الجابري قرأ حتى تعبت منه الكتب.. وكتب حتى أتعبته الكتابة إلى حد أن أول عملية جراحية أجراها في حياته كانت على عصب يده اليمنى
طلحة جبريل
بدأ حياته راعيا للغنم في منطقة «فكيك» أقصى شرق المغرب قرب الحدود المغربية الجزائرية. ثم تدرج تدرجا استثنائيا في سلك التعليم، حتى أضحى واحدا من أبرز فلاسفة العصر، وأشرف على رسائل دكتوراه وبحوث بلا حصر.
عمل مدرسا في المرحلة الابتدائية يعلم صغار التلاميذ الحروف الأبجدية (أ ب ت ث) ثم تدرج من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية إلى الثانوي إلى المرحلة الجامعية، حتى أصبح يشرف على أطروحات الدكتوراه. ليس ذلك فحسب بل يعالج في مدرجات الجامعة الإشكاليات الكبرى للفكر الإنساني والفلسفي. أسلوبه أقرب ما يكون إلى أسلوب «المعلم الثاني» ابن رشد. كثيرون يعتقدون أنه «ابن رشد العصر» وهو ليس بعيدا عن هذا التوصيف.
طبقت شهرته الآفاق فيلسوفا ومفكرا من عيار ثقيل ومدافعا فذا عن الحريات وحقوق الإنسان. لم تتعبه القراءة، لكن أتعبته الكتابة، إلى حد أن أول عملية جراحية أجراها في حياته، كانت على عصب يده اليمنى، عندما ظل يكتب ويكتب حتى أصابه شد عصبي.
ظل محمد عابد الجابري، يقرأ كثيرا. يقرض الكتب مثل فأر. ويكتب كثيرا، حتى فاق عدد مؤلفاته 50 كتابا. كان يضج بالشكوى للقريبين منه قائلا إن «هناك كتبا لم أقرأها بعد» وفي كثير من الأحيان كان يقرأ بعض الكتب أكثر من مرة.
ولع الجابري، الذي يطلق عليه القريبون منه اسم «سي عابد»، بالكتابة، جعل أمر متابعة مسار حياته في متناول كل من يريد أن يتعرف على سيرة عصامية، مسألة لا تتطلب الكثير من البحث. كل شيء مكتوب. الكلمة حياتها وسرها أن تكون مكتوبة. هكذا كان حالها مع محمد عابد الجابري.
المسار التعليمي لراعي الغنم، في واحة أو بلدة فكيك القريبة من الحدود المغربية - الجزائرية، كتبها الجابري بنفسه. لم يترك للآخرين أن يجتهدوا. الطفل راعي الغنم هذا، كتب في كتيبات أصدرها من سيصبح من أبرز مفكري وفلاسفة العصر، جميع التفاصيل. تطرق فيها إلى تلازم «التعليم» مع «الوعي السياسي».
في بداية مشواره التعليمي، سيقرر والد محمد عابد الجابري أن ينقله من المدرسة الفرنسية التي كان يدرس بها إلى «مدرسة النهضة المحمدية» في فكيك، لأن «الوطنيين» أي أولئك المغاربة الذين كانوا يناهضون الاستعمار الفرنسي، اعتقدوا يقينا أن بقاء أبنائهم في «المدارس الفرنسية» سيطفئ فيهم جذوة الروح الوطنية. انتقل الطفل «محمد» إلى مدرسة «النهضة المحمدية» التي أسسها الوطنيون، حيث كانت المدارس الأهلية، تعتبر هي «المدارس الوطنية» في ذلك الزمان. وكانت سن الطفل آنذاك، ثماني سنوات.
يقول الجابري إن الالتحاق بتلك المدرسة كان يعني تلقائيا أن التلميذ، أو حتى المدرس، قد انضم إلى «حزب الاستقلال» حزب الوطنيين أيامئذ. ويشرح ذلك «كان التحزب يعني الانخراط في العمل الوطني». كان حزب الاستقلال آنذاك، يماثل حزب « الوفد» في مصر أو «الحزب الوطني الاتحادي» في السودان.
يقول الجابري عن تلك الفترة «الانتقال من المدرسة الفرنسية إلى المدرسة المغربية خلف في نفسي أثرا عميقا، وغدا يتحكم بصورة تلقائية عفوية في توجيه نظرتي للأمور» ويضيف في جملة مشحونة بالدلالات «بدأت أشعر بهذا الأثر في وقت مبكر، فرضيت به وأقررته، أو هو فرض نفسه عليّ، لا فرق، كاختيار لا أحيد عنه».
