شهد الوسط العربي والاسلامي في الاسبوع الماضي، حرب فتاوى لم تخلُ من التسييس، على خلفية شروع الجمهورية المصرية في بناء جدار فولاذي في عمق الارض على طول حدودها مع قطاع غزة، لحماية حدودها من الانفاق التي تخترقها. وحول مشروعية بناء "الجدار الفولاذي"، انقسمت آراء المفتين على النحو التالي:
1- فريق من العلماء يتقدمهم الشيخ يوسف القرضاوي، ذهب الى ان قيام مصر ببناء الجدار الفولاذي على حدود غزة "محرم شرعا"؛ ووصل الامر ببعض المحرِّمين الى حد وصف عملية بناء الجدار بأنها "الكفر بعينه" لثلاثة اسباب رئيسية، اوّلها: أنه "يحمي أمن العدوالصهيوني"، وثانيها: ان هذا الجدار يكرّس الاستعمار والخطوط الوهمية التي وضعها"، وثالث هذه الاسباب: "أن هذا الصنيع حصار للمستضعفين والمجاهدين مما يؤدي إلي قتلهم صبراً بسبب دينهم وجهادهم، مما يجعل الدفاع عنهم فريضة مفروضة منكرها كافر".
2- وذهب فريق ثان من العلماء، يتزعمه شيخ الجامع الازهر محمد سيد طنطاوي، الى مشروعية بناء "الجدار الفولاذي"، معتبرين ان فتوى "المحرِّمين" هي "فتوى خاطئة"، غاب عنها العدل والموضوعية والتوازن؛ بل ذهب بعض المجوّزين الى اعتبار بناء ذلك الجدار "واجب شرعا لمنع الفتن"، و"لوضع الأمور فى نصابها تنظيما للدخول والخروج الى مصر والقطاع"، مؤكِّدين أن "هذا الجدار مانع للمخطط الإسرائيلي باستخدام الفلسطينيين كرأس حربة بعد فشلهم فى استرداد أرضهم، بهدف اجبارهم على النزوح إلى سيناء وترك أرضهم".
وعلى الفور انتقدت حركة حماس و"الاخوان المسلمون"، و"حزب ولاية الفقيه" في لبنان، ومعظم المنظمات الواقعة في القبضة الايرانية والمتأثرة بجوّها الاعلامي والدعائي، الفتوى التي أصدرها مجمع الأزهر في القاهرة بـ "تحليل" الجدار الفولاذي الذي تقيمه مصر، معتبرين ان "لأحرى بمؤسسات الأزهر تجريم الحصار، وتحريم إغلاق المعابر".
وقبل ان نبدي رأينا في الموضوع، لابد من الاشارة اولا الى ثلاثة امور يجدر بنا معرفتها:
الامر الاول: ان "حرب الفتاوى" لا تفيد القضية الفلسطينية ولا تفيد الشعب الفلسطيني ولا المصري، والمنتظر من العلماء الاجلاء هو أن يكون دورهم الأساس جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، والسعي لإصلاح ذات البين بين أبناء الشعب الفلسطيني، من أجل انقاذه من التدخلات الخارجية، وقطع الطريق على أولئك الذين يزرعون الخلاف والشقاق ويثيرون القلاقل والفتن بين أبناء الأمة العربية والاسلامية، وإعادة أهل غزة إلى أحضان أمتهم وبخاصة مصر التي هي الحضن الأكبر لغزة.
الامر الثاني، هو: ان من يقتل الفلسطينيين صبرا، قبل العدو الصهيوني وقبل اي شيء آخر، هو انقسامهم وتقاتلهم الداخلي، الذي عبّر عن نفسه بأبشع صورة حين عاث الاخوة الاعداء فسادا في غزة، مع انقلاب حماس الدموي في حزيران 2007، وما رافقه من قتل متبادل، وإلقاء "للفتحاويين" من الشرفات، وإنزال "الحمساويين"العلم الفلسطيني ورفع علم حركتهم مكانه، ما اسفر عن سقوط 116 قتيلا على الاقل و550 جريحا خلال اسبوع واحد!!
ولعل الخطأ الذي وقع فيه الطرفان المتنازعان على السلطة، هو ان كل واحد منهما استقوى بأطراف خارجية على خصمه في الداخل، مع العلم ان هذه الاطراف الخارجية مهما اظهرت زورا ورياء انها في حالة خصام وعداء، الا انها في حقيقة الامر وجهان لعملة واحدة. ويقع اللوم هنا على حركة حماس قبل حركة فتح، كون الاولى بوعيها الديني(المفترض) قبل السياسي، ينبغي ان تكون مدركة ان القضية الفلسطينية من نوع خاص، بحيث يعتبر الخلاف حولها والوصول الى الاقتتال محرما دينيا وسياسيا، لانه ينهي القضية الفلسطينية، ويشتت قوى الشعب الفليسطيني في حروب داخلية بدل ان اتكون اطرافه موحدة في مواجهة قوى الاحتلال.
