الجاسوسية ... انهيار للقيم أم مصدر للمال ..!!؟؟؟
كان الجميع يشتمونه ويكيلون الدعاوي عليه ... حتى أن أحدهم دعا لئلا يصلى على جثمانه !!! نعم لقد كان الجميع مسرورا "لقتله" .
كان عقلي الصغير في تلك اللحظات يعجز عن استيعاب الموقف , لأول مرة لا أسمع طلب الرحمة على ميت "مقتول" , كنت أبحث في العيون عن إجابة : لماذا كل تلك القسوة ؟؟؟ ما هو جرمه ؟ , وظلت تلك اللحظات في عقلي ذو السبع سنوات .
لقد كان جاسوس , لذلك استحق كل تلك اللعنات ..!! هذا ما أخبرتني به أمي باختصار عندما ألحيت بالحصول على إجابة وأنا في عمر صغير يكاد لا يستوعب ماتعني الكلمة, ولم يكن لي ملجأ سوى أن أسأل المعلمة : ماذا تعني كلمة "جاسوس" , نعم الآن اتضحت الصورة.
إذن يستحق أكثر من ذلك , إنه خائن ... ومنذ تلك الحادثة استوطنت حنايا عقلي الصغير شناعة هذه التهمة وباتت في نظري الجريمة التي لا يمكن أن تغتفر.
ربما استرسلت في مقدمة أدبية للتمهيد لموضوع ذو طبيعة سياسية أو بكلمة أخرى "وطنية" , ولكن استفزاز الأحداث الأخيرة لذاكرة الطفولة هو ما جعل قلمي يبدأ بتلك الكلمات.
لعل معظمنا قد أدركت مسامعه حوادث الاعتقال الجماعي "العائلي" بتهمة التجسس التي طالت البعض في لبنان , حتى أنني قرأت مقالا يشير إلى اعتقال أفراد عدة عوائل بهذه التهمة , بمعنى أن عدة أفراد من نفس العائلة تورطوا بتهمة التجسس.
برأيي هذه الظاهرة تستدعي الوقوف كثيرا , حيث أننا نعلم كثيرا حساسية هذه المسألة أقصد التجسس لصالح العدو , وما أثار حفيظتي ليست الظاهرة نفسها فهي قديمة قدم الإنسان ولكنه الشكل الجديد الذي ظهر "التجسس الجماعي على مستوى العائلة" , ففي السابق كان الشخص الذي يتعامل مع العدو يحذر حتى من أعز وأقرب الأشخاص إليه من أن يلاحظ "تورطه" حيث أن إفشاء السر قد يعني النهاية المحققة , ولكن يبدو أن المعايير قد تغيرت بدليل أننا بدأنا نسمع عن هذه الظاهرة " المريضة".
كيف يمكن أن نفسر هذه الظاهرة الجديدة المتمثلة بامتهان الجاسوسية على مستوى عائلي.؟ - سأسمح لنفسي في هذا المقام أن أسميها ظاهرة تجاوزا رغم بعض التحفظ على ذلك - .
إذا أردنا أن نتتبع العوامل التي يمكن أن تفسر ذلك فربما سيذكر البعض العوامل الاقتصادية , ولكن هل يمكن أن تبرر الحالة الاقتصادية المتردية امتهان عمل شنيع كالتجسس على الوطن لصالح العدو ..؟؟؟ أتوقع أن أبعاد التفسير لا يمكن أن تتقبل هذا العامل ببساطة , فهذا التفسير يعني التغير الجذري في المعايير والقيم , ليس هذا فقط إنما هو التغير أيضا في مبادئ المواطنة الأساسية .
هل يمكن أن نتاجر بمصلحة الوطن , وإذا فرضنا جدلا أن هنالك رفضا لسياسة الدولة والحكومة وكل القائمين على جهاز الدولة ,فهل ذلك يعني أنه انتقام من الدولة وبالتالي يبررامتهان الجاسوسية لصالح العدو ؟؟؟ ولكن هل الجاسوس من خلال ما يقوم به يلحق الضرر فقط بالدولة ؟ قطعا لا إنه يلحق الضرر ببلده بشكل كامل " مما يعني بالضرورة مدينته , حيه , حارته وأهله من قريب أو بعيد" حقيقة أجدني هنا أنجرف باتجاه تفسيري أكثر جرأة وهو القدرة على التجرد من الانتماء مقابل المال .
أرجو أن تعذروني لتخبط المنهج التحليلي , لكن تزاحم الأفكار لفهم آلية تغير المعايير في هذه القضية تملي على قلمي الكثير من التساؤلات, سأحاول إعادة ترتيب الأفكار بمنهجية أكثر وضوحا :
لدينا "ظاهرة" جديدة : التجسس من قبل أكثر من فرد على مستوى العائلة الواحدة لصالح العدو : الأخوة .. الزوج والزوجة أو الأقارب من النسب القريب
التجسس يعني الحصول على مقابل مادي
السبب المباشر ربما يكمن بالحصول على المال وبالتالي العامل المباشر المفسر هو العامل الاقتصادي مما يعني التغير الجذري في المعايير والقيم في سبيل الحصول على مصدر مالي
وفق هذه المعادلة كيف يمكن إسقاط الاعتبارات الأخلاقية " حتى لو سلمنا بنسبية الأخلاق " ولكن يبقى التجسس من بين التهم المتفق بالإجماع على أنها سلبية , إذن يمكن أن نتجاوز مسألة النسبية في قضيتنا المطروحة , إذن وبصياغة أخرى كيف يمكن أن نفهم تهاوي القيم في هذه الظاهرة.
طرحت هنا أسباب مفسرة قابلة بالتأكيد للمناقشة وتتمثل بـ : النقمة والرفض لسياسة الدولة وبالتالي الرغبة في الانتقام , وكذلك القدرة على التجرد من الانتماء مقابل المال.
لا أدري إن استطعت أن أناقش الإشكالية وفق نقاط واضحة , ولكن ما يهمني هو أن نأخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار مع أني آمل أنها لا تمثل ظاهرة إنما حالات فردية لم تتطور لتناولها كمشكلة فعلية وواقعية بدأت تغزو المجتمع العربي .
أود الإشارة إلى أن ما دفعني اليوم للكتابة عن هذا الموضوع هو مقال قرأته في الصفحات الرئيسية لهذا اليوم بعنوان : "لبنان يعتقل ضابطاً برتبة عقيد بتهمة التجسس لصالح إسرائيل" .....!!!
التعليقات (0)