العلاقة بين «الوطنية والسياسة» بالنسبة للجابري، كانت وليدة التحول الذي حدث لطفل في الثامنة من عمره، لذلك سيقول هذا الفيلسوف، عندما وصل إلى أعلى مراتب الوعي «الامتزاج بل الاندماج بين الوطنية والسياسة في وعيي، هو ما يفسر في نظري على الأقل، جوانب كثيرة من سلوكي الحزبي ومواقفي السياسية، ومن دون تواضع زائف أستطيع أن أؤكد أنني أقبل من نفسي الخطأ وجميع أنواع الضعف البشري في الميدان السياسي أو غيره، ولكنني لا أتصور أني أستطيع أن أسلك أي سلوك انتهازي كيفما كان».
بعد تجربة المدرسة الابتدائية في فكيك، سينتقل محمد عابد الجابري إلى مدينة الدار البيضاء. كانت المدينة عندما انتقل إليها في أربعينات القرن الماضي. هي «الميناء والمصانع والأحياء المتربة». وأيضا مدينة «الفرنسيس» أي الفرنسيين كما كان يطلق عليهم المغاربة. مدينة عمالية حتى النخاع. مدينة كانت ولا تزال، صعبة على الفهم وعصية على الوصف. وفي الدار البيضاء ستختلط بالفسيفساء المغربية، والطموحات والآمال.
هناك في الدار البيضاء ستبدأ رحلة أخرى. رحلة ستقود الفتى اليافع، إلى «الشرق» ذلك الشرق الذي تحدث عنه الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي شعرا، في خمسينات القرن الماضي وقال «طحنتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات».
لكن الفتى اليافع يتذكر لقطة في مسار حياته صنعتها جدته. يقول الجابري عن تلك اللقطة «قالت لي جدتي لأبي ذات يوم وأنا طفل.. وكانت مستغرقة في سرد ذكرياتها على مسامعي، ثم توقفت فجأة عن الكلام من الذاكرة، وقالت بصوت الوجدان (آه كم أنا قديمة)، ومع أنني لا أعاني شخصيا من هاجس الشيخوخة (رحل الجابري وعمره 75 سنة)، فقد شعرت عندما كنت أقرأ نصوصا كتبتها منذ عشرات السنين بصوت ينبعث من داخلي يكرر، مع نوع من الانفعال غريب، آه كم أنا قديم». في الدار البيضاء، سيشق محمد عابد الجابري لنفسه مسارا، هو الذي جعل ملك المغرب محمد السادس يقول إنه ظل «رجلا ومفكرا عصاميا».
يرصد الجابري، ذلك المسار، ويتحدث عن محطاته قائلا: «في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1953، بعد إغلاق المرحلة الثانوية بالمدرسة المحمدية بالدار البيضاء على أثر نفي الملك محمد الخامس، التحقت بنفس المدرسة معلما في القسم التحضيري ثم معلما في المرحلة الابتدائية. حصلت في عام 1956 على الشهادة (الإعدادية)، كما حصلت على شهادة الكفاءة في التعليم الابتدائي. مما خول لي الالتحاق بسلك التعليم بوزارة التعليم مدرسا، ابتداء من أول أكتوبر 1957 وعينت في نفس المدرسة معلما معارا للتعليم الحر (التعليم الأهلي). وفي عام 1956 حصلت على الشهادة الأولى للترجمة (مرشح حر) وفي يونيو (حزيران) عام 1957 حصلت على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) - امتحن من المنزل. في أكتوبر عام 1957 انتقلت إلى سورية وبقيت هناك حتى يونيو عام 1958 - حيث أمضى سنة جامعية في دمشق وحصل على شهادة «الثقافة العامة» - وفي أكتوبر 1958 التحقت بقسم الفلسفة في كلية الآداب بالرباط - حيث تابع دراسته الجامعية. وفي أكتوبر عام 1958 التحقت بمعهد ليرميطاج في الدار البيضاء في وظيفة مدير المعهد بالنيابة، - واستمر في ذلك المعهد حتى عام 1959. وفي أبريل (نيسان) عام 1960 سافرت إلى باريس بغرض الالتحاق بالسوربون - لكنه لم يمكث هناك طويلا. وفي يونيو عام 1961 حصلت على الإجازة في الفلسفة ثم حصلت على مرتبة الشرف في يونيو 1962».
