الثورة الثالثة:
الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الليبي لاسقاط الديكتاتورية الجاثمة على صدره يعتبر اعظم شهادة ميلاد لثورة فرضت نفسها على بقية الثورات بل واصبحت ملهمة لبقية احرار الشعوب التواقة للحرية والعدالة،كما ان انتصار ثورته الكبرى يعتبر بحق نصرا عالميا جديدا يضاف الى الانتصارات الكبرى التي حققتها البشرية ضد الطغيان والارهاب والتخلف وسحق الشعوب تحت مختلف المسميات الزائفة التي يجري تداولها منذ نشوء النظام المقيت المسمى بالحكم!.
وكما ان للثورتين الاولى والثانية(التونسية والمصرية) ولبقية الثورات الاخرى خصوصياتها المميزة في مختلف المجالات فقد اضافت الثورة الليبية ابعادا ودروسا وعبر جديدة ينبغي الاستفادة منها وبخاصة من النواحي السياسية والعسكرية والفكرية للوصول الى بداية طريق سريع يؤدي الى الحرية والديمقراطية والعمل على رفعة الانسان وصيانة حريته المقدسة وكرامته الانسانية.
ليس هنالك مجال في تفضيل ثورة على اخرى،ولكن هنالك رؤى جديدة تضاف عمليا ونظريا الى هذا التنظير العملي المؤدي الى انهاء حالة الطغيان المستشرية في تاريخ الانسانية...اذا نحن امام حالة من التراكم البنائي في هذه السلسلة الطويلة من الثورات كما هو موازي لبقية الحالات الاخرى مثل عملية التراكم في العلوم والفنون والاداب وغيرها،وعليه فأن كل ثورة هي مكملة لعمل الاخرى وتسد من خلال ذلك كل الثغرات في النظرية والتطبيق في محاولة لبناء ثورة شبه خالية من العيوب والثغرات لاستحالة الكمال الثوري بفعل كون الانسان غير معصوم من الخطأ في كل شيء!.
ليس هنالك مجال للشك في ان ضحايا الثورة الليبية يفوق بكثير ضحايا الثورات العربية المعاصرة الاخرى وبخاصة من ناحية النسبة السكانية المرتفعة،كما ان طغيان وجنون القذافي هو في اعلى مرحلة من مراحل الاستبداد مما يعني ان الثمن المتوقع لازالة حكمه من جذوره سوف يكون مرتفعا ولن يتحقق بسهولة الا بعد ان يتوفر له الشروط الموضوعية وبخاصة توفر الارادة الليبية الصلبة التي رفضت بشدة مبدأ الاستسلام الكامل امام حكم معتوه بالرغم من طول المدة التي قضاها في الحكم وطريقته العبثية المستهجنة او حتى التفاوض معه،والامر الاخر تمثل في اتساع حجم التدخل الدولي بشقيه الاقليمي والغربي والذي احسن الثوار استغلاله في الجمع بين تحالف الاضداد معهم! بالرغم من وقوف حماة الانظمة الاستبدادية المتمثلة بروسيا والصين وغيرهما ضد هذا التوجه العالمي الجديد الذي ازال حقبة مظلمة سادت في تاريخه من اللامبالاة اللااخلاقية في الوقوف على الحياد عندما يثور شعبا ما ضد نظامه الديكتاتوري الفاسد ويتعرض الى ابادة علنية ويقع على اثرها عدد كبير من الضحايا ويشيع مناخ من الهزيمة الذاتية تتمثل في الخضوع شبه التام لحكم الطغاة لفترة اضافية لا يعلم مداها وما تتركه من آثار احد الا الله تعالى!.
شحنة أمل جديدة!
لقد ضعف الامل بعض الشيء وشاع الملل لدى قطاعات شعبية واسعة في العالم العربي بعد طول انتظار لفترة الصراع وبسبب التكاليف الباهظة للثورات المعاصرة،ويعود السبب الرئيسي لهذا التململ هو ان النصر الذي تحقق سريعا للثورتين الاولى والثانية والذي لم يكن متوقعا من الاصل قد خلق شعورا ذاتيا لذيذا يتجسد في استعادة المبادرة في التحكم بالقرار السيادي المتمثل بحرية الاختيار واعادة الاعتبار لشخصية الشعوب المسحوقة منذ عقود طويلة تحت ارجل حفنة من الرعاع واتباعهم الذين خلقوا لانفسهم هالة رهيبة ظهر انها ضعيفة لا تقوى امام اي زحف شعبي بسيط يزيل عنه تراب الخضوع والخنوع! وقد ادى ذلك الى شيوع شعور جذاب يتمثل في الاستهانة الواضحة بقدرة البقية من الانظمة الديكتاتورية والتي اعادت حساباتها بدقة وجعل البعض منها ينهض لمساعدة الاخرين لوأد زخم الثورات الكاسح!.
الذي يجهله الكثيرون ان الثورات لا تبنى بسهولة ولا يمكن اختصار زمن نصرها بالرغم من ان ثورة الاتصالات الحديثة قد كسرت قيود المكان والزمان في مختلف القضايا...نعم هنالك خصائص مشتركة بين النماذج القديمة والحديثة للثورات من بينها الشرارة واستمرارية زخم الثورة وتطويرها كي تصل الى المراحل النهائية،ولكن الاستهانة او عدم دراسة واقعية الظروف المعاصرة والقفز عليها سوف يؤدي الى تأجيل الثورة او اضعاف قدرتها على الوصول الى الهدف النهائي او على الاقل اتساع دائرة الضحايا.
لقد خلقت الثورة الثالثة بزخمها البطولي ظروفا اقليمية جديدة ينبغي الاستفادة منها في تطوير العمل النضالي لتحرير الشعوب المستضعفة،فمن حيث ديناميكيتها المستحدثة الرافضة لمبدأ التقيد بطريقة او منهج فكري ضيق، لم تقف عند حدود القمع الوحشي الذي تعرضت له في بداية الثورة بل طورت قدراتها واساليبها وصولا الى العمل المسلح الذي يعتبر آخر وسيلة في الثورة لتحقيق الغايات السامية،لا بل اظهرت قدرة عالية على التماسك واتباع اقصى درجات العفو عند المقدرة والتمسك بالاخلاق العالية التي جذبت اركان النظام واعوانه بالرغم من ان ذلك يمثل خطورة مبطنة على استمرارية الثورة او يؤدي الى خلق مشاكل لا غنى عنها اثناء توليها ادارة البلاد،وعليه فأن الاستفادة من النهج والتطبيق الخاص به للثورة الليبية المباركة امرا يفرض وجوده على الساحات الاخرى الملتهبة والتي مازال البعض منها يخضع لقيود ذاتية تتمثل بضعف القيادات المتصدية على استغلال الزخم الجماهيري للوصول الى غاياته السامية او يخضع لدائرة رهيبة التقليد المتزمت لتاريخ الحركة النضالية التي لم تستفاد من القدرات التكنولوجية والظروف الدولية المواتية!.
الثورة الثالثة اضافت ابعادا ومناهج جديدة في العمل السياسي الثوري ينبغي على الجميع تتبعه ودراسته وتحليليه وصولا لتقييمه وفق الشروط الموضوعية الصارمة!.
التعليقات (0)