مواضيع اليوم

الثورة والعقيدة

حسن الزوام

2009-11-24 18:05:01

0

  

الثورة والعقيدة

 

الدكتور منيف الرزاز

 

المسألة التي سنتناولها هنا عمّا إذا كانت الثورة أية ثورة والثورة الفلسطينية بشكل خاص في حاجة الى نظرية ولعل طرح هذا السؤال غريب في ذاته لولا أن هناك فعلا من يقول وبشدة  وحزم إن الثورة الفلسطينية ليست في حاجة الى نظرية ولم تكن في حاجة الى نظرية .

لأننا كما يقولون تعبنا من  كثرة النظريات التي خضنا فيها خلال السنوات العشرين الماضية وأنه لم يبق أمامنا أن نزيد في هذا القول فإننا لن نصل الى نتيجة ؛ ويقولون أيضا بأن عملية تحرير فلسطين هي عملية تحرير أرض وتحرير الأرض لا يحتاج الى نظرية وأن النظرية المقبولة هي النظرية النابعة من فوهة البندقية .

وفي واقع الأمر إن في هذه الحجج كثيرا من مجانبة الحقيقة خلال السنوات  الماضية التي سبقت عام 1967 بشكل خاص ومحدد لم يتعب الشعب العربي من كثرة النظريات بقدر ما تعب من كبت النظريات وإضطهادها ومحاولة قوقعتها ومنع إنتشارها ومنعها من أخذ الهواء الطلق والنفس العميق لم يتح أبدا أن تتنفس أن تتطور وأن تصل الى عقول الناس ؛ إن الشعب العربي في تلك المرحلة لم يتعب من كثرة النظريات وإنما تعب من كثرة التآمر على النظريات تعب من إنشغال النظريات في مجرد محاولة الإبقاء على الوجود وبإنهماكها في هذا الإبقاء على الوجود إنصرف الشعب عن واجبات كثيرة كان  يجب أن يقوم بها  لو كان أتيح له الجو المناسب لذلك .

المرحلة الماضية لا يمكن أن نسميها مرحلة نظريات  المرحلة الماضية يمكن أن نسميها  مرحلة اللانظرية اللاحزبية اللاجماهيرية مرحلة الكبت الجماهيري مرحلة  قوقعة الجماهير في القواقع التي أرادتها لها الأنظمة المتخلفة في الأقطار العربية إذن الحجة الأولى في الواقع نحن لم نتعب من النظريات نحن لم نعاني النظرية لم نعشها لم نعطها النفس الكافي الأكسيجين الكافي لتكون فعلا نظرية تثبت قدرتها على البقاء وجدارتها في الفعل .

إذا جئنا للحجة الثانية فهل صحيح أن تحرير الأرض لا يحتاج الى نظرية ؟؟؟ صحيح أن تحرير الأرض لا يحتاج الى نظرية لو كانت المعركة معركة جغرافية فحسب معركة بين الهند والباكستان على قرية هنا  أو قرية هناك يمكن أن تمر بدون نظرية لو كان الخلاف خلافا على قطعة أرض يمكن أن تمر بدون نظرية لو كان نزاعا مع إسرائيل نزاعا على أن تلتحق طول كرم بالأردن لما إحتاج الأمر فعلا الى نظرية  ؛ المعركة الجغرافية وحدها هي التي تكون بلا نظرية لأن طبيعة المعركة الجغرافية أنها تقبل بأساس الوجود لطرفي المعركة هناك خلافات تحل ولكن أساس  الوجود غير مطروح في المعركة الجغرافية ولذلك يمكن أن نقول في هذه الحالة إنه بالإمكان تجاوز النظرية وتجاوز العقيدة وأن تكون هناك معركة مسلحة بسيطة هي التي تقرر أن تبدأ هذه القرية أو أين تقف الحدود أو أين ينتهي النزاع .

