الثورة الاقتصادية العالمية:
لم تولد الازمة المالية العالمية منذ ظهورها في عام 2008 ثورة شعبية مضادة ضد المتسببين في الانهيار المالي العالمي يتناسب وحجم الكارثة الا بعد مرور ثلاثة اعوام لان السياسات الاقتصادية التصحيحة وبخاصة المتمثلة بالتدخل الحكومي لم تأتي بجديد للغالبية المتضررة وهم على الاغلب الطبقات الشعبية الدنيا ضمن سلم المجتمع الطبقي!.
زخم الثورات الشعبية العربية كان تأثيره ظاهرا على تلك الثورة الوليدة والفريدة والتي اخذت في بعض ملامحها من اسباب تلك الثورات ونتائجها المثيرة للاهتمام،ومن بينها ان اهم اسباب انطلاق تلك الثورات هو العامل الاقتصادي المتمثل بأنهيار النظام الرأسمالي المحلي الذي هو نسخة سيئة بالطبع للنظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي الاكثر تقدما وتسامحا لان النسخة العربية للرأسمالية هي مدمجة بصور الفساد والاستبداد والتخلف والجهل وهي عوامل حتمية لاي انهيار مستقبلي،وهذا يعني ان الوضع الاقتصادي العربي المتردي كان سببا رئيسيا لاندلاع الثورات الشعبية وهو لم يكن ناتجا من الازمة المالية العالمية بالرغم من تأثيراتها الظاهرة عليه وانما هي وليدة لتراكمات تاريخية من الاخطاء المروعة في كافة المجالات استغلت الظرف الحالي لتنفجر بلا خوف بوجوه من اذلوها لحقب زمنية طويلة دون ادنى مراجعة للذات والمحيط والتغييرات الكونية المتسارعة!.
انطلاق الثورة الاقتصادية الشعبية العالمية كان موعودا يوم 15 تشرين اول (اكتوبر) 2011 واستجابت بالفعل حوالي الف مدينة على الاقل في شتى بقاع الارض للنداء العالمي الموحد في حادثة فريدة من نوعها!مستمدة من صدمة الانهيار المالي العالمي وآثاره المدمرة على الواقع الاجتماعي حافزا لضرورة التغيير الحتمي في اصلاح النظام المالي العالمي الذي شاخ واصبح وحشا كاسرا بسبب هيمنة قلة متنفذة من رجال المال والاعمال والسياسة عليه منذ بروز نزعة تحرير الاقتصاد من الهيمنة العامة(الحكومية والشعبية) اواخر عقد السبعينات من القرن الماضي.
صحيح ان البداية لم تأتي مفاجأة ولكنها في نفس الوقت لم تأتي من العدم ايضا! لان بوادر تلك الانتفاضة العالمية بدأت من شرارات متناثرة في كل مكان تظهر وتخمد بسرعة دون ان تحقق اهدافها المرجوة!...اتسعت في بعض الاماكن ومنها اسبانيا في آيار(مايو)2011 وانتفاضة نيويورك المسماة(احتلوا وول ستريت) كتعبير عن غضب شعبي لمسببي الفقر والبطالة وتدهور الاقتصاد القومي من جشع رجال المال والبنوك وحلفائهم السياسيين الذين يرفضون تحميلهم وزر الاخطاء المرتكبة خلال المرحلة السابقة بل ويرفضون ايضا تحميلهم جزء من تكاليف الدعم الحكومي للقطاعات المتضررة!.
لقد كانت عمليات المعالجة الاقتصادية مكلفة للطبقات الشعبية التي لم تكن مسؤولة ابدا عن هذا الانهيار،وفوق ذلك بقي المتسبب خارج نطاق المحاسبة والابعاد!...ان ذلك سبب شعورا هائلا بالغبن وتجاهل فرض العدالة،وقد تجلى اكثر في اقتطاع جزء كبير من النفقات الضرورية التي تعتبر مهمة في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي بل والامر الاكثر اثارة للاهتمام ان الكونغرس الامريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون الممثلون للاتجاه اليميني المتطرف قد رفض الكثير من خطط الرعاية الصحية والاجتماعية التي اقترحها اوباما لان ذلك يعتبر تعديا على حقوق الطبقات المتنفذة والتي تجد المخلص دائما لها من ازماتها المتكررة!.