اما الامر الثالث، فهو: ان غزة الفلسطينية الواقعة على تماس مع الحدود المصرية، تقع منذ حزيران العام 2007 تحت سيطرة حركة حماس التي وقعت بدورها في قبضة المحور السوري-الايراني منذ استشهاد قادتها المهادنين لمنظمة فتح، والممانعين لأن تصبح حركتهم الجهادية تابعة لأي نظام حاكم في دول المنطقة، وكان آخر هؤلاء القادة "الاستقلايين" اذا جاز التعبير: الشيخ احمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، اللذين تمّت تصفيتهما على يد العدو الاسرائيلي عام 2004، لتنتقل الزعامة من بعدهما الى خالد مشعل وتقع حركة حماس في قبضة النظامين السوري والايراني، اللذين استخدماها لشق الصف العربي والاسلامي، وشجعاها بعد مدها بالمال والسلاح على الاستقواء على فتح والاستقلال بقطاع غزة. والامر نفسه اعتمدته اميركا واسرائيل مع حركة فتح، لينتهي الامر بشعب منقسم على ذاته ومشتت فوق شتاته، قسم منعزل في غزة وآخر في الضفة الغربية، والعدو الصهيوني يتفرّج فَرِحا مرتاحا، ويتدخل باعتداءات ارهابية هنا وهناك، وايران تزايد تقيّة، وتغذي الانقسام وتزيد الوضع تشرذما.
وبالعودة الى صميم موضوعنا نقول: ان الأصل في الافتاء ومثله القضاء، هو الاطلاع على كافة الجوانب للموضوع المراد بحثه، تحقيقا للعدالة والموضوعية والاصابة في الحكم على الامور، فضلا عن الضوابط الشرعية والقانونية التي يعرفها المختصون. ومن هذا المنطلق، فإننا نميل الى تأييد فتوى او وجهة نظر القائلين بجواز بناء الجدار الفولاذي بل والقائلين بالوجوب ايضا، للتعليلات التي ذكروها والتي نزيد عليها الاسباب التالية:
اولا: ان ضبط الحدود بين البلدان (بغض النظر عن واضعيها) ضرورة لابد منها لأي دولة تريد الحفاظ على امنها وامن شعبها، لذلك كان تحديد المعابر الحدودية وضبطها لناحية معرفة احوال وهويات الوافدين اليها والمغادرين منها وما يتم ادخاله واخراجه من والى البلد المقصود، من اولى أولويات البلدان الحريصة على امن وسلامة واستقرار مجتمعاتها. ذلك ان تحديد المعابر الحدودية مطلوب وضروري من الناحية الامنية قبل السياسية، حتى بين ولايات الدولة الواحدة الشاسعة على فرض عدم تقسيمها استعماريا، اذ يفترض ان يكون لكل ولاية جهازها الامني والاستخباراتي الذي يراقب نظامها ويحفظ امنها بالتنسيق مع اجهزة الولايات الأخرة، ومن شأن حصول اية فوضى في ضبط حركة الدخول والخروج ان يعرّض امن الولاية والبلاد بكاملها للخطر من قِبَل المتربّصين بها شرا.
ثانيا: ان الحدود المصرية مع قطاع غزة ليست حدودا عادية تدعو المصريين الى الاطمئنان، بل حدود تتقاسم السيطرة عليها اربع جهات هي: اسرائيل و"حماس" وسوريا، وايران صاحبة الاطماع التوسعية والطامحة لتصدير ثورتها وفكرها السياسي والعقائدي الى دول المنطقة، ولذلك فهي تتدخل في الشؤون العربية وتفسد الأمور وتشعل الفتن بين أبناء الوطن العربي والإسلامي تحت شعارات مذهبية مفرطة في التعصب والانغلاق، وتتسبب في مذابح وحشية لا يقرها شرع ولا دين، كما رأينا ذلك في العراق وفي افغانستان وباكستان وفي اليمن والسودان وفلسطين ولبنان... ومن حق مصر ان تتوجّس من تلك الحدود بعدما استباح "حزب ولاية الفقيه" الاراضي المصرية وافتتح له فرعاً فيها، يعمل على رصد وشراء شقق سكنية بالقاهرة، وتهريب أسلحة ومتفجرات، وتجنيد واستقطاب عناصر تأتمر به، بغرض تنفيذ مخطط تخريبي يمس الأمن القومي المصري، تحت ذريعة: "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة"، بحسب تعبير امين عام "حزب ولاية الفقيه" الذي اعترف في 10نيسان 2009، بمسؤولية حزبه عن الخلية الموقوفة على الاراضي المصرية، والتي ثبت استخدامها تلك الانفاق لتهريب اسلحة وعناصر من والى قطاع غزة.
