بعد عقود من سيطرة النظم الشمولية على المنطقة العربية سيطرة طالت حياة الشعوب في ابسط تفاصيلها. وتحكمت بمقدراتها, وحرمت أجيالا من الحرية والكرامة الإنسانية, وأصبحت وكأنها القدر المحتوم وكأن الدنيا دانت لها إلى ابد الآبدين والى يوم الدين. فأخذ من شارف على الهلاك من زعماء تلك الانظمة, بحكم السن , يُعد العرش قبل هلاكه لابن مستبد من صلبه وعريق نسله.
كان على شعوب تعدادها مئات الملايين أن ترضى وترضخ وتصفق وتشيد بالزعماء ومواهبهم, وتشكر الرب على نعمة تنزيله لهم من عليائه لحكمهم ودوام عزهم. كما تشكر لهم منجزاتهم وهباتهم, وانتصاراتهم الإلهية الوهمية. وتتغاضى عن فسادهم وسرقاتهم. وتطرب لفصاحة خطاباتهم, ولا تضحكها بهلواناتهم وهفواتهم وسخيف مستوياتهم.
جاءت, بعد تأخر طويل ثقيل, الأيام التي لم يحسب لها هؤلاء حسابا. أعمتهم عنجهيتهم عن حقيقتهم, وعن حقيقة الشعوب التي ظنوا أنها ذهبت في سبات عميق ابدي. كانت مأساة محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد في تونس كافية لكنس طاغية عمر طغيانه 23 عاما بكنس فساده معه وفساد من حوله, بثورة شعبية امتدت إلى مصر لتعلن ملاينها غضبة أطاحت راس الاستبداد فيها بعد 30عاما, وفي طريقها إلى الإطاحة بكل مخلفاته من المستبدين الفاسدين والمفسدين.
لم يكن, على سبيل المثال, عقيدا "بحجم " القذافي تربع على حكم ليبيا 42 سنة دون منازع, رغم ما قيل عنه من مواهب أضحكت العالم بأسره , إلا أتباعه, لم يكن يتوقع غضبة الشعب الليبي لأنه اعتقد بأنه أعاد خلق وتنظيم هذا الشعب بشكل يخرجه عن كل فاعلية وتفكير حر. وانه بهذا التنظيم العبقري المبني على كتيبه الأخضر الفاتح الصالح للعالم اجمع كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ـ موسوعة شاملة ـ استلهمه ليس من دراسات وبحوث وتجارب , وإنما من تأملات قذافية صرفة في خيمة متنقلة صحراوية. تعامل هذا العقيد مع شعبه الخارج على نظريته المسطرة في كتيبه المذكور بإطلاق الرصاص الحي عليه وقصف بالطائرات ردعا لأي مساس بعرشه وعرش ابنائه من بعده . قتل المئات وجرح الآلاف في يومين فقط من احتجاجات الليبيين, مسلطا عليهم مرتزقة من بلدان افريقية ولا غرابة في ذلك فهو ملك ملوك إفريقيا , لا يحده مكان ويخضع الجميع للصولجان. لا فرق بين ليبي الأصل آو أي إفريقي من أي اصل كان. أو دون أصل. انه القذافي المهووس, وأنها الجماهيرية.
ليس هوس زعيم ليبيا فريدا من نوعه فلكل زعيم سقط او ينتظره السقوط هوس من طبيعة خاصة ولكنه يلتقي مع "عميدهم" كما يحلو للقذافي ان يلقب نفسه, والهوس فنون وهو نوع من أنواع الجنون ولكل منهم فنه المتميز والفريد من نوعه. ولا يتورع أي منهم حين يحس برياح التغيير تقترب لاقتلاعه بفعل ما يفعله القذافي, إن استطاع, لا يردعه أي وازع من خلق أو ضمير أو وطنية أو عقل, ففي داخل كل منهم يكمن قذافي مهووس.
مع الثورة في تونس وفي مصر وبدء اشتعالها في ليبيا والجزائر واليمن إلى الآن, يُطرح السؤال : هل سقوط راس النظام في أي بلد عربي كاف لتأخذ الشعوب مصيرها بنفسها وتبني دولا حقيقية؟ لا شك إن إسقاط رؤوس الأنظمة أساسي ولكنه غير كاف. وهذا ما تدركه الشعوب. وعليه أكدت أن مطالبها واضحة: تغيير النظام "الشعب يريد تغيير النظام". ولم تطالب بإصلاحه فالفاسد غير قابل للإصلاح. ولا يبنى على الفساد اصلاحا.
تعلم ان المطلوب ــ بعد الرضوخ عقودا متواصلة للأنظمة المستبدة, مع كل النتائج المأسوية ــ ليس فقط تغيير راس النظام وأتباعه, وإنما الشروع الفوري في بناء الدولة التي لم تشهدها المنطقة العربية طيلة تاريخها. بناء يقوم على سيادة الشعب, الذي هو وحده مصدر السلطات وصاحبها, وانه وحده من ينتخب حكامه لخدمته بإرادته الحرة. ويحدد اختصاصاتهم في تسيير أمور الدولة وشؤونها لمدد محددة, وان حقه محفوظ في إسقاطهم في كل مرة يرى في ذلك ضرورة.
