لسنا في حاجة لاجتراح البراعة في القول: بأن الثوّار لا يفاوضون، أو أن فلسفة الثورات تقر بمبدأ التفاوض أو الدخول في تسويات مجهولة الأفق والنتائج، الثورة بكل صراحة هي حركة تغيير جذرية وحالة من الانتفاض على الظلم والقهر والفساد، ولا تخفي في جوهرها أدنى قبول أو مساومة بأنصاف الحلول أو العزف على أوتار سياسة فن الممكن!
أيضا الثورة لا تساوي العملية الإصلاحية أو التصحيحة ولا توازيها، فهي مرحلة متقدمة على كافة مراحل التغيير المتنوعة، بها تسقط كل قواعد السلطة؛ بدءًا بالدستور وانتهاء بمختلف السلطات، بما فيها منصب الرئيس وما دونه، كذلك الثورة الشبابيّة في مصر والتي تبقى على رهاناتها الاستراتيجية تلك ولن تُستدرجَ إلى تكتيكات إصلاحية أو تسويات مرحلية، لاعتقاد بأن ما يتمتع به ثوَّار مصر اليوم من وعي وإدراك هو كافٍ لإفشال أية مؤامرة؛ داخلية كانت أم خارجية، لذا هم ملتزمون بالساحات ومراهنون على جملة مطالبهم، وعلى رأسها إسقاط الرئيس وهيكل الدكتاتورية برمته.
لا شك بأن النظام المصري حقق إلى حد ما حالة من الاختراق في صفوف المعارضة –وليس الشباب المعتصمون في ميدان التحرير وكل الساحات- وذلك حين استجابت بعض القوى السياسية التقليدية "الوفد والتجمع" وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين إلى طاولة الحوار، والتي دعا إليها عمر سليمان نائب الرئيس ما يعتقد بأنها قوى مؤثرة وداعمة لهذه الاحتجاجات الغاضبة، وبالرغم من أن المفاوضات بين الطرفين وصلت إلى طريق مسدود، خاصة وأن قوى المعارضة جاء إصرارها من إصرار الشباب المحتجين في مختلف الساحات على إسقاط الرئيس مبارك أولا.
ولم يخلُ مشهد الحوار من تقديم تنازلات نوعية من طرف السلطة، وذلك بالإفراج عن الناشطين المعتقلين وضمان حرية الصحافة وإلغاء قانون الطوارئ، على أن يتم تشكيل لجنة لدراسة التعديلات الدستورية والتي أبدى الرئيس الموافقة عليها مؤخرًا، كما أن المباحثات توقفت عند نقطة مهمة، وهي نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه لإمكانية البت في كافة النقاط التي كان يدور البحث حولها، إلا أن سليمان رفض مثل هذا المطلب مما أدى بقوى المعارضة بوصف التنازلات بأنها غير كافية. والملفت في الأمر أن خطوة المباحثات هذه قد انقسم تجاهها بعض القوى الاجتماعية والسياسية، بين مؤيد ومعارض للحوار. إلا أن ما نعرفه بأن ثوّار ميدان التحرير كانوا وما يزالوا رافضين لمثل هذا الحوار!.
المعارضون للحوار وهم أنفسهم الشباب الذين قادوا الثورة منذ انطلاقتها في 25 يناير كانت أهدافهم واضحة ولم تتغير أو تتبدل، إسقاط الرئيس وهيكله الحزبي والدكتاتوري... وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تجتمع عليها كافة القوى السياسية عدا أعضاء الحزب الحاكم، الأمر الذي يستدعي وفي مرحلة تالية إعادة النظر في الدستور حسب ما تدفع إليه معطيات الحرية والعدالة والديمقراطية، يستحضرون قول أحمد شوقي: "مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أنّ لِلثَّعلبِ دِينا".. ولأنهم ينطلقون من مبدأ أن "الثوَّار لا يفاوضون" على اعتبار أن ذلك يكسب السلطة الساقطة شرعية الاعتراف بها، وهذا ما يتعارض مع فلسفة الثورات بوصفها تؤسس إلى شرعية جديدة لا تمت بصلة عمّا أصبح في عداد حكم الماضي.
أما المؤيدون للحوار – والذين لا يعبرون إلا أنفسهم - فقد أعزوا قبولهم بذلك؛ بدواعي إحراج السلطة ووضعها في اختبار حقيقي أمام مطالب الشعب، فضلا عن المحاولة للتوصل إلى إيجاد صيغة لائقة للتعجيل في رحيل مبارك، غير أن مثل هذه المسألة كما تبين لاحقًا بأنها لم تكن مُدرجة على قائمة المناقشات إن لم تكن مرفوضة ومستبعدة من قبل جهة السلطة. بيد أن ما يعيب هذا التوجه من قبل المعارضة هو ارتكانهم إلى سرديات الإصلاح والقبول بأنصاف الحلول، أي أن مجرد القبول بمبدأ التباحث مع السلطة، هو يعني إكسابها شرعية البقاء، ومنحها فرصة لإلتقاط الأنفاس.