في أكتوبر عام 1962 أنشأ المجلس البلدي في الدار البيضاء معهدين ثانويين أحدهما للبنين والآخر للبنات تولى إدارته الجابري. وفي أكتوبر عام 1964 عين أستاذا في «ثانوية مولاي عبد الله» بالدار البيضاء. وفي يونيو عام 1967 حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة (الماجستير) والتحق في أكتوبر بكلية الآداب بالرباط كأستاذ مساعد، وفي عام 1968 تولى وهو أستاذ بالجامعة مهمة مفتش الفلسفة في التعليم الثانوي المعرب في المغرب وفي عام 1969 تمت ترقيته إلى درجة أستاذ محاضر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط.
في عام 1970 حصل على شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة، وكانت لجنة المناقشة مشتركة مغربية - فرنسية، تتكون من أساتذة مغاربة وفرنسيين، من فرنسا تضم البروفسور هنري لاووسوت والبروفسور روجي ارلنديز. ومن المغرب الدكتور نجيب بلدي والمرحوم الدكتور أمجد الطرابلسي وعميد الكلية آنذاك إبراهيم بوطالب. وكانت أول دكتوراه دولة في المغرب في تخصص الفلسفة. وفي أكتوبر عام 1971 عين أستاذا للتعليم العالي بعد حصوله على دكتوراه الدولة. وظل أستاذا في الجامعة إلى حين أحيل إلى التقاعد في أكتوبر عام 2002، بعد زهاء نصف قرن في مجال التعليم.
امتلك محمد عابد الجابري، طاقة جبارة على البحث والعمل الأكاديمي المنظم. عمل في جميع الاتجاهات وفي كل الأوقات. عمل بمثابرة للحصول على أكبر قسط من المعرفة. مسيرة متعرجة في هذا المجال حملته إلى دمشق وباريس، وفي الحالتين لم يصل إلى مبتغاه، لكنه لم ييأس. بقي في سورية سنة وفي باريس بضعة أشهر.
عمل في فترات متقطعة في الصحافة، لم يحترفها، وكان طبيعيا أن يحدث ذلك. لكنه لم ينقطع عنها، ولم تنقطع عنه. عمل في «العلم» أم الصحف المغربية، كما عمل في «المحرر» و«الاتحاد الاشتراكي» اللتين أصدرهما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأصدر رفقة آخرين مجلتين هما «أقلام » و«الأهداف».
كان الجابري من أكثر كتاب العالم العربي الذين طلبت منه صحف ومجلات ومطبوعات أن يكتب فيها. لم يكن يرفض، لكن كلمته الشهيرة ظلت هي جوابه «سنرى»، وحتى حين يواجه إلحاحا، يبتسم ويقول «سنرى». واختار أن يكتب مقالا أسبوعيا في مجلة «المجلة» حتى تحولت من ورقية إلى إلكترونية.
كان الجابري سياسيا. لم يكن محترفا. ولم يتفرغ قط للسياسة. كان دائما متحفظا بل معارضا أن تكون السياسة هي المدخل إلى المناصب والمواقع. طيلة مسيرته السياسة لم يطلب موقعا أو منصبا. ظل يعتبر السياسة «التزاما». وفي كل الأحيان «نضالا».
في الفكر ظل حرا طليقا، لكن في السياسة قبل راضيا أن تكون السياسة هي «الالتزام»، لذلك ظل وفيا لحزبه (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية). لم يبرحه ولم يكن يرغب في ذلك.
بقي وفيا لمؤسس الحزب الأول المهدي بن بركة. وقال عنه إنه رجل كان يردد دائما «ليست هناك مشكلة». ولعل من مفارقات الزمن أن المهدي بن بركة نفسه سيصبح بعد اغتياله في باريس في منتصف الستينات، أكبر حالة «سوء تفاهم ومشكلة» بين أنصاره ومعارضيه في تاريخ السياسة المغربية المعاصرة. في السياسة وجد نفسه أيضا أن لديه ارتباطا قويا بشخصية مثيرة للجدل في تاريخ الحزب أي «الفقيه محمد البصري». لكن الجابري وجد نفسه على خلاف مع ما يدعو إليه البصري ورؤيته السياسية.