ليس هذا كلاما مثاليا وإنما سبق للدولة الحديثة في الكثير من بقاع الأرض أن طبقته حين بنت دولة القانون والمؤسسات على أسس وقواعد النظام السياسي الديمقراطي. وكان يمكن أن يكون مثاليا غير قابل للتطبيق في دنيا العرب لو قيل قبل محمد البوعزيوي وقبل المعجزة الثورية التونسية والمصرية وبداية المعجزة الليبية.
النظام الديمقراطي هو ما تستحقه الثورة التي قدمت مئات الضحايا من أبنائها. وهو الذي يطلق طاقات الشعب المعطلة من عقود, حتى لا نقول من قرون, وهو الضمانة الأساسية والوحيدة لعدم عودة الأنظمة الشمولية المستبدة. وهو ما يجب إعلانه مطلبا أساسيا مثل مطلب تنحي المستبدين من الحكام.
غياب الإصرار أو تأخره عن المطالبة ببناء الديمقراطية يقوي الثورة المضادة التي بدأت, في مصر تسعى لوضع خططها موضع التنفيذ من تدبير رجال نظام مبارك ــ الذي لا يمكن تسميته ,إلى اليوم , النظام البائد لأنه ما يزال قائما ليس فقط بمؤسساته وإنما كذلك برموزه التي ما زالت في مواقعها ومراكز نفوذها ــ عن طريق الرشاوى وعن طريق تلاقي المصالح الحزبية الخائفة من الثورة الحقيقية وقيمها ومفاهيمها مثل التنظيم الحالي للإخوان المسلمين الذي تخيفه الديمقراطية أكثر مما يخيفه مبارك ونظامه. فالديمقراطية المبنية على مبادئ وقيم من صنع البشر لا يجب ان تعلو على القيم والأحكام المنزلة من السماء بتفسيراتها المشايخية. وعليه بدأت فئات من هذا التنظيم تستدعي قادته المنظمين او الروحيين من الداخل والخارج, لإلقاء الخطابات في ميدان التحرير. فاللحظة تاريخية للوصول إلى السلطة, على حساب دماء وآمال وأماني الشباب مفجري الثورة وعصبها ووقودها. وعلى حساب مطالب قادتها الحقيقيين. وكأنّ الانتهاز وسرقة انجازات الآخرين من القيم التي انزلها الله. وكان المقولة الانتهازية: الغاية تبرر الوساطة ليست من وضع مكيافيلي وإنما من وحي السماء !!!.
الثورة المضادة تعمل على استباق أية إجراءات تقود إلى نظام سياسي ديمقراطي علماني. فهاتان الكلمتان الأخيرتان أساس الكفر لديها, وان بُني عليهما أي نظام فانه سيكون ضد إرادة الله ومعقلا للكفر والإلحاد!!!. ليس هذا جديد في طروحات هذه الأحزاب, فقد بدأت مع بداية عصور التنوير وظهور الأفكار والأنظمة الديمقراطية العلمانية, ومبادئ حقوق الإنسان, وإنما الجديد هو ما تعتقده بسنوح الفرصة الذهبية حاليا لوضع "نضالها" الذي حمل طويلا أفكارها موضع التنفيذ..
ان لم يقطع الثوار وكل أصحاب الفكر المتنور الطريق على هذه القوى فان الثورة في خطر كبير. وان المفاهيم والقيم المتعلقة ببناء الدولة العصرية, دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان التي لا يمكن بناؤها على غير الديمقراطية والعلمانية, ستحل محلها أفكار ظلامية تقود إلى نظم الاستبداد. لأنه لا يمكن لمثل هذه الذهنية إلا أن تُولّد الدولة الشمولية وحكاما مستبدين معممين او دون عمامة, ببذلة عسكرية أو مدنية, أو بأزياء مزركشة قذافية حربائية.
في الدولة الديمقراطية العلمانية وحدها تتحقق المواطنية الحقيقية. وفيها موطن لكل الأديان والطوائف, والأفكار والتيارات السياسية والثقافية. فيها وحدها لا يستبعد الاخر. فيها وحدها تتحقق الحرية المساواة والعدالة الاجتماعية. فيها وحدها تتم الثقة بالقضاء والقضاة. فيها وحدها تتوفر الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي. فيها وحدها تتلاقى وتتأزر كل الطاقات الفعالة ,دون تمييز, للمساهمة في بناء الدولة . فيها وحدها يمكن الحديث عن حقوق الإنسان, ويشعر المواطن انه مواطن تساوي قيمته قيمة رئيسه, وانه ليس مجرد فرد في رعية السلطان.
ليست المناورات الحالية وطلب فترات انتقالية واقتراح الإصلاحات الدستورية وغيرها, إلا لإعاقة البناء الديمقراطي الذي هو الهدف الأساسي للثورة والثوار.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)