حل الحزب الحاكم، ومحاسبة رموز الفساد، إطلاق سراح بعض المعتقلين، وتأتي المباحثات على طاولة الحوار والتي جمعت بعض أقطاب المعارضة بنائب الرئيس، كل ذلك مجتمعة أعاد للسلطة شيئا من التوازن الذي فقتده منذ بداية الثورة، إن لم يكن ذلك ملموسًا على مستوى الداخل، فقد كان جليًّا على الصعيد الخارجي، لمسناه في تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركية، فبعد أن كان خطابها يصر على انتقال سلس وسريع للسلطة، هي الآن تبدل موقفها تجاه آوان بقاء الرئيس من رحيله، وكما يبدو أن المشهد لا يخلو من تدخل إسرائيل وضغوطاتها، فقد صرح أوباما مباشرة وبعد طاولة الحوار تلك قائلا: إن مصر تحقق تقدمًا في طريق الخروج من الأزمة السياسية والدخول إلى موجة الإصلاح الحقيقي، إذن عليه أن يبقى؛ لأجل أن يتم ذلك!.
الوقائق على الأرض تثبت بأن مبارك الرئيس على استعداد تام لأن يقدم القرابين تلو الأخرى من أجل أن يضمن بقاءه في السلطة، أقلها مع نهاية الفترة المخصصة به، وإنه يستطيع أن يدفع ببعض أفراد عائلته أو بعض رجال الأعمال، وحتى الحزب الحاكم إلى الغياب من المشهد السياسي؛ ليكونوا كبائش فداء من أجل إعادة حالة التوازن التي فقدتها طيلة الأسبوعين الماضيين، يأتي هذا في سياق أن السلطة قد استهلكت العديد من أساليب الترهيب والقمع والتجويع ومحاربة الناس في لقمة عيشهم، ومساومتهم على الفوضى والانفلات الأمني، في الوقت الذي هو يطلق مروحة من الحوار مع بعض قوى المعارضة لا لشيء سوى المحاولة الدوؤبة منه للمراهنة على الوقت واستعادة التوازن من جديد.
الانتهازيون والمتربصون بهذه الثورة تظل مساعيهم حثيثة؛ لأجل إفراغها من مضمونها في التغيير العميق والجذري، لكي تتحول إلى مجرد حركة احتجاج عادية، سقف مطاليبها لا يتعدى إلا الإصلاح الهامشي، فمن يقيس ردود الأفعال ويتابع تصريحات البعض على كافة المستويات، المحليّة والإقليمية والدولية يُدرك تمامًا وبجلاء واضح المحاولات للانحراف بهذه الثورة إلى ما هو أدنى منها بكثير والقبول بأنصاف الحلول، لكن ثوّار الغضب في مصر اليوم يقطون كافة الطرق أمام كل تلك المحاولات البائسة.. بصبرهم وثباتهم في الساحة، واضعين نصب أعينهم مقاربة ثورتهم الشعبية بثورات الشعوب الحرة، كالثورة الفرنسية، وثورات أوربا الشرقية، والثورة البرتقالية.. وكذلك الثورة الأخيرة في تونس، فجميعها أنتجت نموذجًا مدنيًّا، تتألف فيه كافة الأيدلوجيات والتوجهات من خلال مبدأ ترسيخ العدالة والمواطنة.
الثورة هي التغيير الجذري والعميق، هذا هو المبدأ الذي تعمقه حراكية الفعل في الساحة المصرية اليوم، فكما أن النظام وكل المتربصين والانتهازيين، هم يطورون في أساليبهم؛ للانقضاض على هذه الثورة، أيضًا تشكف مجريات الأحداث بأن الثورة الشبابية هي أيضًا بالمقدار نفسه وأكثر، فهي من تطور إلى آخر، من المواجهات التي سهلت الطريق للانتقال إلى مرحلة الصمود، وهذا ما يتم ترسيخه من خلال الثبات في ميدان التحرير ومختلف الساحات الأخرى، حتى الانتقال إلى مرحلة الاستقطاب الجماهيري الحاشد، مما يهيء الفرصة لاحقًا للانتقال إلى مرحلة أعمق وهي محاصرة أبرز المواقع المفصلية في الدولة.
الشباب المصري، يبرهنون للعالم ولكافة الشعوب المحرومة، عمق ورصانة هذه الثورة، والأهداف النبيلة التي يسعون لتحقيقها، ومصر الحضارة والتأريخ لا يليق بها إلى ثورة بهذا الحجم والتصميم. مصر الثقافة والفكر والأدب والفنون، ومصر التعددية والتنوع والجمال، عناوين امتزجت بدماء وصرخات هذا الشباب باعتباره خلاصة كل ذلك، شرقوا أو غربوا هؤلاء هم صنّاع نموذجًا فريدًا من الثورة التي تليق بمصر والمصريين، وأن أية حلول لا تمر من ميدان التحرير وهؤلاء الشباب هي ساقطة سلفًا. وبثباتهم ووضوح رؤاهم وبهذا المزيج الأسطوري هم اليوم يؤسسون إلى حياة جديدة، وعهد جديد مع الحرية والعدالة والديمقراطية، لا ينعم بها المصريون وحدهم، بقدر ما يسري أثرها على كافة الشعوب المظلومة والمحرومة. من يستطيع أن يقيس حركتهم وسكونهم وتطلعهم واستشرافهم يدرك بكل بساطة ذلك الوعي الذي يجري في دمائهم، لذا هم لا يساومون ولا يفاوضون!.
علي آل طالب
a.altaleb@yahoo.com
التعليقات (0)