وكان الجابري قريبا لأسباب متشابكة إلى عمر بن جلون الذي أصبح فعليا ومنذ بداية السبعينات الشخصية المؤثرة وواسعة النفوذ في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. المتحمسون له كانوا يعتبرونه قائد الحزب الفعلي. كان عمر بن جلون يساريا لا يخفي توجهه العقائدي، وشخصية كارزماتية وصدامية مع النظام. هذه العلاقة الوثيقة هي التي جعلت الجابري، هو الذي يقرأ «التقرير الآيديولوجي» في المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي أو ما عرف أيضا باسم «المؤتمر الثالث» في السبعينات، وهو المؤتمر الذي جعل ذلك الحزب أكبر قوة سياسية معارضة في البلاد. يرسم الجابري صورة عن قرب عن عمر بن جلون الذي اغتيل في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1975 فيقول «كان عمر - رحمه الله - شديدا في الحق، فلما شب ونضج أصبح أشد المغاربة مجاهرة برأيه ودفاعا عن الحق».
ثم ربطته علاقة قوية مع عبد الرحيم بوعبيد، وبسببه رفض طلب ترشيحه لعضوية الأكاديمية الملكية المغربية، لأنها لم تضم بوعبيد أو آخرين من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو يرى أن بوعبيد «رائد لا يكذب أهله» ويلخص شخصية بوعبيد في ثلاث كلمات «كله إباء وشمم».
كما ارتبط بعلاقة قوية مع عبد الرحمن اليوسفي الذي خلف بوعبيد، ويقول إن بوعبيد هو الذي رشحه للموقع، ويقول أيضا إن اليوسفي تشاور معه حين رشح لرئاسة الحكومة وإن علاقتهما ظلت وطيدة.
كان محمد عابد الجابري هو أول مغربي يحصل على «دكتوراه الدولة» من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وكانت أطروحته للحصول على تلك الدكتوراه بعنوان «العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي». حتى منتصف السبعينات، كان الجابري هو نجم كلية الآداب، يحضر الطلاب محاضراته من جميع الكليات، بما في ذلك الكليات العلمية. وكان يلقي دروسا تجمع بين الفكر الإنساني بمعناه الشاسع الواسع، والفلسفات قديمها وحديثها، ومناهج العلوم الفلسفية، وفكر ابن خلدون، وقضايا التراث.
كان أستاذا يثير حماسة طلاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية العلمية في ذلك الوقت، وكاتب هذه السطور أحدهم، خاصة في شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. وكان الطلاب شغوفون بمعرفة تفاصيل الخلاف الفكري والفلسفي العميق بين الجابري، وأحد قمم الفكر الفلسفي في المغرب، وهو الدكتور والمفكر عبد الله العروي.
لم يكن أي أحد من المفكرين ليخوض في أسباب الخلاف «الفكري والفلسفي» بينهما على الرغم من أنهما ينتميان إلى الحزب نفسه، أي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لكن الجابري وبعد سنوات طويلة وفي عام 2002 في إحدى كتاباته النادرة التي لم يتم تداولها على نطاق واسع، تعرض لذلك الخلاف ليقول «بدا لنا الأستاذ العروي الذي أصدر كتابه (الآيديولوجيا العربية المعاصرة) بالفرنسية عام 1967 وكتابه (العرب والفكر التاريخي) عام 1973، أقول بدا لنا الأستاذ العروي، آنذاك متأثرا، بصورة أو بأخرى، بالتيار المتياسر في فرنسا في عام 1968، وذلك من خلال تجاهله للحركات السياسية والعمالية ودعوته إلى تكوين نخبة من المثقفين تمارس الماركسية التاريخانية. ومع أنه لا ينحو، فيما كتب، هذا المنحى بصراحة فإن تيار «التيار المتياسر» في الجامعة المغربية قد اتخذ منه مرجعية للماركسية».
ثم يقول الجابري «يطرح الأستاذ العروي في السطور الأولى من كتابه إشكاليته الفكرية بوضوح تام. يقول (أي العروي) بدأت أحس أن المشكلة الأساسية التي أحوم حولها منذ سنين هي الآتي: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل ومن دون أن يعيش مرحلة ليبرالية. لنلاحظ أولا أن استعمال كلمة «قبل» مطلقة... فهل معنى هذا أن الأخ العروي، يشك في إمكانية انتقال الوطن العربي من وضعه الراهن وهو وضع غير ليبرالي، إلى وضع اشتراكي، دون المرور بالمرحلة الرأسمالية، الليبرالية. الواقع أن الأخ العروي لا يطرح المسألة طرحا قاعديا، أي على مستوى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بل يطرحها فوقيا فقط. أي على مستوى الفكر وحده. مستوى المكتسبات الفكرية الليبرالية».
كان محمد عابد الجابري في محاضراته لطلاب شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، يلقي محاضراته في مدرج ابن خلدون أو الشريف الإدريسي، والقاعات الأخرى في الكلية، بصوت جهوري متمهل.