وكذلك يحق لمصر ان تأخذ احتياطاتها، بعد مشاهدتها الحرب المشتعلة منذ اربعة اشهرعلى الحدود السعودية اليمنية، والتي تدور رحاها بين جيشي البلدين من جهة والحوثيين المدعومين من ايران من جهة ثانية، كما يحق لها التخوّف من تكرار المشهد نفسه على حدودها مع غزة، ان لم يكن مع حماس فمع اي تنظيم ارهابي قد ينشأ فيها على شاكلة الحوثيين في اليمن.
ثالثا: التأثير السوري والايراني على حركة حماس واضح بما فيه الكفاية؛ فالاوّل، قدّم لها المأوى السياسي لتفتح مكاتبها على اراضيه، مع العلم ان "حماس" من تنظيم الاخوان المسلمين المحظور في سوريا التي ينص قانونها على انزال عقوبة الاعدام بمن يثبت انتماؤه لتلك الجماعة. اما الثاني، اي النظام الايراني، فقد قدّم لـ"حماس" التدريب والمال والسلاح بنسب مدروسة جدا لاسباب معروفة لديه، ومعلوم ان من يقدّم المال والمأوى هو من يأمر وينهى.
وبالمناسبة، فإن الدور الذي يلعبه الايرانيون في فلسطين، يتلاقى مع مصلحة العدو الصهيوني الذي يريد الابقاء والمحافظة على الانقسام داخل البيت الفسطيني بين حركتي فتح وحماس من اجل اغتيال القضية الفلسطينية من اساسها، وتحويل الصراع من عربي-اسرائيلي الى عربي-عربي او فلسطيني-فلسطيني. واليوم، كما في كل مرّة، بعد أن اتفق الفريقان "فتح" و"حماس" على توقيع وثيقة الصلح بجهود مصرية مضنية، تدخلت إيران وأفسدت الأمر ودفعت "حماس" لعدم التوقيع على هذا الاتفاق.
ولعل اخطر فصول التدخل الايراني، كان في حرب غزة الاخيرة التي وقعت بسبب رفض حركة حماس تجديد اتفاق الهدنة مع اسرائيل، فاستأنفت اطلاق صواريخها بتوريط واضح من النظام الايراني، الذي لجأ اثناء تفرّجة على محرقة غزة التي دامت 22 يوما الى احط الوسائل واقذرها في حربه ضد العرب والمسلمين ، فاستغل دماء اهل غزة ومأساتهم وجراحهم وشهدائهم واطفالهم لزرع الكراهية وبين ابناء فلسطين وبين ابناء الامة العربية والاسلامية، و لم يكتف فقط بالخطابات الدعائية والتحريضية اثناء تلك المجزرة، بل اصدر مرشده الاعلى علي خامنئي في 28/12/2008، فتوى تمنع الايرانيين من التوجه الى غزة لمساندة الفلسطينيين والقتال الى جانبهم هناك!!
وان ما رافق تلك المحرقة من حملة خاضتها ايران مباشرة وبواسطة حزبها في لبنان،على النظام المصري سواء لناحية مطالبته بتشريع حدوده امام اهل غزة او لناحية تحريض قواه المسلحة على الانقلاب على نظامها، كشف لمصر وجود مخطط اسرائيلي للقضاء على القضية الفلسطينية من خلال تحريك الاوضاع في القطاع بغرض اعادة تسليمه الى مصر، وفي الوقت عينه الصاق الضفة الغربية بالأردن، وذلك بهدف تنصّل اسرائيل من مسؤوليتها كقوّة احتلال ومن حل الدولتين الذي تدعمه اميركا وترفضه اسرائيل، برميها الكرة الغزاوية في الملعب المصري، وهو مخطط طرحته اسرائيل منذ خمسين سنة ورفضته مصر، وقد تقاطع في اهدافه ووسائله مع الحملة على مصر التي تجد في تحصين حدودها وسيلة لافشاله.
تبقى الاشارة، الى ان بناء الجدار الفولاذي، وان كان حقا مشروعا لمصر للاسباب الآنف ذكرها، الا انه يجب ان يترافق مع تنظيم عمل المعابر الحدودية القانونية، بما يخفّف على الشعب الفلسطيني المحاصر معاناته في غزة، الذي يجب عدم تحميله تبعات قرارات وخيارات حركة حماس الخاطئة، بحيث يتم فتح المعابر القانونية على فترات لتلبية الاحتياجات الانسانية والاستشفائية والغذائية لسكان القطاع، دون تكريس الشقاق والانقسام بين الضفة الغربية وغزة.
عبدو شامي
التعليقات (0)