ولادة "نادي قضاة سوريه".
لم يعرف قضاء في عصرنا الحديث محنة مثل تلك التي خيمت على سوريا وعاشها القضاء والقضاة والمتقاضين منذ اربعة عقود دون انقطاع. فلم يكن القضاء يوما ضمير الامة مثلما هو مُفترض ان يكون.
لم يعرف الشعب السوري طيلة تلك العقود شيئا اسمه العدالة او ما يشابهها رغم وجود تنظيم قضائي في بلده, ومحاكم على درجاتها, وقضاة واتهام ودفاع وقوانين وإجراءات, ومقار تُسمّى القصور العدلية. ووزارة عدل (يا لكبر التسمية وصغر المسمى ).
لم يكن المواطن السوري يشعر حين يمثل, او يُقتاد, أمام القضاء برهبة وهيبة القضاء لغياب رهبة وهيبة ومسؤولية واستقلال القضاة . يكون في احسن الحالات غير متأكد من الفارق بين القضاء وقصوره, وبين المخابرات و أقبيته. لا يحس بالأمان والاطمئنان لقناعة ترسخت فيه بفعل تجربته الشخصية وتجارب ذويه ومعارفه. يكون متأكد بأنه سوف لا يُنظر اليه على انه انسان ذو كرامة وأهمية. انسان تحميه حقوق الانسان. وانه سيكون, في المواد الجزائية على سبيل المثال, بريء حتى تثبت ادانته. وبأن عقوبته يمكن ان تتناسب مع جريمته. وان العقوبة التي ستطاله سيكون هدفها اصلاح الضرر الناتج عن جريمته ان كان قد ارتكبها, وليس مجرد الانتقام والتشفي به جسديا ومعنويا وتجريده من الصفات والكرامة الإنسانية وإلحاق الاذى والمهانة حتى بعائلته وذويه وكل من ينتسب اليه.
قبل الثورة كتبنا مقالا بعنوان "محنة القضاء. ضمير الأمة" وفيما يلي بعض ما كتبناه. وما كتبناه ليس إلا بعض ما يعرفه الجميع, وما كتبه بعض اصحاب الضمائر الحرة.
"في قضاء يفتقد للنزاهة والكفاءة, يكون مشكوك دائما في الإدانة, وفي البراءة. فالبريء, حتى ولو ثبتت برأته بحكم أو قرار قضائي, يبقى مشكوك في تلك البراءة, ولا يستطيع صاحبها إعلانها كدليل قاطع في مواجهة الآخرين . فقد تكون مشتراة, أو صادرة نتيجة تدخلات في قضاء دون سياج, مفتوحة أبوابه لكل أصحاب النفوذ والمترافعين بوسائل لم ينص عليها قانون أو أصول محاكمات.
قضاء يرى فيه القاضي نفسه, كشخص وكقاض, تحت رحمة أصحاب النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي والحزبي, وعليه أن يُكيّف أحكامه ليس لطبيعة الوقائع ولأحكام القوانين, وإنما على استقراء, واستشعار عن بعد لرغبات من هم فوق القوانين من "بـلاطجة" أوصياء على الدولة بصغائرها وكبائرها. عليه أن يقيم, من نفسه على نفسه, ولحماية نفسه, رقابة ذاتية تُبعد عنه العواقب غير المحسوبة, في حالة تخطي خطوطا تعتبر حمراء. أين يمكن عندها إيجاد نقاط ايجابية تحسب للقضاء, ولا تتنافى وتتعارض مع النزاهة والموضعية والمهنية, ومهنة القضاء بكاملها؟.
قضاء لا اعتبار فيه لأدبيات القضاة déontologie ولا التزام بالقسم الذي يؤديه القاضي عند تخرجه, ولا تستر على السر المهني, خاصة إذا ما تعارض مع مصالح أصحاب الأمر والنهي. تتداول القضية كل الألسن ويسمع بها القاصي والداني, منذ مرحلة الاشتباه والتوقيف على ذمة التحقيق, وخلال التحقيق, والمرافعات, والمداولات.. ويُحكم فيها القاضي مسبقا, في مجالسه الخاصة والعامة, قبل أن يصدر حكمه في جلسة إصدار الحكم في قاعة المحكمة.