كان يحظى باحترام جميع الطلاب. كان هؤلاء الطلاب آنذاك يحترمون أساتذتهم، إلى الحد الذي لم يكن يجرؤ طالب أن يذكر اسم أحدهم مجردا من الألقاب. وكان الطلاب يتداولون اسم محمد عابد الجابري، مختصرا فيما بينهم فيقولون «سي الجابري».
كان يجلس خلف نظارته السميكة، بقامته المديدة، وجسده الممتلئ، وحديثه المتمهل، وابتسامته الحاضرة، وقدرته الفائقة على الإنصات، وجاذبيته المثيرة. يبهر طلابه بتبسيط الدروس، والاستفاضة في الشرح. ظل الجابري يقرأ كثيرا ويكتب أكثر، لكن كانت لديه أيضا موهبة تتجلى في الاحتفاظ بكل أوراقه قريبة إلى صدره. كتوم. متحفظ. رقيق لا يجرح أحدا، لكن من الصعب أن تزحزحه عن موقف ارتضاه لنفسه. وكان فيه قسط وافر من غموض السياسي والمفكر. لكن خصومه كانوا يعرفون كيف ينالون منه، لأنه كتاب مفتوح لا يكل ولا يمل من الكتابة. وأصدقاؤه يعرفون جيدا كيف يدافعون عنه لأنه رجل « كاتب» يكتب كل شيء. ولأنه مثقف ومفكر يفيض ذكاء، فإنه في كثير من الأحيان يستطيع أن يقول ملاحظات نفاذة يمكن أن تكون لها قيمة تاريخية. كان رجلا يتمتع بصلابة خلقية ووطنية تدعو للإعجاب. لذلك جاءته المناصب فرفضها بأدب، وسعت إليه الجوائز من جميع أنحاء العالم العربي، بما في ذلك جوائز من بلده، ومنه جائزة «كتاب المغرب» واعتذر عنها بلباقة. رصين وحازم ودقيق في مواعيده وفي التزاماته. إذا قال «نعم» هي « نعم» وإذا قال «لا» هي «لا». يدافع عن موقفه بود، لا يكل ولا يمل. يخلط كثيرا بين العقل الجامح، والأحلام التي ترتاد كل الآفاق. رجل يحلق بفكره بعيدا. لا يثور لكنه يعرف متى يتخذ قراراته ومواقفه، يطرحها بلين ورفق، لكنه لا يتراجع. يمتاز بقدر وفير من الاستقامة والنزاهة.
يعرف دور الصحافة، لكن لا يهمه أن يتحدث عنه الصحافيون، بل لا يتحدث معهم إلا نادرا، لكن يدرك أهمية الإعلام، لذلك يكتب للإعلام، ولا يترك الصحف تكتب عنه. عيناه صغيرتان تتألقان ذكاء وحزما. لا يكترث كثيرا لأناقته. يميل إلى الألوان الداكنة. قوي الشكيمة. مع حسن الوفادة ورحابة الصدر. مقل في عبارات المجاملة، لكنه يدرك كيف يجلب الاحترام لنفسه. لا تغيب عنه الأسماء. كان ذا ثقافة واسعة ونبرات جذابة، يولي كل فكرة جديدة بالغ اهتمامه. لديه ميل مقلق لقول الصدق والحقيقة. كان رجل فكر ولم يكن رجل فعل. كان متحفظا على الصعيد الاجتماعي، لا أحد يتذكر أنه حضر حفلا. وعلى صعيد أسرته، كان أيضا شديد التحفظ. تحفظ إلى حد الانغلاق. له أربعة أبناء. بنتان وولدان. عصام، وبدر، ومنى ولمياء. ثلاثة منهم أطباء. البنتان محاضرتان في كلية الطب في الدار البيضاء. والابن الأكبر عصام طبيب أسنان، وبدر اختار مجال الأعمال حيث يعمل الآن مسؤولا في شركة خاصة في الدار البيضاء. يقول عن نفسه «سئلت مرارا: لو قدر لك أن تبدأ مسار حياتك من جديد فما كنت ستختار؟ وكان جوابي دائما سأختار نفس المسار». كان يظن جازما أن القراءة هي التي تصنع المجد. قال مرة إذا قدر لي أن أقدم خلاصة تجربتي للأجيال الصاعدة فإنني أكتب ما يلي «اقرأ ما دمت حيا تشق لنفسك مسارا قابلا للقراءة».
التعليقات (0)