ما يحدث في سوريا منذ أكثر من عشرة أشهر، هو ثورة من ثورات التاريخ القليلة ذات الطابع الخاص، ثورة يخوضها شعب متحضر، كانت بلاده حاضرة لخلافة أسّست لحضارة إسلامية عالمية، وقبلها أقام السوريون حضارة ضاربة في أعماق التاريخ. نقول ذلك؛ لأنه لا يستطيع أي شعب أن يفعل ما يفعله السوريون الآن ولا أن يتحمل ما يتحملونه، ولولا أنهم شعب حضاري شارك في صنع الحضارة الإنسانية، لما استطاعوا أن يُقدِّموا للعالم هذه الثورة العجيبة، التي تجود كل يوم بالأعاجيب.
لقد اعتقد الكثيرون أنّ الثورة السورية لن تستمر إلا أسابيع، وأنه حينما يقوم نظام بشار البعثي بجرائمه في قتل الناس وإبادتهم واعتقالهم وتعذيبهم فسوف يعودون إلى منازلهم مؤثرين السلامة. لكن ما حدث لم يتوقعه الجميع، فالشعب السوري يقدِّم كل يوم عشرات من خيرة أبنائه، ضريبة لحريته وخلاصه ورغبة في مستقبل أفضل من ماضيه وحاضره. العالم كله يراقب في ذهول ما يحدث، ديكتاتور مجنون يقود جيشًا خان شعبه، وبدلاً من أن يحمي مواطنيه ويدافع عنهم وعن حقوقهم المشروعة، إذا به يسحلهم ويقتلهم شر قتلة.
لو أن شعبًا آخر غير الشعب السوري يواجه هذا العنف الدموي البشع، ما استطاع أن يستمر في ثورته، ولضعفت إرادته وخارت عزائمه وقتلت معنوياته، ولكن المخزون الحضاري للشعب السوري يخرج في توقيته، ليجعل الثورة السورية واحدة من الثورات العالمية، التي لم تبخل بكل أنواع التضحيات.
وقف الشعب السوري وحيدًا بلا دعم ولا مساعدة، ووقفت الثورة السورية وحيدة ضد تآمر القوى العالمية وعجز الجامعة العربية، ولا يقف معها إلا الإنسان العربي العاجز وشعوب العالم التي تستشعر إنسانيتها لكنها لا تحرك ساكنًا أكثر من ذلك.
لقد ظننا أن بعثة المراقبة العربية ستكون بداية لوقف آلة القتل والتدمير ضد الإنسان السوري الأعزل، ولكننا أفقنا على تصريحات تؤكِّد التضاد والتضارب، بل أكثر من ذلك مثلما أعلن عضو بعثة المراقبين العرب إلى سوريا، الكاتب والصحفي الجزائري أنور مالك، الذي انسحب من البعثة، مرجعًا أسباب ذلك إلى محاولة استغلال الرئيس السوري البعثة لصالحه.
واتّهم أنور مالك، نظام بشار الأسد باستغلال بعثة المراقبين العرب للحفاظ على وجوده، وقال: إنه تأكّد من أنه أصبح يخدم النظام ولا ينتمي لهيئة مستقلة تراقب الأوضاع. وقال أنور مالك: إن النظام السوري أصبح يقتل من الأطراف الموالية له لتضليل عمل المراقبين. وانتقد أنور مالك موقف رئيس بعثة المراقبين، معتبرًا أنه يريد أن يمسك العصا من الوسط، حتى لا يغضب السلطة أو يغضب أي طرف آخر، مشيرًا إلى أن المناطق التي زارها لم تسحب أية آلية عسكرية منها، على عكس ما ورد في تقرير لجنة المراقبين الذي قدّم للجامعة العربية، كما اعتبر أن استمرار بعثة المراقبين لن يأتِي بنتيجة، حتى بزيادة عددهم وتخصيص مراقب لكل مواطن سوري، حسب تعبيره، مبررًا ذلك بكون البروتوكول ميتًا ولا علاقة له بالواقع، ولأن تحريره جاء من جهة "لم تعرف شيئًا عن الوضع الميداني.