طرق توظيف القضاة تقود حتما, ومنذ البداية, إلى فساد القضاء. فدخول غالبيتهم المهنة يخضع بالدرجة الأولى للولاء الكامل للنظام السياسي, والمعايير الحزبية, ولدعم أصحاب النفوذ, وليس للكفاءة و وتكافؤ الفرص, والتنافس النزيه بين الحقوقيين المرشحين لمهنة القضاء. وهذا, وان كان لا يختلف عن المعمول به في كل وظائف الدولة ودوائرها والمهن, فانه أكثر خطورة في مهنة القضاء, كونه إفساد لضمير الأمة الذي يفترض إن القضاء يجسده.
هل يمكن, دون بسمة ساخرة, الحديث عن قضاء مستقل نزيه في مثل هذه الشروط , في دولة لا فصل فعلي فيها للسلطات, والسلطة القضائية هي الأكثر ضعفا, بين السلطتين الأخريين التابعتين لرأس النظام وأصحاب القرار حوله, وبتفويض منه؟. وفي ظل حالة طوارئ وأحكام عرفية واستبداد وفساد مستمر منذ أكثر من 40 عاما, بُنيت عليه ثقافة أجيال بما فيها أجيال القضاة؟. (لا يسعنا مع ذلك إلا الاعتراف للشرفاء من قضاتنا بمكانتهم, ونقاء ضمائرهم, كأفراد, رغم كل ما يعانونه من محنة مرفق القضاء في دولة الاستبداد).
وعليه يصبح من لغو الكلام أن نتحدث عن إصلاح قضائي في ظل الاستبداد والفساد العام, وشراء الذمم. في دولة يُقتل المواطن لتهم ملفقة ضده, تقتلع أعضاء من يطالبون بالإصلاح, وتداس رؤوسهم وظهورهم, ليس فقط في أقبية التعذيب بعيدا عن معرفة القضاء ــ الذي يتلمس رأسه ويتمنى أن لا يسمع ولا يرى ــ , وإنما كذلك علنا في الشوارع. لا يحاسب احد ولا يحال إلى المحاكم احد حتى ولو كان شبيحا بلا صفة رسمية أو حصانة قراقوشية. الاعتقالات دون أوامر قضائية والتهم لا مبرر قانوني لها (لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ليست من مبادئ العدالة !!!), لا محاكمات, أو مجرد سؤال عن المبررات. ليس هذا فقط في أيامنا هذه أيام القتل بالجملة والقنص, وإنما في ممارسات ممتدة على طوال تاريخ الدولة القمعية, وان اختلف اتساع الملاحقات من فترة لأخرى, فهذه ذهنية الاستبداد وممارساته. هل يمكن لأي إصلاح أن يغير ما تربت عليه الذهنيات عقودا طويلة, وما جرت عليه الممارسات التي أصبحت أعرافا ثابتة وكأنها من أصول الحكم والمحاكمات؟.
هل يمكن الادعاء بان دولة تعيش عقودا دون قضاء نزيه ومستقل, قائم في أغلبه على قضاء استثناء, في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية, قابلة للانتقال إلى مفاهيم وقيم القرن الواحد والعشرين فيما يتعلق بالقضاء؟. وهل يمكنها الادعاء بأنها قادرة على الإصلاح القضائي وان أرادته فعلا.؟ وهل يمكن الإصلاح في مجال القضاء وكل ما في الدولة فاسد وغير قابل لأي إصلاح؟. الفساد ليس فقط في الهيكلية, وإنما كذلك وبشكل أساس في العقول والنفوس؟.
القضاء المستقل النزيه لا يقوم ولا يستقيم خارج دولة ديمقراطية, دولة القانون, دولة علمانية يتساوى فيها الجميع أمام القانون, ويخضع فيها الجميع دون استثناء لحكم القانون. المواطنة هي المعيار وحقوق المواطنية وواجباتها للجميع وعلى الجميع".
كم هي كبيرة مهام الثورة السورية, وكم على عاتق القضاة و "نادي قضاة سوريه" الوليد من رحم هذه الثورة, من مهام وآماني حلم ويحلم بتحقيقها وتنفيذها شعب بكامله. ومع ذلك امام القضاة روح الثورة وحس الثورة وأهدافها. وأمامهم تجارب القضاة العرب الشرفاء, وتجارب قضاة الشعوب الديمقراطية في دول القانون والعدالة وحقوق الانسان.
عصرنا ايها السادة عصر الحضارة والقانون والعدالة والديمقراطية والمواطنة وحقوق الانسان, وكل ما هو صالح لأن تبني عليه الثورة السورية ركائزها.
هايل نصر.
التعليقات (0)