلام نفسه لا يعترف بوجودها، فكيف يعترف بحقها في السيطرة والاستعلاء؟
3- إن ربط الدولة بالدين في أوربا أدى إلى اضطهاد الفكر، وخنق الحريات وقيام الحروب الدينية المفجعة، وخضوع الناس لكابوس الخرافة والجهالة والبؤس، أما ربط الدولة بالدين – في عصور الإسلام الزاهرة – فقد أدى إلى انطلاق الفكر وحماية الحريات الدينية، وإشاعة السلام وتحرير الناس من أوهام الخرافات والشعوذة، وتحقق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية بين أبناء الشعوب.
4- إن فصل الدين عن الدولة في تاريخ أوربا، كان في عصر نهضتها الكبرى، ولقد سارت من بعده حرة طليقة تسيطر على شئون العالم وتتحكم في مصائره، أما في الإسلام فإن أزهى عصور حضارته وأحفلها بالقوة والمجد وأجداها على الإنسانية هي العصور التي قامت فيها دولته على مبادئ شريعته، وما حدث الجفاء بين الدين والدولة إلا في عصور الضعف والجمود والفوضى.
حسبنا مثلا على ذلك أن نقارن بين تركيا في ظل الدين وتركيا في ظل العالمانية لندرك مدى البون الشاسع والظلم الفادح في قياس الشرق على الغرب في هذه القضية: لقد فصل الدين عن الدولة في تركيا، فماذا جنت من المكاسب؟ لقد ألقي بتركيا في أحضان الغرب غارقة بديونها مثقلة بالتزاماتها وأصبحت سوقا لتصريف المنتجات الغربية، ومركزا للقواعد الحربية، وهدفا للعدوان الشيوعي والإفناء الجماعي، وعندما كان (الدين) سيد الدولة كانت تركيا إمبراطورية تملأ عين الدنيا وسمعها وكانت باسم الإسلام تخيف جارتها روسيا، بل ظلت عدة قرون تدير رحى الحرب في أرض روسيا نفسها، وعندما أصبحت (الدولة) سيدة الدين أصبحت تركيا مستعمرة لا هيبة لها، ولا وزن فعادت دويلة تقبع مرعوبة في أقل من 10% من حدودها الأولى، وتتسول سلاحها من هنا ومن هناك، وصار أقصى ما تتطلع إليه أن تصبح عضوا في السوق الأوربية المشتركة وأوربا تضن عليها بذلك!! وصدق الله العظيم: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
د. صلاح الصاوي / http://el-wasat.com
التعليقات (0)