ولكن هل النزاع بين العرب وإسرائيل هو من طبيعة هذه المعركة الجغرافية ؟؟؟ هل طبيعة هذه المعركة على أساس الإعتراف بالوجود المتبادل وكل ما في الأمر هو أن هناك خلافا يقوم على تحديد الحدود التي تقوم بين الدول العربية وإسرائيل ؟؟؟؟

أليس من الواجب في معركة كمثل التي تدور بين الشعب العربي وبين الصهيونية أن نقرر أنها معركة تدور على أرض فلسطين ولكنها ليست معركة جغرافية تقتصر على أرض فلسطين لأنها في الواقع معركة تاريخية معركة لها جذور في التاريخ  فيقرر مصير إما الصهيونية كحركة إستعمارية ومصير إستعمار من جهة وإما أن يقرر مصير معركة التحرر العربي ومعركة التحرير العالمي ضد الإستعمار والإمبريالية من جهة أخرى .

إنها في شكلها تأخذ الشكل الجغرافي ولكنها في حقيقتها معركة مصيرية وبالتالي معركة تاريخية وأول ما يقتضيه الإعتراف بأنها معركة تاريخية هو أن  نعين بين من ومن تدو المعركة في تحرير الأرض شكل المعركة وشكل تحرير الأرض . أليس من الواجب أول واجب أن نعين ماهية العدو من جهة ؛ أليس من الواجب أيضا  أن نعين ماهية الثورة والثوار من جهة أخرى ؛ أولسنا  حين ننطلق في تعيين ماهية العدو  وماهية الثورة والثوار نبحث في الواقع في نظرية الثورة ؟؟؟ من هو العدوّ ؟؟؟ هل العدو أولائك اليهود القاطنين في فلسطين فعلا ؟؟ هل العدو مجرد شعب مشرد يطالب بأرض ؟؟ هل هؤلاء اليهود الموجودين في فلسطين يعيشون في مجتمع طبيعي  ولدوا وخلقوا فيه وكل ما في الأمر أن بيننا وبينهم نزاع على حق العيش في تلك الأرض ؟؟؟ هل لهم حق طبيعي للأرض كما للأكراد حقوقهم القومية مثلا أم هو مجتمع مصطنع مفروض وبالتالي يقتضي حلولا أخرى تختلف عن الحلول التي توضع من مجتمعات ذات الطبيعة المتصلة بالأرض والتاريخ  ؟؟؟؟  هل هؤلاء اليهود  لاجئون هاربون من الإضطهاد ليس لهم مكان يعيشون فيه في أنحاء العالم فنفتح لهم صدورنا ونقبلهم بيننا اليوم وقبل اليوم كثيرا من اللاجئين وبيننا نحن اليوم يعيش الأرمن أو لاجئون من إضطهاد عانوه سابقا  وبيننا  الشركس الذين لجأوا أيضا من إضطهاد عاشوا فيه سابقا ففتحت لهم قلوبنا وما زالت وأصبح وطننا  وطنهم وحقوقنا حقوقهم وواجباتنا واجباتهم ؟؟؟ ما هو الفرق بين الصهيونية واليهودية ؟؟؟ ما هي الصلة بين الصهيونية والإمبريالية ؟؟؟ هل يمكن أن نقاوم الصهيونية دون أن نقاوم معها الإستعمار والإمبريالية ؟؟؟ هل يمكن أن تكون حربنا  حربا صادقة ضد الصهيونية ذا أردنا أن نفصل بين بين الصهيونية والإستعمار وأن نتحالف مع الإستعمار أو نمالئ الإستعمار أو نمالئ الدول التي هي رأس الإمبريالية في العالم من جهة وأن ندعي حرب الصهيونية من جهة ثانية في الوقت نفسه ؟؟ هل يمكن إقامة حركة يسارية مناهضة للصهيونية داخل إسرائيل بين اليهود القاطنين في فلسطين والمهاجرين إليها مع إيمان بوجوب إقامة دولة صهيونية ؟؟ هل يمكن إقامة حركة يسارية مناهضة للصهيونية داخل إسرائيل يمكن  للحركات اليسارية التقدمية العربية مثلا أن تتحالف معها  وأن تقف ضد الصهيونية كعدو مشترك ؟؟ هل طبيعة الصهيونية النازية العنصرية العرقية الثيوقراطية المتعصبة المتغطرسة المعتدية التوسعية مجرد صدفة خلقت لأن  زعامات إسرائيل كانوا بن غوريون أو دايان وأن إختلاف الزعامة في إسرائيل وبالتالي تغير أشخاص الزعماء قادر على تغيير طبيعة الصهيونية أو إجراء تغيير أساسي فيها ؟؟ هل هذه الطبيعة صدفو أم من طبيعة الفكرة الصهيونية ومن طبيعة ولادتها في ظرف تاريخي معين وتحت شروط معينة ؟؟

