الثورة السورية وعُقَد الثأر لله

انتهى بنا “جيل كيبل” في كتابه “ثأرالله” إلى أن مفاهيم الحداثة وتطبيقاتها السياسية ما هي إلا مظاهر خادعة لحقيقة أن العالم تحكمه روابط المزاوجة بين الدين والسياسة، وأن هذه المظاهر انكشفت أمام أعيننا منذ سبعينيات القرن الماضي حين شهد الشرق الأوسط قيام دولة الخميني الإيرانية وحركة حماس الفلسطينية وجبهة الإنقاذ الجزائرية، فيما شهدت أمريكا البروتستانتية بروزا قويا للجماعات المعمدانية والإنجيلية التي نصّبت كارتر وريغان وبوش ومكنتهم من حكم أقوى دولة في العالم، مرورا بأوروبا الكاثوليكية التي مارست فيها الكنسية تأثيرا مشهودا في تحولاتها السياسية لا سيما في بولندا، وبالطبع لم يتم إغفال اليهودية التي فرضت لأحزابها التوراتية في إسرائيل موقعا مقررا في سياسة الدولة وحياة المجتمع منذ صعد تحالف الليكود إلى السلطة.

وبغض النظر عن موضوع وهدف كتاب “كيبل” الذي ناقش الحركات الدينية كحركات احتجاجية معتبرا سبب عودتها “المدوية” إفلاس الحداثة وقيمها، وفقدانها لمصداقيتها أمام أهوال الواقع ومآسيه التي انعكست على الإنسان اضطهادا وتفرقة وطبقية وتمييزا عنصريا وكيلا بمكيالين؛ فإن “كيبل” ينبّهنا إلى أن “الأسد” كان يقرأ الماضي والواقع ليكتب الحاضر ويخطط للمستقبل، فيما كان الثائرون عليه ومعارضوه إما منتشين في غمرة عقدة خوفهم المحلولة للتو، وإما متآمرين في قمرة الإعداد لمخطط مابعد انتصار الثورة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء كتابة سطر في هذا المخطط الذي كان ومازال يأتي عبر الأصدقاء والأشقاء، ليس هذا وحسب، بل تمت محاربة كل سوري قدم مشروعا وطنيا، كما تم تسفيه كل من قدم نصيحة أو مقترحا. فمؤتمر أنطاليا “العظيم” لم يصمد شهرا أمام الاجتماع “المتواضع” في بروكسل، ومجلس قيادة الثورة للفاعلين على الأرض لم ير النور فيما قام للمعارضين من خلف الحدود مجلس وطني وائتلاف موسع وهيئة عليا..

نعم نهض بالثورة السورية عامة الناس قبل خاصتهم، وحمل لافتاتها وكتب شعاراتها محامون ومدرسون وفنانون وطلاب وعمال وحرفيون وفلاحون.. فيما انكمش وتقوقع الصفوة بين منحاز للنظام أو منتظر لانقشاع الغبار أو باحث عن رأي أو توصيف في الصنداي أو الجيرالد أو في الشرق الأوسط والحياة، وحتى من يتابع منهم “هرجة” فيصل قاسم تاهوا وضلوا بسبب تأخر الرجل عن إعلان انحيازه للثورة لشهور قضاها صامتا متواريا، وربما كان مثلهم يتابع ويتأنى قبل اتخاذ القرار، وهو قرار وجودي في الحالة السورية، ولاعتب على أحد تأخر في اتخاذه أو أجّل الإعلان عنه، خصوصا الصفوة السورية التي كانت ومازالت تحت مكروسكوب علي مملوك ومحمد ناصيف.. وليسوا وحدهم؛ بل هم وأسرهم وأقاربهم وأصدقاؤهم وجيرانهم وكل من يقولون لهم “صباح الخير”.

