المليونيةُ هي الاسم الحقيقي لثورة يناير النبيلة, فهي التي أسقطت الطاغيةَ مبارك، وجعلتْ مصرَ تعود إلىَ مَكـَانتــِها تحت الشمس حتى لو اكتظتْ جـَنـَباتها بعددٍ لا نهائيٍّ من المشاكل العصيــّةِ علىَ عفريت سليمان.
في أحيانٍ كثيرةٍ تنتصر الثورة المـُضادة أو تؤجل الفرحَ بإزاحةِ النظام البائد، أو تظل تخنق سلامَ الوطن .. وأمنه.
السببُ أنَّ الثورةَ المضادةَ لا تحمـِل في أحشائـِها مباديءَ، ويلتف حولها ثعابين، ويدافع عنها أناسٌ فقدوا القدرةَ علىَ حُبِّ الوطن.
لذا ستجدهم من أحطّ أنواعِ اللصوص، وأخسّ أصنافِ أصحابِ السوابق، وأغلظّ القـُساة من ذوي القلوب الحجرية، فيتحول الشارع والبيت والمدرسة والعشوائية وحتى بعض الجامعات والمدارس إلى مصانع لإنتاج البلطجية .
مباركٌ علىَ عَهْدِه سواء كان راقداً خلف ولديه في المحكمةِ أو جالــِساً علىَ فراش وثير في غرفة لوكس منتظراً زيارة ميمونة من ملك البحرين أو مُعْطياً الأوامر بتحريك أموالـِه المنهوبة من شعبنا، من بنك إلى آخر، فليست كلــُّها مَجـَمدة، ومدراءُ المصارف فهموا الرسالةَ من مصر جيداً.. لا تـُجَمِّدوها، فالسلطةُ من بعده لا تكترث لاسترداد المصريين إياها، رغم أن الشعب هو صاحب المال!
كان النظامُ يهتز أمام مــُظاهرةٍ من ثلاثمائة غاضب، فهو الحدّ الأقصىَ للمصريين الغاضبين علىَ مـَدىَ سنواتٍ طويلةٍ، ثم صمد الباغي, فارتفع منسوبُ الغضبِ لألفيّن، فيرسل حبيب العادلي جيشاً عرمرماً من الأمن المركزي، وغير المركزي، يبث أصحابُ النجوم والنسور علىَ الكتفيـّن الحماسَ في قلوبــِهم, فيضربون فوق الرؤوس، لعل مبارك يـُشاهدهم علىَ الشاشة الصغيرة فيكافئهم.
وجاءت 25 يناير المجيدة فلم تـَعُدْ تنفعهم كلُّ أجهزة الأمن، فشبابُ مصر العظيم استيقظ نهائياً، وألقى في وجوهـِهم خوفـَه الذي لازَمـَه منذ موّلـِدِه في عهد المجرم حسني مبارك، وتم خلعُ كبيرِهم، لكنه توَعَّدنا بإحدى الخطيئتين: إما هو .. وإما الفوّضى!
هل المليونية الآن مــَخـْرَجٌ للأزمة في مصر؟
السؤال لو تم طرّحـُه بهذه الطريقة فالإجابةُ عليه بالنفي أو بالإيجاب تحمل مُقامرة، فعفريت مبارك يجلس القرفصاء في الطرفين، ويتربص باللائيين والنعميين، ومن بـِيَدِهم الأمر والنهي في محروستنا يعلمون أن الشيطانَ لا يأخذ عُطلةً يوم الجمعة، فالمليونية التي تنتهي مساءَ هذا اليوم لا تحتاج لأكثر من صبر المجلس العسكري وحكومة الدكتور عصام شرف وأجهزة وزارة الداخلية، والأمن القومي عدة ساعات حتى يعود الشبابُ الثوري الرائع إلى بيوتهم، ويقضون بقية السهرة في الشات على الفيسبوك للحديث عن جُمعة التحدي، أو استعادة الثورة المسروقة، أو هتافات لإعدام مبارك.