إن  الجواب عن كلّ سؤال من هذه الأسئلة معناه في الواقع تحديد نظرتنا بالنسبة للعدو  وبالتالي تحديد أسلوب عملنا فهل يمكن أن نحارب من أجل تحرير الأرض قبل أن يكون في فكرنا وذهننا صورة ما عن أجوبة هذه الأسئلة ؟؟ فإذا كونت هذه الصورة أفليست  عندئذ  ما نسميه بالنظرية .

مثلا لو كان اليهود مجرد لاجئين هاربين من إضطهاد لكان حل مشكلتهم واضحا في الواقع عندما جاء اليهود بدفعاتهم الأولى سنة 1882 هاربين  لاجئين من الإضطهاد الروسي الضخم الذي تعرضوا له في أيام روسيا القيصرية في ذلك الوقت وأسسوا مستعمراتهم الأولى في الجليل الأعلى ثم بعد  ذلك أتبعوها في مستعمرات أخرى وفي أماكن أخرى فإن السكان العرب لم يعارضوهم معارضة حقيقية وإنما عاملوهم كلاجئين هاربين مضطهدين وإستضافوهم بينهم وفي الواقع لعل قسما كبيرا من الذين جاءوا في ذلك الوقت لم تكن فكرة الصهيونية قد ولدت في رؤوسهم بعد أولاءك المهاجرون الأولون أو لعلّ   بعضهم كان قد تكونت عنده تلك الفكرة إنما رد الفعل العربي في ذلك الوقت كان مثل رد فعل العرب حين جاءهم الأرمن أو حين جاءهم الشركس وعاشوا بينهم لاجئين من الإضطهاد .

لو كان المجتمع الإسرائيلي قادرا على خلق حركة يسارية مناهضة للصهيونية أيضا لأثر ذلك على طبيعة عملنا وطبيعة معرفتنا في هذه الحالة يجب أن يكون من ضمن إستراتيجيتنا للعمل أن نتوجه الى هذه الحركة اليسارية وأن نطلب منها أن تقف معنا في حربنا ضد الصهيونية ولكن الصهيونية كما هي في واقع الأمر ليست مجتمعا طبيعيا ككل المجتمعات التي نعرفها في أنحاء العالم حتى المجتمع الأمريكي والولايات المتحدة كما تعلمون جميعا رأس حربة الإمبريالية في العالم ورأس حربة الرأسمالية المسلطة حتى الولايات المتحدة فيها حركات يسارية  أصيلة تقوم على رفض هذا الدور الإمبريالي الذي تقوم به الدولة والمؤسسات التي تسير الولايات المتحدة والتي يسمونها المؤسسات الأساسية الممثلة للولايات المتحدة  إذن فحتى في الولايات المتحدة رأس الإمبريالية في العالم يمكن أن تقوم حركات من هذا النوع  فهل يمكن أن تقوم حركات من هذا النوع في إسرائيـل ؟؟؟؟

في واقع الأمر إن كل المجتمع الصهيوني مجتمع مصطنع وهو بطبيعته كمجتمع ككلّ كفكرة كطبيعة قائم على أساس أن يكون  إستعمارا وأن يكون رأسا للإمبريالية وأن يكون مجتمعا مصطنعا مفروضا من الخارج على مجتمع طبيعي وهو المجتمع العربي القائم في فلسطين . وكل يهودي هاجر الى إسرائيل بغرض الإقامة فيها في ظل الدولة الصهيونية هو صهيوني وبالتالي غير قادر على أن يقوم في حركة يسارية مناهضة للصهيونية لأنه لو كان قادرا على ذلك لما هاجر  وترك . فكل مجتمع في الدنيا  قادر على أن يخلق الحركة اليسارية التقدمية من قواعده الطبيعية أما المجتمع الصهيوني فهو المجتمع الوحيد في العالم الذي لا يمكن في يوم  من الأيام أن يخلق حركة يسارية أصيلة مناهضة للصهيونية ولن يمكنه ذلك إلا حين تنهزم الصهيونية إنهزاما كاملا وشاملا ويفقد الأمل في وجود أي دور لإسرائيل في الأرض العربية .

