عبد الهادي فنجان الساعدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الحرية تقود الشعوب)
" في هذا اليوم وفي هذا المكان يبتدئ عصر جديد في تأريخ العالم"(1)
عندما بدأت الاخبار تنتشر حول أنفلونزا الخنازير وخصوصا في اسرائيل.. بدأت زوجتي بالدعاء الى الله أن يبيد اليهود الكفار عن آخرهم ناسية بأنهم في الاصل ابناء عمومتنا حيث ان اسحاق ويعقوب واسماعيل هم ابناء نبي الله ابراهيم الخليل الذي ينتسب اليه رسولنا الكريم عن طريق اسماعيل "ع" كما نسيت بأنهم اقرب منا الى ناصية العلم إذ ان الاسرائيلي يقرأ (40) كتابا في العام والأوربي يقرأ (37) كتابا في العام في الحين الذي يقرأ العربي نصف ساعة في العام في اكثر الاحصائيات تفاؤلا. وبالرغم من كل ذلك لم يدفعنا هذا الظلم للثورة على كل الدكتاتوريات بشكل شعبي وجماعي كما حدث في الثورة الفرنسية سنة 1789. أما ما استفدناه من تلك الثورة فهو الفوضى والقتل والتدمير وسحل الجثث كما حدث في صباح 14 تموز 1958.
لقد كان السبب الرئيس في اندلاع الثورة الفرنسية هو الصدام الحاصل بين "النظام القديم" حيث الحكم المطلق الاستبدادي والامتيازات التي كان يتمتع بها الاشراف والقساوسة مع "العهد الجديد" الذي بدأ في اوربا في القرن الثامن عشر حيث الشعارات المثيرة التي اطلقتها ووظفتها لصالحها والتي انبعثت اصلا من روح الانقلاب الذي احدثه عصر التنوير وعصر النهضة حيث انطبعت في اذهان الناس مباديء الحرية والعدل والمساواة.
"ان القرن الثامن عشر يحافظ في آن واحد على مثالية العقل"(2)
أهم الاسباب التي أججت روح الثورة في الشعب الفرنسي هو المبدأ الذي اسسه لويس الرابع عشر "الحكومة أنا" حيث انعكس ذلك على شكل صورة مريعة للشعب الفرنسي.
"إن الشعوب معرضة لجشع الماليين والضرائب الجائرة والمطالب الفادحة التي تنشأ عنها مضايقات مرهقة، وقد أصبح الكثيرون بلا مأوى، وملئت المستشفيات بالمرضى وأقفرت البلاد من السكان"(3)
الكثير من المفكرين وأصحاب الرأي أيدوا مبادئ الثورة ووظفوا إمكانياتهم الفكرية من أجل زيادة زخمها في خضم ظروف قاسية كانت تمر بها فرنسا. ومن أهم هؤلاء المفكرين هم مونتسكيو وفولتير وروسو وهم المؤسسين الحقيقيين لتلكم المبادئ التي أصبحت الثورة بفضلهم مثلا عالميا لكثير من ثورات العالم ومعظم التغيرات التي طرأت على الخارطة السياسية في معظم بقاع الارض.
يقول فولتير "إن كل ما أراه يرمي بذور ثورة آتية لا ريب فيها فلقد انتشرت الآراء الحديثة بحيث تؤدي الى انفجار في أول فرصة"(4)
ولقد استمد زعماء الثورة من تعاليم فولتير وروسو المبادئ الأساسية التي بنيت بعد ذلك عليها حقوق الإنسان.
يقول روسو "ولد الانسان حرا ولكننا نراه في اغلال من حديد"(5)
بقيت الملكية في صراع مستمر مع الثورة متمثلة في الجمعية الوطنية التي قادت التغيير واستطاعت أن تسيطر على كل مناحي الحياة الاساسية بالرغم من التحريض الذي كانت تمارسه القوى الرجعية المؤيدة للملكية والتي كانت تتألف من اصحاب الامتيازات والكهنة والملكة ورجال البلاط على الملك ضد الجمعية الوطنية التي كانت تقود السلطة الحقيقية في البلاد وتلتها الجمعية التشريعية التي استلمت القيادة في البلاد. هذا الاسلوب الرجعي في التحريض هو الذي دفع القوى الوطنية المتطرفة التي ما لبثت ان قضت على الملكية في 10 أغسطس 1792.
هذه الاحداث أدت الى نشوب حروب داخلية وخارجية، ولكن بعد ان اوقفت القوى الشعبية الفرنسية المتطوعة والتي كان يتألف منها الجيش الفرنسي زحف الجيش البروسي على باريس وانتصروا في المعركة، في هذا اليوم نفسه انفضت الجمعية التشريعية ليحل محلها المؤتمر الوطني.