ولم يكن مفاجئًا من أنور مالك أن يعلن أنه وقف على مشاهد مروعة في كل من بابا عمرو والخالدية والسلطانية وباب السباع بحمص التي زارها، مشيرًا إلى أنّ الوضع لا يختلف في مناطق أخرى. ولم يكن مفاجئًا أيضًا أن يقول إنه زار معتقلاً للأمن السياسي ووجد فيه مساجين في حالة يرثى لها، وتحدث عن وجود مساجين آخرين في مناطق منع المراقبون من زيارتها، مؤكدًا أن الذين أطلق سراحهم هم ضحايا حملة اعتقالات عشوائية، أما الذين طالب المراقبون بالإفراج عنهم وفقًا لقوائم تسلموها من المعارضة فلم يطلق سراحهم.
ويتوقع نشطاء في الثورة السورية ألا يرتقي التقرير النهائي لبعثة المراقبة العربية إلى حجم الجرائم التي يرتكبها النظام بشكل يومي لأسباب عديدة أهمها عدم حيادية رئيس البعثة المتهم بارتكابه جرائم ضد الإنسانية في دارفور، وهو أيضًا عضو في حزب البعث في السودان ويتبع القيادة القومية للحزب في سوريا، ويمتلك سجلاً مشينًا خلال عمله كرئيس للاستخبارات العسكرية في السودان، الأمر الذي يدفع للشكّ بإمكانية تعاطفه مع زملائه السوريين في هذا المجال.
ويعتبر هؤلاء النشطاء أنّ هناك تضليلاً اعتمدته السلطات السورية في إرشادها للبعثة التي يفتقد غالبيتها للخبرة اللازمة، ومعدل أعمارهم يتجاوز الستين عامًا، بالإضافة إلى إغراق البعثة بعددٍ كبيرٍ من المراقبين العراقيين التابعين لمكتب رئيس الوزراء المالكي، ما يشكِّل ضربة كبيرة لمصداقية ما قد يصدر عن هذه البعثة من تقارير.
وإزاء هذا الموقف اللين الضعيف من الجامعة العربية فإنّ نظام بشار يعلن أنه لن يعترض على تمديد مهمة المراقبة التي تقوم بها الجامعة العربية للتحقق من تنفيذها لمبادرة السلام العربية، لكنّه لن يقبل توسيع نطاق تفويضها. ومن المتوقع أن يوافق نظام بشار على زيادة عدد المراقبين الذي يقل حاليًا عن 200 مراقب، لكنه لن يسمح بإعطائهم مهام تقصي حقائق رسمية أو بدخولهم "مناطق عسكرية" لم يتم الاتفاق عليها. فالنظام البعثي يدرك أبعاد المشكلة ويعرف ما يدينه وما لا يدينه، ويعرف كيف يستدرج بعثة المراقبة العربية حتى ترَى ما يريده فقط، وأن يحجب عنها ما لا يريده.
ولذلك فقد كان من المنطقي أن يبدي نظام بشار رفضه القاطع لإرسال قوات عربية إلى سوريا بدعوى أنّ الخطوة ستؤدي إلى تأزيم الوضع وفتح الباب أمام التدخل الخارجي في الشئون السورية، وذلك في ردّ على دعوة قطرية لإرسال قوات عربية لوضع حد للعنف الناجم عن دموية النظام السوري في التصدي للمظاهرات السلمية. وقضية إرسال قوات عربية طلبها أمير قطر، لوقف عمليات القتل.
ومن الطبيعي أن يرفض النظام البعثي أي تدخل عربي حقيقي يمنعه من قتل السوريين؛ لأن النظام يعلم أنه لو فعل ذلك فسوف ينتهي على الفور، فهو نظام ديكتاتوري يرفضه كل السوريين ولا يريدونه، بل يريدون أن يدفعوا كل شيء من أجل أن يتخلصوا منه ومن وحشيته وجرائمه.
وقد جاءت تصريحات الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية بأن الظروف لا تسمح بتطبيق سيناريو ما حدث في كوسوفو أو ليبيا على الوضع في سوريا، في ردّ ضمني على الدعوات التي ترددت عن إرسال قوات عربية إلى سوريا، وقبل أيام من اجتماع مرتقب لمجلس الجامعة العربية لمناقشة تقرير المراقبين العرب لسوريا، جاءت هذه التصريحات مخيبة لآمال الكثير من السوريين الذين أصبحوا يتشككون في أن يؤدّي دور جامعة الدول العربية إلى شيء يوقف آلة القتل ضدهم.