فإذا كانت الصهيونية كذلك فمعنى  هذا أنها ليست ذات طبيعة إستعمارية فحسب ؛ مصطنعة فحسب بل هي في طبيعة تكوينها فاشية نازية وطليعة من طلائع الإمبريالية العالمية وبالتالي كان لا بد لنا من الإستنتاج بأن معركتنا الحقيقية حين توجه ضد الصهيونية لا بد لها  أن توجه في نفس الوقت ضد الإمبريالية وأنه لن  يكون هناك موقف صادق وحقيقي وعنيف من الصهيونية بممالاة وموالاة الإستعمار والإمبريالية .

إذن البحث في هذه المواقف هو في الواقع بحث عن نظرية ؛ ويأتي السؤال الذي يقرر ما هي الثورة ومن هم الثوار وهل هم الفلسطينيون الذين فقدوا دورهم وأراضيهم وهل أن فقد الدار والأرض هو السبب الوحيد والأساسي للثورة ؟؟؟

لو كان جواب هذا السؤال بالإيجاب لما كان على السكان  في الضفة الغربية قبل عام 1967 أن يشتركوا بالمعركة  وكان فقط على الذين فقدت دورهم أن يشتركوا ؛ فلغاية 1967 بحسب هذه الحجة لم يكن على الفلسطينيين أن يقاتلوا  في كامل التراب الفلسطيني فالذين  يحق لهم القتال هم أولائك الذين  سلبت منهم أراضيهم ودورهم . وبعد 1967 حلّت هذه المشكلة وأصبحت بمعنى من المعاني جميع الفلسطينيين  معنيين بالمعركة بإعتبارهم جميعا قد فقدوا دورهم وأراضيهم ومزارعهم ؛ أيضا فإن عام 1967 لم يقتصر على فقدان فلسطين وحدها وإنما إمتد التوسع الصهيوني ليشمل على جزء من الأراضي السورية وجزء من مصر وبذلك كان لا بد في هذين القطرين على الأقل أن يقع الإشتراك في المعركة لإسترجاع الأرض المسلوبة ولو كانت المعركة كما قلنا في بدء الحديث معركة جغرافية فحسب لوقف دور الحرب عند هؤلاء  لأن البقية لا ناقة لهم فيها ولا جمل فهم ( ونقصد بقية العرب ) لم تسلب أراضيهم ولم تحتل دورهم ولم يلجأ أحد منهم .

إن الثوار أيها السادة هم الشعب فقد كان قيام إسرائيل طعنة في ظهر حركة التحرر كلها إقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا وكان قيام إسرائيل عقبة أمام وحدة العرب عقبة أمام وضع كل طاقات الأمة العربية في سبيل تقدمها الإقتصادي وبناء حضارتها المقبلة عقبة أمام إستغلال العرب لثرواتهم الحقيقية عقبة لإقامة كل أنواع التناقضات الفرعية وغير الفرعية بين الأقطار لإستدامة هذا الوضع الرجعي القائم في الوطن العربي .