الانهيار الاقتصادي في بعض بلدان اليورو كان من اسبابه الانفاق بدون حساب مع بقاء فساد الطبقات المتنفذة التي استفادت من الظروف القائمة في تكوين ثروات ضخمة على حساب الاغلبية التي بقيت غافلة عما يجري بسبب الازدهار الظاهري ووجود هامش كبير من الحرية الفردية المتاح والذي يعتبر متنفسا كبيرا للمكبوتين في التعبير عن ذواتهم المتعبة!...الا ان الوضع الان مختلف واصبح ذلك الهامش غير مفيد في المعالجة المؤقتة!.
سوف تتحمل الدول النامية جزءا كبيرا من الانهيار المالي العالمي لانها تعتمد على اسواق الدول المتقدمة في تصدير المواد الاولية والسلع الرخيصة ذات الاستخدام الكثيف للعمالة وعليه فأن المشاركة في عملية تصحيح النظام الاقتصادي الدولي هو ضرورة لا غنى لابعاد الاثار المدمرة او على الاقل التخفيف من وطأتها...الازدهار والركود يشترك في صياغته الجميع ولن يكون هنالك احدا محصنا!.
لقد اصبح الوعي الشعبي العالمي عاليا بعد ان مس الضر بالطبقات الدنيا التي تؤلف الاغلبية الصامتة التي بقيت تراوح مكانها في اسفل السلم الاجتماعي،كما استفادت من الوسائل التكنولوجية المتاحة في التعبير عن الذات وتجميع الطاقات في كل بلاد العالم... اي ان وسائل التحشيد الجماهيري في العالم العربي والمتعارف عليها طورت كثيرا لانها اصبحت هنا خارج اطار الوطنية والقومية الى العالم بأسره الذي اصبح صغيرا ويضيق ذرعا بأبنائه!وصاحب ذلك الرغبة في تحقيق الاهداف المشتركة والمتمثل بتطبيق العدالة والحفاظ على الديمقراطيات ومؤسساتها من السطو المالي عليها!.
الثورة التصحيحة على النظام الاقتصادي الرأسمالي هي بمثابة تقليم لاظافر هذا الوحش المتستر برداء الديمقراطية والليبرالية واعادته الى حجمه الطبيعي بدلا من تركه بدون اي رقابة يمارس دوره في النهب والاسراف والتدمير تحت مسميات متعددة ثبت للجميع استغلالها في غير محلها!.
الازمة الاقتصادية العالمية اثرت بشكل واضح على قطبا الاقتصاد العالمي اي اوروبا وامريكا ولا تستطيع القارة الاسيوية تحمل فاتورة الانهيار والتصحيح الى مالانهاية فالقدرة الاسيوية محدودة بحكم الترابط والتداخل مع الاقتصاد العالمي بالاضافة الى تنامي الحاجات الاستهلاكية لشعوبها الناهضة...صحيح ان المستقبل يبشر بخير الى الدول النامية الصاعدة الا ان نهضتها تبقى ضمن حدود غير منفلتة بحكم التبعية التاريخية والاقتصادية الطويلة للغرب ولو لفترة طويلة على الاقل.
التهاون في تقدير ردات الفعل الشعبية الغاضبة وتجاهل مستوى الوعي المدرك لاخطار الانهيار المالي العالمي والذي تسبب بحدوثه فئات متنفذة تجاوزت الحدود الطبيعية والجغرافية لجشعها واستغلالها هو الذي ادى الى هذا التمرد العالمي المثير وعليه فأن تجاهل اخطاره سوف يكون اكثر قسوة في ردة الفعل.
لقد اصبح العالم بفضل التطور التكنولوجي امة واحدة وان اختلفت الاهواء والنزوات والملل،والسيطرة القادمة سوف تكون للطبقات المحرومة من آثار التقدم الحضاري، فالفرصة مواتية لاستغلال الظرف لاعادة بناء العالم وفق اسس سليمة خالية من التحكم المنفرد!.
التعليقات (0)