بقلم/ ممدوح الشيخ
شكّل دور الدين في السياسة الأميركية أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل في عهد الرئيس بوش، ونُشرت حول القضية تحليلات ومتابعات ربما يصعب حصرها في الإعلام العربي والغربي لهذه القضية التي بقيت خلافية حتى نهاية ولايته. ورغم أن الحروب التي شنها بوش كانت التوجه السياسي الأكثر استئثارا بالاهتمام من ناقدي هذه الإدارة التي تنفس الكثيرون الصعداء برحيلها، فإن صورة أميركا بوصفها "بلد الرب"، كانت قضية متصلة بـ "القيم" أكثر من اتصالها بـ"السياسات"، ما يجعلها مرشحة لمزيد من الاهتمام في عهد أوباما الذي جاء بشعار "التغيير".
ولعل من المساهمات المهمة في هذا الجدل الذي تمتد جذوره إلى لحظة تأسيس هذه الدولة/ القارة كتاب "من نحن؟: تحديات الهوية الوطنية الأميركية" للمفكر والأكاديمي الأميركي صموئيل هنتنغتون (صادر في مايو 2004). وفيه يقدم للقارئ ترجيحا مفاده أن الدين مرشح لدور متصاعد في الهوية الأميركية، ومن ثم السياسة الأميركية، متوقعا أن تكون الجماعات الإنجليكانية التي زادت بنسبة 18% خلال تسعينيات القرن الماضي ونجحت في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية، رأس الحربة في هذا التحول.
ويبشر هنتنغتون بأن العودة للمسيحية، وهي أحدى الركائز الأساسية للهوية الأميركية، ستصب مباشرة في الدور المساعد الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية. وتنبؤ هتنتغتون هذا ـ وهو مجرد عيّنة مختارة ـ كان حتى وقت قريب متسقا مع السياق العام لتطور دور الدين في السياسة الأميركية، لكن نجاح باراك أوباما على ما يبدو يحمل معه احتمال تغيير "القيم" بالقدر نفسه الذي يبدو مقدما به على تغيير "السياسات".
الكاتبة الأميركية نانسي مورجان كتبت في الورلد تريبيون الأميركية (8 إبريل 2009) مقالا، يمثل هو الآخر عيّنة ممثلة لسيل من الكتابات في الإعلام الأميركي، وفي مقالها ترى في أوباما "اجتياحا" علمانيا يساريا لأميركا، وهي توقفت أمام تصريح له في زيارته لتركيا قال فيه: "نحن لا نعتبر أنفسنا أمة مسيحية.. .. نحن أمة من المواطنين" وبالأساس نقدم الولاء للدولة.
بعض الأميركيين رحبوا بالتصريح واعتبروه نهاية حقبة "تديين" السياسة الأميركية، والعلمانيون رأوه اعترافا بأن وجود الدين في السياسة "موضة قديمة"، فيما اعتبره آخرون تحولا يفتح الباب أمام المساواة بين الأديان في أميركا. وترى نانسي مورجان أن انتخاب أوباما بداية عصر جديد في معركة المشاعر والأفكار في أميركا فهو يعيد تقديم اليسار، وهو مؤمن بأن الإنسان صاحب السيادة المطلقة. وتاريخيا وقف اليسار الأميركي موقفا ناقدا للثقافة الأنغلو بروتستانتينية، وبخاصة تجاه الجانب الديني منها، ونادى الليبراليون بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة، ما ساهم في إضعاف المكون الديني للهوية الأميركية.
والرئيس أوباما متهم من المتدينين الأميركيين بأنه يبحث عن "دين أعمى"، بل يتم تشبيه منطقه بالمنطق الذي ساد بعض أسوأ الأنظمة في التاريخ الحديث، فما يفعله: "سبق فعله بنجاح في الاتحاد السوفياتي السابق حيث أديرت الكنائس حصريا بتصريح من الدولة. وفي الصين أدى المنع الصارم لظهور كنائس سرية (تحت الأرض). والدولة تعرف أنها يجب ان تفرض سيادتها حتى تستطيع إخضاع مواطنيها بكفاءة. وبول بوت (سفاح نظام الخمير الحمر في كمبوديا) عرف هذا، وماو تسي تونج عرف هذا. وكل طاغية حكم بلاده بالقوة يعرف هذا. وأوباما يعرف هذا."
وتضيف نانسي: "ولكي تصبح الدولة "الكائن الأسمى"، فإن الإخلاص لله والأسرة والطائفة يجب أن يحل محلها الولاء للدولة. هذه الاستراتيجية تنفذ الآن في أميركا بنجاح متزايد. تقاليد الأسرة ـ العمود الفقري للأمة ـ يتم إعادة تعريفها، ومؤسسة الزواج يتم تقويضها ويزحف عليها قبول زواج المثليين".
وتصف الكاتبة صورة مخيفة للصراع الدائر حول الدين في السياسة الأميركية، فالعلمانيون الأميركيون، حسب وصفها، يقومون بعمل تقويضي. و"الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" يروّع الناس عبر البلاد بالتهديد بدعاوى قضائية لحظر أي إشارة للدين في سياسة الدولة. والإعلام العلماني يصف أي شيء فيه رائحة مسيحية بأنه سلوك غير متحضر. والجرائد والمجلات ومحطات التلفزة تردد مقولة واحدة هي أن أي حضور للمعتقد الديني في الشأن العام غير مقبول، على الأقل بالنسبة لهذه النخبة التي تحدد الأجندة لبلادنا".
فهل تتغير أميركا على هذا النحو الثوري؟ وما النتائج التي سيسفر عنها هذا التحول في مفهوم الهوية ومنظومة القيم؟ أسئلة تستحق ـ دون شك ـ بذل جهد للإجابة عنها، لأجل فهم أفضل القيم والسياسات معا.
جريدة المستقبل – لبنان - الخميس 30 نيسان 2009 - العدد 3291 - رأي و فكر - صفحة 20
التعليقات (0)