إذا كانت إسرائيل معناها إحتلال أرض فتلك قضية ؛ وإذا كان وجود إسرائيل تعطيلا لحركة التحرر العربي كلها إقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا ودفع الأموال الطائلة في تقوية جيوش لتقف أمام العدوان وهي كانت قادرة لو لم تكن إسرائيل  إذا كان الشعب العربي كله قد تضرر فعلا من وجود إسرائيل  كان على الشعب العربي كله أن يخوض المعركة من أجل التحرير فالشعب العربي مسؤول  إذن عن تحرير الأرض . وهنا نتساءل : هل كلمة (كلّه) تعني شعبه وجماهيره ودوله ومؤسساته في شكلها القائم حاليا وطبقاته المختلفة أو فئاته المتناقضة ومصالحه أيضا المرتبطة بالإستعمار في الوقت الحاضر ؟؟؟ ماذا نعني هنا  بكلمة (واجب) ؟؟؟ من هو القادر فعليا  على دخول المعركة ؟؟؟ هل هناك متخلّ عن الواجب ؟؟؟ هل هناك من يحاول أن يستسلم وأن ينقذ ما يمكن إنقاذه ؟؟؟ أو يكتفي بإزالة آثار العدوان ؟؟؟ أو يفكر في صلح  ما يرجع للعرب بعض حقوقهم ؟؟؟ وهل هناك  بين العرب تناقضات فرعية أو أصلية قائمة فعلا ؟؟؟ أوليس تحديد  الموقف من هذه المؤسسات والأنظمة والطبقات هو موقف إيديولوجي  نظري معين ؟؟؟  ألم نقف موقفا إيديولوجيا ؟؟؟ ألم نضع نظرية للثورة ؟؟؟ هل جميع طبقات الشعب تخوض المعركة بنفس الإندفاع ونفس الإيمان ونفس الربط بين الصهيونية والإمبريالية ؟؟؟

إن علينا أن نجيب هل أن الذين ترتبط مصالحهم مباشرة بالمصالح الأمريكية القائمة قادرون على أن يربطوا في المعركة  بين المصالح الإمبريالية وبين المصالح الصهيونية في الوقت نفسه وأن يقاتلوهما معا ؟؟؟

إن الجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة معناه تحديد نظرتنا الى الثورة  والى الثوار والى القوى المساندة للثورة والمناهضة لها . فالقول بأن فوهة البندقية شعارنا ونظريتنا قول جميع رائع لو كان يفهم منه أن كل نظرية مهما عمقت نظرية تافهة إذا لم تقترن بالبندقية عندئذ فهذا القول قول صحيح ولكن فوهة البندقية وحدها في حد ذاتها ليست غاية ولن تحل المشكلة وليست بديلا عن النظرية ؛ ففي عام 1967 واجهنا إسرائيل على الأقل ب100 فوهة بندقية عربية ومع ذلك فإنها لم تهزم .

إن فهم طبيعة المعركة وبالتالي النظرية التي تبنى عليها المعركة هي بالضرورة التي تقرر لا أين توجه هذه البندقية  فحسب ولكنها تقرر أيضا أن تكون هذه الفوهة فعالة وناجحة ومصوبة نحو أهدافها تصويبا  فنحن لا يمكن أن نستعيض عن النظرية بالشعارات المؤقتة كما إستعملنا هذه الشعارات خلال عشرات السنين من المرحلة التي سميناها اللانظرية واللاحزبية واللاجماهيرية ؛ لا يمكن أن نستعيض عن النظرية في شعارات مؤقتة مثل ( نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا ) فهل هؤلاء الذين يصادقوننا يصادقوننا بالصدفة ؟؟ يصادقوننا لسواد عيوننا ؟؟ هل هؤلاء الذين يعادوننا يكرهون لله في سبيل الله ؟؟ أم أن هناك مصالح وقوانين تتحكم بهذه المصادقة وتتحكم بهذه المعادلة وأن علينا أن نعرف من يصادقنا ومن يعادينا قبل أن ننظر ترى هل سيصادقنا أم سيعادينا في المعركة وبالتالي فإن نظرية الثورة هي التي تدلنا كيف تتخذ الثورة موقفها من كل ما حولها من نفسها أولا ومن عدوها ثانيا ومن حولها ثالثا ومن المحسوبين عليها رابعا .