أما السوريون الذين يقفون على حجم إجرام نظام بشار فإنّهم يطالبون بالتدخل لإنقاذ المدنيين، ومن هؤلاء رياض الأسعد قائد الجيش السوري الحرّ، فقد ناشد المجتمع الدولي التدخل لحماية المدنيين السوريين. وبرّر الأسعد طلبه هذا بأن بعثة المراقبين العرب لم تتمكن من الحدّ من القمع الذي يمارسه نظام بشار ضد المحتجين الذين يطالبون منذ عشرة أشهر بإنهاء حكمه. ودعا الأسعد إلى تدخل دولي بدلاً من بعثة المراقبين العرب، وهو يرى أن لجنة المراقبين فشلت في مهمتها؛ لأن المراقبين غير قادرين على ضبط الأمور أو مقاومة النظام.
وإذا كان النظام البعثي يزعم أنه أفرج عن المعتقلين منذ بداية الأحداث في 15 مارس، فإنّ الواقع يكذب هذه المزاعم، بل على العكس يتم اعتقال النشطاء السياسيين الحقيقيين، فها هي أجهزة المخابرات السورية تعيد اعتقال الناشط الحقوقي نجاتي طيارة للمرة الثانية، وهو ما يفند مزاعم نظام بشار. بل إنّ سلوك أجهزة المخابرات يدفع بمعظم الناشطين إلى التخفي وتغيير أماكن وجودهم أو إلى الهروب خارج البلاد خشية قيام الأجهزة الأمنية بتصفيتهم أو القيام بعمل عدائي ضدهم عبر "الشبيحة" الذين باتوا يسيطرون على البلاد بشكل كامل، ويقومون بفرض إتاوات وضرائب على المواطنين والتجار بهدف تمويل نشاطاتهم الإجرامية.
وإزاء سياسة الاعتقالات الشاملة، أعلن المعارض البارز نواف البشير لجوءه إلى تركيا والتحاقه بالمجلس الوطني، كما أعلن النائب في مجلس الشعب السوري عماد غليون بعد أن غادر سوريا إلى القاهرة دعمه للحركة الاحتجاجية.
وأصدر أكثر من ثلاثمائة مبدع وفنان سوري من باريس بيانًا باسم "تجمع مبدعي سوريا من أجل الحرية"، نددوا فيه بالنظام الأمني الحاكم في سوريا، وأعلنوا الانحياز إلى شعب يبتدع حريته، معتبرين أنّ المؤسسات الثقافية السورية الرسمية فقدت كل شرعية أخلاقية ومهنية. وجاء في البيان أن آلة السلطة التي انتهكت حق التعبير بالمنع والمراقبة تمنع اليوم حق الحياة، وأن المدارس تحولت إلى معتقلات والمشافي إلى غرف تعذيب، وفقدت المؤسسات الثقافية كل شرعية أخلاقية مهنية.
وعلى الرغم من وساطة طلبها رئيس المجلس الوطني الانتقالي السوري برهان غليون من رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لإقناع قيادة المجلس الوطني الكردي المعارض في سوريا للاندماج مع "المجلس الوطني الانتقالي"، إلا إنّ أحزاب المجلس الكردي أعلنت تعليق عضويتها في جميع القوى المعارضة بهدف تشكيل كتلة كردية موحدة للتفاوض مع هذه القوى والاقتراب من الأكثر تجاوبًا مع مطالب أكراد سوريا في الاعتراف بحقهم في تقرير المصير.
ويتركز حق تقرير المصير الذي يطالب به الأكراد في المنطقة على الحصول على حكم ذاتي ضمن الدول التي يعيشون فيها أو إقامة دولة كردية مستقلة تضمّ الأكراد في العراق وسوريا وإيران وتركيا بالرغم من المعارضة الشديدة من هذه الدول لمشروع الدولة الكردية.
وكان من المفترض على المعارضة الكردية أن تتكتل مع المعارضة السورية بشكل عام ويقف الجميع وقفة واحدة لإسقاط نظام البعث وإقامة نظام ديمقراطي تعددي ينصف جميع مكونات الشعب السوري ومنها الأكراد، وبدون هذا فلن يكون هناك حل للمشكلة الكردية مهما تدفقت عليهم الوعود.
المصدر: الإسلام اليوم
التعليقات (0)