"إن جميع الشواهد التي تقع تحت ادراك العقل البشري كانت تدل على سقوط الجمهورية العاجل ولكن اعضاء المؤتمر وحدهم لم ينل منهم اليأس، وكانت تزداد عزيمتهم مضاء وتغتلي نفوسهم كلما بان لهم خطر جديد او كوارث جديدة"(6)
وصلت حال البلاد بقيادة المؤتمر الوطني الى مرحلة دفعت الشعب للسأم والضجر والجوع والبؤس وكانوا يطالبون بالخبز وقد اشارت مدام رولان في قولها "يطلب الشعب الخبز فيعطونه جثثا". اشارة الى استعمال الثوريين القسوة ضد الارستقراطيين والملكيين.
إن الاندفاع الثوري غير الواعي دفع اولئك القواد الثوريين في يوم (5) سبتمبر الى تأليف جيش ثوري متنقل في الاقاليم تتبعه محكمة لنشر الارهاب وتأييد اللجان الثورية فيها.
بعد ذلك بفترة تم انتخاب "حكومة الادارة" وكان الهدف منها هو التوسط بين الملكيين والفوضويين وتوطيد النظام الدستوري بعد الدكتاتورية.
"كان الفكر في القرن الثامن عشر يبحث عن طرق جديدة لادراك الاشياء وايضاحها. وكان يريد ان يكشف جميع مظاهرها وأدق فوارقها وان يقيم بينه وبينها علاقات جديدة، وان ينظمها على خلاف ما نظمت به حتى ذلك الحين وان يجد كل درجات التعبير الموافقة لهذه المكتشفات. وحيال الحقيقة الحية وتنوع المعطيات التي يزوده بها تاريخ الفكر فهو يلاقي الف طريقة للتعبير عنها"(7) احدى هذه الطرق هي الثورة.
إن التورط في الحروب الداخلية والخارجية والفتوحات والمطامع التي كانت تدفع القواد سواء المدنيين او العسكريين ادت الى تسليم الامور في نهاية الامر الى العسكر وعلى رأسهم نابليون بونابرت الذي استلم الارث بكل ما فيه من حسنات وسيئات.
إن الثورة الفرنسية بكل معطياتها كانت احدى نتاجات عصر النهضة والفكر التنويري ولكنها بالتأكيد لم تكن تقود الشعوب نحو الحرية فقط إنما كانت تقود بعض الناس الى اماكن ومناصب لم يألفوها حيث السلطة والجاه والتحكم برقاب الاخرين بعد ان كان البعض منهم من السوقة وحتى نابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي الذي استلم مقاليد الحكم بعد ان اكلت الثورة رجالها، كان من الاصول الفقيرة حيث اصطدم بهذا الواقع في عدة مناسبات الا ان هذا الاصل المتواضع هو الذي دفعه لان يقاتل في سبيل ان يصل الى ما وصل اليه.
معظم قواد الثورة في مراحلها المختلفة مثل دانتون، وروبسيير، ومارات والكرادلة وسيايس والغيرونديين واليعاقبه والكثير منهم من القوى الثورية التي صفّت بعضها حتى سئم الشعب الفرنسي من هذه الصراعات وعندما سلمت الوديعة الى القائد نابليون كانت تخرج من وطأة جماعية الى وطأة فردية اتسمت بالدكتاتورية العسكرية المغلفة بالشعارات الوطنية.
لقد خلفت الثورة الفرنسية الكثير من الدروس والعبر في ذاكرة الشعب الفرنسي ولكنها بالتأكيد نقلته من عصر الاستبداد الملكي والبؤس الذي يخيم على الشعب ويبيده بشكل بطيء ومستمر الى عصر الثورية والمفاهيم التي استوردتها معظم شعوب العالم بعد ذلك بالرغم من بؤس الاساليب الثورية في الارهاب والتصفيات الجماعية والمبادئ التي سادت وانتشرت في معظم بقاع العالم كانت شعارات الثورة في الحرية والاخاء والمساواة.
الحواشي
1- الثورة الفرنسية ونابليون / تأليف الدكتور محمد صبري / مطبعة الكتب المصرية في القاهرة ص87.
2- فلسفة الثورة الفرنسية/ برنارغروتويزن/ ترجمة عيسى عصفور / منشورات وزارة الثقافة والسياحة والاثار والارشاد القومي/ دمشق 1970 ص20.
3- الثورة الفرنسية: ص18.
4- المصدر نفسه ص37.
5- المصدر نفسه ص38.
6- القائد جوميني في كتابه عن حروب الثورة.
7- كتاب فلسفة الثورة الفرنسية ص31.
التعليقات (0)