ومن هناك فنحن يمكن أن نضع السؤال بعد هذه المقدمة الطويلة على النحو التالي :

هل يمكن بواسطة نظرية علمية مدروسة أن نعرف مسبقا مواقف شعبنا ومستلزمات نضالنا أم نضطر الى أن نترك هذا كله لننتظر الصدفة والتغييرات حسب ورودها ؟؟ وهل يمكن بالتالي إحلال النظرة المسبقة القائمة على دراسة علمية موضوعية محلّ الصدفة ومحلّ أسلوب التجربة والخطأ ؟؟؟

الإجابة عن هذه الأسئلة واضحة إذا ما آمنا إيمانا مطلقا في مبدأ ما أو نظرية ما أو في أسلوب النظرية أو الإيديولوجية العلمية فالإيديولوجية ليست عملا ما النظرية في واقعها تفسير علمي للتاريخ والتغييرات التي تكوّن التاريخ تفسير لطبيعة القوى المتصارعة في التاريخ وفي إرتباطات هذه القوى والقوانين التي تسيطر على حركة هذه القوى وعلى تغيرات هذه القوى . النظرية إذن ليست إيمانا أعمى ؛ النظرية فهم وفهم مفتح الذهن ؛ النظرية فهم علمي وموضوعي للتاريخ يقترب من منطقة العلم بالقدر الذي يمكن فيه لأي نظرية تتعلق بالإنسان والمجتمع الإنساني والعلاقات الإنسانية أن تكون أقرب الى منطقة العلم . النظرية ليست فيها كلمة ( يجب ) النظرية ليست أخلاقا والإيديولوجية ليست أسلوب عمل ؛ النظرية فهم للتاريخ قائم على إستقراء منطق التاريخ وتطوره وإستنتاج القوانين التي تفسر لنا هذا التغيير فليس في النظرية كلمة ( يجب) أبدا ليست فيها قواعد أخلاقية محضة ليس من صلبها أن يكون فيها أسلوب عمل وإن كانت النظرية هي الدليل النظري لأسلوب العمل الذي لا بد أن يستنتج منها  فالنظرية تصبح بهذا المعنى منهجا أو دليلا لأسلوب العمل أسلوب نرسمه نحن لا يرسم لنا في نظرية ونرسمه نحن إستنتاجا من فهمنا العلمي التقريبي للنظرية والإيديولوجية .

ومن معرفتنا لقوانين التاريخ يمكن أن نحلل مواقفنا في الحاضر والقوى المتصارعة في الحاضر ومعنى هذه القوى وموقفها من التاريخ وأن نحدد موقع قوانا والقوى المتصارعة معنا وأن نحدد أسلوب عملنا في هذا الصراع .

الى هنا نكون قد وصلنا الى إستنتاج بسيط ولكن أصيل هو أن الثورة الفلسطينية ككل عمل تاريخي أصيل ليست وليدة الصدفة ولن يكون أسلوب عملها مقترنا بالصدفة وإنما سيكون بحاجة الى فهم نظري ينير لها الطريق وهذا الفهم لا بد أن يزداد تعقيدا كلما تعقدت طبيعة المعركة وصعبت ؛ فالصراع في فلسطين أشد تعقيدا من أي صراع مماثل في العالم الحديث فهو إذن أكثر حاجة الى النظرية من أي صراع آخر .

فإذا إقتنعنا بأن  الثورة الفلسطينية في حاجة الى فهم نظري لها والى أوضاعها فثمة بعض الأسئلة الجانبية التي لا بد أن تطرح نفسها في ساحة المعركة  وأولى هذه الأسئلة : هل ثمة حاجة لإرتباط هذا الفهم النظري لثورة محددة بالذات كالثورة الفلسطينية مثلا بنظرية تاريخية عامة شاملة ؟؟

وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نذكر حقيقتين :

-1- إنه ليس في العالم كله ثورة طبق الأصل من ثورة أخرى فكل ثورة لها خصائصها الضرورية التي تتميز بها.

-2- ليس في العالم كله ثورة مقطوعة عن أصولها وعن تاريخ الثورة في العالم وعن تاريخ العالم ككل وبالتالي فليس هناك ثورة في العالم لها قوانين خاصة بها مغايرة للقوانين التي تسيّر التاريخ كله لأنها في طبيعتها جزء من صراع قوي لم تقم في عام 1965 أو 1966 أو 1967 حين قامت الثورة وإنما هي نتيجة طبيعية لتاريخ ممتد على الأقل الى القرن التاسع عشر لأن الصهيونية ولدت في ذلك التاريخ .