والثورة السورية لم تتحول إلى كل هذه الحرب إلا بفعل الضغط الهائل لآلة القتل والإجرام الأسدية، والعالم كان ولازال وسيبقى مبهورا مندهشا بصمود سلمية الثورة السورية لستة أشهر وسط كل تلك المغريات والدوافع والمبررات التي صام وأحجم عنها السوريون الثائرون المنتفضون.

كما أنها لم تتحول إلى حرب طائفية إلا بفعل فجور النظام وأزلامه وإصرارهم على إقحام “الله” الذي استجار به السوريون (ياالله مالنا غيرك ياالله)، فنعتوه بأقذع الألفاظ وتحدّوه علانية وهم يمارسون التعذيب والقمع، كما هو ديدنهم.

ومنذ اليوم الأول اعتبر النظام أن هذه الثورة “مؤامرة” يحيكها صهاينة وامبرياليون وتنفذها أدواتهم الرجعية والدينية فاستدعى حلفاءه التقدميين الحداثويين من طهران “عاصمة الملالي” ولبنان “دويلة حزب الله”، ولم يغفل توريط موسكو وبكين الباحثتان عن فرصة لاستعادة أمجاد البلشفية والماوتسونغية، فيما وقف الشعب السوري وحيدا مقابل هذا الثالوث الجهنمي ليصبح فرجة للعالم الذي يدعي التمثل بمبادئ حقوق الإنسان والحرص والعمل على السلم والأمن الدوليين.

لقد نجح “الأسد” في تحوير الثورة إلى حرب طرفاها شعب ونظام، ثم قلبها حربا دينية مستدعيا كل جيوش الله وكتائبه لتقاتل على جبهتين متضادتين وفي خندقين متقابلين كليهما يهتف باسم الله ويَقتل ويُقتل في سبيله. وكلا الجبهتين والخندقين من خلفهما جمهور يردد نفس الهتاف مستدعيا الله إلى معسكره وفسطاطه عبر راياته الموشاة بلفظ الجلالة والمبطنة بعُقد التاريخ وذكرياته الدامية، والمحاكة بكل تناقضات واختلافات التفاسير والرؤى والمذاهب.

ليس هذا وحسب، بل نجح أيضا في تكوين جبهة ثالثة للمنافقين ممن يظهرون الحرص على البلد وأهلها، معلنين أنهم يعملون جادين جاهدين إلى إنهاء هذا الصراع عبر إيقاف أعماله العدائية وإقرار هدنة شاملة والشروع في عملية انتقالية بمظلة دولية وفق خارطة يعدها فريق منتدب دوليا ترعاه الأمم المتحدة ويسانده مجلس الأمن وتدعمه منظومة أصدقاء الشعب السوري.

وهذه الجبهة ليست معنية بما تقول وتعلن بقدر عنايتها بأن تجنب نفسها ويلات تهديدات أطلقها الأسد وأعلنها صراحة أن استشهادييه من “حزب الله” السوري اللبناني العراقي الإيراني.. الموجودين سلفا في أوروبا والعالم سيحرقون الأرض بمن وما عليها، وربما ينجحون “بفضل الله” بمحو أوربا وتهديد أمن إسرائيل وتفتيت أمريكا وإعادة الخليج العربي لفارسيته وإنهاء حكم ملوكه وسلاطينه وأمرائه وشيوخه لصالح الولي الفقيه وريث الأكاسرة والصفويين ومتعهد استعادة أمجاد امبراطوريتهم التي اختفت تحت سنابك العرب المسلمين.

ومقابل هذا التهديد تهديد آخر من أتباع خليفة الله وأنصاره باستكمال مشروعهم وإيصاله إلى ماوراء النورماندي والضفة الأخرى من بحر الظلمات، دون أن يغفلوا عن تخليص جزيرة العرب واستخلاصها. ولاسبيل لردع هذين المشروعَين، بحسب الجبهة الثالثة، إلا بحرب طويلة تقضي على طرفيها لينعم العالم بالسلام فيما الشعب السوري تحت التراب والركام أو في إقامة دائمة في معسكرات اللجوء والنزوح يدفع كامل فاتورة الثأر المزعوم لله.