و يبدأ الإعدادُ لمليونية جديدة تنتهي بعد المغرب بقليل، ويختلف حولها المصريون، ويتبرم رجال الأعمال و أصحابُ المحلات، ويتكاسل رؤساءُ تحرير الصحف المصرية عن نشر أخبارها، ثم يكتفي مدير التحرير بخبر صغير.
إنها ليست حرباً بين الثوار الشرفاء، حاملي لواء الحفاظ على الثورة العظيمة، وبين من جلسوا على كرسي الطاغية المخلوع لا يريدون تحريك مؤخراتهم شبراً واحدا، لكنها حربٌ بين الدهاء الذي كان ينبغي أن يحمل الراية من الشباب وبين.. ورثة مبارك وفلوله.
المليونية لم تعد تهزّ شعرةً واحدة في رأس السلطة، وحتى لو اهتزت فنحن في حاجة مُلحّةٍ لسبعين مليونية تبدأ بمليونية مشروع التخلص الفوري من القمامة، وتمر عبر مليونية الأمن قبل الطعام، والصحة قبل التعليم، وتغيير القائمين على محاكمة مبارك لأنهم موظفون لديه، وطن واحد يساوي بين أبنائه، ولا للتطرف والتشدد.
ومليونية لرفض أي شعار غير مصر، وأخرى لتنظيف الإعلام، وثالثة لقضاء عاجل وعادل وسريع ينتهي من مليوني قضية لا تزال تنتظر الدور، ورابعة لتمشيط مصر كلها من أصحاب السوابق والبلطجية، ووضعهم في معسكر في مكان ناءٍ لعدة سنوات.
ومليونية لماء شرب نقي ونظيف، وأخرى ضد الفساد والرشوة والمحسوبية، وثالثة لإنهاء سطوة البلطجية على جمرك الإسكندرية، ورابعة لحكومةٍ نصفها من الشباب، وخامسة تحت شعار( المسلمون والأقباط.. نفس الحقوق ونفس الواجبات)، وسادسة لاسترداد الأراضي التي استولى عليها رجال مبارك، وسابعة لاسترداد أموال المخلوع التي نهبها من الشعب، وثامنة لاعتبار سوزان مبارك شريكة كاملة في نهب الشعب وخيراته، وتاسعة لمحاكمة كل من عمل مع مبارك لأكثر من عامين حتى لو لم تكن هناك تهمة ضده، وعاشرة لحساب عسير لكل المحافظين الذي خرّبوا محافظاتهم في عهد الملعون مبارك.
ومليونية لكل ضباط التعذيب حتى لو تم الاغتصاب أو انتهاك كرامة المواطن منذ عشرين عاما أو أكثر، وأخرى للحفاظ على نقاء ونظافة مياه النيل، وثالثة لإعادة النظر في كل الاتفاقات لمعرفة عدلها من ظلمها على حقوق الوطن، ورابعة لعدم استخدام الدين في ترهيب الناس، وخامسة لاستبدال كل القوانين التي تعرقل تطور مصر، وسادسة لإسدال الستار على قانون الطواريء، وسابعة لإعلان ثروات كل المسؤولين الكبار ورجال الأعمال، مع كشف حساب للإقرار الضريبي، وثامنة لاعتبار التهرب الضريبي جريمة أخلاقية تستدعي المحاكمة العاجلة، وتاسعة لمجلس شعب من الأكاديميين والقضاة ورؤساء النقابات والمثقفين والباحثين والمؤرخين وغيرهم من الصفوة التي لم تتلوث بالتزلف للنظام السياسي، وعاشرة لمعرفة حقوق المواطن في قسم الشرطة.
ومليونية للإفراج الفوري عن كل من تقوم المحكمة بتبرئته، ورفع أيدي أجهزة الأمن عنه، وأخرى لتنظيف جهاز القضاء من المرتشين والفاسدين، وثالثة لإلغاء قوائم المترقب وصولهم والمغادرين، إلا بأمر من النائب العام، ورابعة لرفع وصاية الرجل عن المرأة في السماح بالسفر وفي حساباتها المصرفية، وخامسة لاعتبار عمل رجال الدين روحي وأخلاقي فقط، لكنه ليس ملزماً لأحد، ووضع قوانين تجيز محاكمات سريعة لمروجي الفتن الطائفية، وسادسة لمنع إخفاء الوجوه فهذا العمل يفتح باب الإرهاب والتحرشات الجنسية ويسهل هروب المطلوبين للعدالة ويهين الإنسان في كرامته الممثلة في حقه بأن يتعرف على من يتحدث معه وليس تحويل المجتمع إلى أشباح، وسابعة لوضع خطة تشغيل العاطلين عن العمل أو منحهم مبلغا ماليا شهريا لتأمين عيشهم وكرامتهم، وثامنة لسن قوانين ضد الاستغلال والجشع في البيع والشراء، وتاسعة لمصادرة العقارات والأراضي التي استولى عليها من استغلوا فساد عهد مبارك، وعاشرة لعلاج مجاني لكل طفل لم يبلغ الخامسة عشرة من العمر، وطبيب ثابت لكل طفل يتلقى أجره من الدولة وفقا لعدد الأطفال المسجلين لديه.
أستطيع أن أجلس ساعات طويلة أعدد وأحصي جمعات مليونية لا تنتهي قبل أن يتولى أحفاد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مناصبهم في عهد جديد لا يعلمه إلا الله.
ما هو الحل الناجع والجذري والطبيعي لمصيدة المليونية المحاصــَرة بين استهتار أصحاب القرار بها، وآذان صمّاء لا يشغلها أمرُ من يتظاهرون، ثم يأوون إلى فراشهم مساء نفس اليوم؟
أنا أرى أن الحل الوحيد ( معذرة لكلمة الوحيد فلم أعثر على غيره) هو تحويل المليونية إلى اعتصام غير فئوي، مفتوح ولو لفترة محددة ثم يتحول إلى إضراب عن الطعام أمام كل وكالات الأنباء العالمية، وحينئذ لن يبقى في البيوت من أهالي المعتصمين أحد يرى ابنه يتألم وهو الذي صَمَتَ صَمْت الحـِملان في عهد المخلوع، قبل 25 يناير.
السلطة تعوّل على تحويل المليونية إلى عادة، والعادة كاللجنة تقتل كل الطموحات، والجماهير قد تؤيدها مثنى وثلاث.. وسباع ، لكنها ستضيق بها، وليس بمن يرفض مطالبها.
المليونية مصيدة إذا كانت لعدة ساعات تتحملها السلطة، ويرفع إثرها جمال مبارك إشارة النصر، ويتلقى المخلوع رسائل تهنئة من فلوله بعودة الأمور إلى عهده الميمون!
المليونية الناجحة التي ستنهي كل آثار عهد مبارك هي الاعتصام المفتوح، والذي لا يرفع فيه أحد شعارا غير علم مصر.
اعتصام ليس فيه هوية دينية أو شيخ يلقي خطبة أو قس يلقي عظة.
اعتصام يعود فيه السلفيون والإخوان المسلمون والأقباط واليساريون وعجائز المعارضة المصرية التي فشلت لثلاثين عاماً، فنصبح كلنا أبناء مصر لا يعرف أحد عن جاره المعتصم إلا أنه أخوه في كراهية الظلم والبلطجة وعهد مبارك وكلاب قصره.
اعتصام فيه من قوة الدفع أضعاف ما كان في ثورة 25 يناير، ويقوم بحمايته المعتصمون أنفسهم، ويتم اعتبار من يحمل سلاحاً أبيضا أو ناريا هو من رجال الطاغية المخلوع حتى لو حمله عن حُسن نية.
اعتصام يسترد الثورة التي أبهرت العالم، ويتكافل المعتصمون في المأكل والمشرب والخيام، ويتعانق السلفيون مع العلمانيين، ويرفض الإخوان المسلمون رشوة حيادهم التي قبلوها بمقر واعتراف من السلطة على استحياء!
اعتصام ذكي، ومنظــَم، وبه كل الشعارات المطلوبة ثوريا، ولا يتفاوض المشاركون فيه، ولا يسمحون لأحد أن يتفاوض باسمهم، فالثورة أكبر من كل الكبار في الدولة، وهي أكبر من القضاء الذي يشاهد جزاري الوطن وسفاحيه فيماطل في المحاكمة، ويُخفي ما عرفه خلال سنوات حُكم الديكتاتور.
اعتصام لا ينتهي قبل القاء القبض على عشرات الآلاف من البلطجية المزروعين في أنحاء الوطن للترويع والترهيب وإعادة المواطن إلى حالة الخوف السابقة.
اعتصام لا يعترف بغير سلطة ثورة 25 يناير، ويعلن المعتصمون بأن مقاطعتهم من قــِبل الفنانين والإعلاميين ورجال الدين ورؤساء الأحزاب الحقيقية أو الكرتونية لن يمر بسلام هذه المرة، فبعد نجاح الثورة الثاني لن يكون لهم مكان في العمل العام، السياسي أو الديني أو الحزبي أو الإعلامي.
اعتصام مليوني يزداد كل يوم ليضم إليه كل أفراد الشعب من نساء ومسنين وأطفال ومعاقين ليصبح هدير المصريين في الشوارع والميادين أعلى من السلطة والأمن والجيش والسلاح والمعتقلات و .. البلطجية.
هذه هي رؤيتي الجديدة لعـُقم المليونية بعدما تحولت إلى عادة، وطريق مسدود، وازدراء لها من قبل السلطة الحاكمة.
أضع بين أيدي شباب الثورة الأنقياء، الأطهار، عاشقي مصر دعوتي التي تحتاج لبعض الوقت ليتعرف على نــُبلـِها الموجوعون من الوضع الكارثي لمصر في عهد ما بعد أجمل وأعظم ثورات العصر.
اعتصام تنتهي معه كل صور السخرية والتهكم والازدراء والاحتقار التي يقابــِلون بها مطالبَ الثورة.
اقتراح قد يــُخرج الثورة من مصيدة المليونية إلى عبقرية الاعتصام، ومن التشرذم الحزبي والانتخابي إلى توحـُّد مصري في الشارع والميدان، ومن قـَبضة فلول النظام إلى الحرية و.. إمساك الثورة من جديد.
أيها الشباب الثائر،
أنتم أكبر من الكبار، وأنقى من كل من يخلف الطاغية المخلوع، وأحرص على مصركم ومصرنا من كل الزاعمين أنهم سيعيدون مصر إلى مكانها الطبيعي والريادي، لكنهم في الحقيقة، بتحالف أي ناجح من المرشحين للرئاسة وأكثر المرشحين لانتخابات مجلس الشعب سيمارسون دورا لا يقل تسلـُّطا، وإرهابا، وفسادا، وديكتاتوية، وتخلـُّفا عن عهد اللعين مبارك.
ولتكن الأولوية لأهم مطالب الثورة: محاكمة مبارك محاكمة سياسية عن ثلاثين عاما، وليس عن ثمانية عشر يوما، وأن يصدر الحكم في أقل من شهرين تبدأ مع الاعتصام المفتوح.
أيها الشباب من عشاق مصر الثوريين،
هل هناك حيرة في الاختيار بين مصيدة المليونية و .. واسترداد مصر في الاعتصام؟
إنها ثورتكم، فدافعوا عنها، تعود إليكم مصر من جديد.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 11 نوفمبر 2011
التعليقات (0)