وبالتالي إذا أردنا أن نرجع الى أعماق التاريخ نجد أن الثورة الفلسطينية القائمة حاليا ولدت في يوم معين وفي ظرف معين ولكنها لم تولد مقطوعة عن شجرة ولدت وهي جزء من هذا التاريخ لا يمكن أن ينفصل عنه وبذلك فإن الفهم العلمي الصحيح  للصهيونية والإستعمار والإمبريالية لا بد أن يرجع بنا الى دراسة قوانين التاريخ كلها وبالتالي فالنظرية وإن كان لا بد علينا أن نطورها بعض التطوير لتلائم أوضاعا جديدة لم تكن موجودة في التاريخ وبما أن التاريخ شيء متطور وهو يتغير من يوم الى يوم فعلم التاريخ لا يمكن أن يكون ثابتا أبدا بشكل غير متطور .

إذن فالثورة الفلسطينية وأي ثورة أخرى مثلها تستقي من التاريخ وهي في نفس الوقت تضيف الى التاريخ .

والسؤال الثاني الذي لا بد أن يرد وهو وارد يوميا  هو : هل النظرية  شيء يمكن تأجيله الى ما بعد إنتصار الثورة أم أنها شيء ملح أثناء الثورة لا بعدها فحسب ؟؟؟

الذين يقولون بتأجيل النظرية يتوهمون أننا نعني بالنظرية نظاما معينا إقتصاديا أو غير إقتصادي لا يمكن إقامته أو تطبيقه إلا بعد إستقرار مجتمع الثورة ؛ فهم يقولون مثلا مالنا  وما  للإشتراكية الآن  لنترك ذلك الى ما بعد التحرير .

النظرية أعمق من ذلك وأشمل ؛ النظرية فهم  عامل لمراحل التاريخ  وللقوى المحركة للتاريخ في أي مرحلة من المراحل وبالتالي فالنظرية  لا تحدد لنا  نظاما للمستقبل فحسب بل تحدد لنا قوانا في  معركة الحاضر تحدد لنا أسلوب عملنا أيضا وترسم لنا أسلوب عملنا في الوقت الحاضر وتحدد لنا نوعية القوى المختلفة في المعركة تحدد لنا مصادر قوتنا ومصادر قوة العدو وتحدد إرتباط كفاحنا  اليومي المسلح بجوانب حياتنا كلها السياسية والإجتماعية والإقتصادية والتاريخية ؛ إن النظية هي المعين الذي أخذت منه الثورة قواها وهي المعين الذي يدلنا يضا من أين يأخذ العدو  قواه ومن أين تأخذ القوى المضادة قواها .

وخلاصة الكلام هو أن الإستغناء عن النظرية معناه الإستغناء عن كل ما تعلمه الإنسان في تاريخه الطويل ؛ معناه أن كل تاريخنا وتاريخ الإنسانية عبث ؛ معناه البدء من الصفر .

إن النظرية معناها البدء من حيث توصل الإنسان في تاريخ الإنسان والإستفادة  من كل ما حققه في التاريخ ورفض النظرية تماما مثل رفض التعليم والدرس فالمفروض من التعليم في المدرسة أن لا يبدأ الطلاب من حيث بدء الفنيقيون وإلا لتركنا لكل إنسان أن يخترع ألف باءه لوحده فوظيفة المدرسة أن تعطينا خلاصة العلم الذي إكتشفه الإنسان خلال القرون الماضية وتضعها لنا في ملخص يمكن أن يفتح لنا الطريق في حياتنا .

فلو كانت النظرية غير ضرورية لوجب علينا إقفال كل مدارسنا وندع الإنسان يبدأ من الصفر أي يخترع النار ويكتشف الألف باء إذا تمكن من ذلك .

 

الدكتور منيف الرزاز

1978

الكتابات والأعمال الفكرية الكاملة صفحة 218-228




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !