الثورات العربية والقابلية للاستعمار
ذ. البشير أيت سليمان
يعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) أول من انفرد باستعمال مصطلح "القابلية للاستعمار" في كتابه "شروط النهضة" وذلك عام 1948، قال هذا الكلام وبلاده الجزائر مازالت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي، وقد وجد – بعد دراسة معمقة لأحوال العالم الإسلامي – أن القابلية للاستعمار السبب الرئيس في تخلف المسلمين، ويعتقد بن نبي أن الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية لشعب معين تجعله يقبل الاستعمار، وفند كذلك مقولة "إن تكديس الأشياء هو الحضارة"، لأن الحضارة في نظره هي تصنيعُ الأشياءِ وإنتاجُها، وليس استيرادها وتكديسها.
نسوق هذا الكلام والعالم العربي يعيش في الوقت الراهن ما بات يعرف بالثورات العربية ضد الأنظمة المستبدة التي ورثها عن حقبة الاستعمار، هذه الأنظمة سارت، وعلى مدى عقود، فاقدة للبوصلة التي تمكنها من التخلص من تركة الاستعمار، لكنها لم تفلح في كل البلدان العربية في تحقيق ولو تقدم بسيط نحو ركب التحضر والتنمية، وما قامت به – في أحسن الأحوال – هو ما نبه إليه مالك بن نبي سابقا أي استيراد للأشياء تكديسها، مثل ما تعيشه جل البلدان النفطية في الخليج، مثلا، من تكديس للعُملات وتشييد للمباني الشاهقة... بينما تحتل مراتب متدنية في سلالم التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
والقابلية للاستعمار لا تتمثل فقط في القبول النفسي والمادي لوجود احتلال أو التطبيع معه، بل تتعداه إلى المناداة بعودته من جديد عبر طرق أخرى، وهو ما لوحظ في التجربة الليبية الحالية حينما أحكم العقيد معمر القذافي سيطرته على العاصمة طرابلس ورفض التنحي عن الحكم، فتعالت أصوات من داخل ليبيا وخارجها تنادي بالتدخل العسكري الأمريكي والأوربي في ليبيا، ناسخة بذلك نموذج "الحروب العادلة" التي شنتها البحرية العسكرية الأمريكية على دول الشمال الإفريقي مطلع القرن التاسع عشر، وأرغمتها على عقد معاهدات تحت إرهاب السلاح كما يذكر لويس رايت في كتابه "الحملات الأمريكية على شمال إفريقيا".
وتبقى هذه الثورات العربية ناقصة وغير مكتملة المرامي مادامت تجعل الأهداف الكبرى للإنسان العربي أمرا مؤجلا، ولا تعدو أن تكون تكرارا لـ"ثورات" أخرى سابقة وبأشكال متعددة لكنها لم تفلح في تحقيق آمال الشعوب في التحرر، "فالتاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق طرقها، وإنما يفتح دروبا جديدة، ولا يتحقق ذلك إلا بأفكار صادقة، تتجاوب مع جميع المشاكل ذات الطابع الأخلاقي، وبأفكار فعالة لمواجهة مشكلات البناء في مجتمع يريد إعادة بناء نفسه"( )، وأكبر تحد يعيشه العالم العربي والإسلامي اليوم هو إعادة بناء ذاته المترهلة حضاريا.
وخاطئ من يعتقد أن بداية البناء والتقدم والحرية يكمن في نهاية نظام سياسي أو تنحي رئيس معين، ما لم يتم التخلص من رواسب أزمنة الانحطاط الحضاري والقطع مع عقلية القابلية للاستعمار، لأن التغيير يبدأ من معرفة مكان تواجد الأمة في دورة التاريخ، ثم معرفة إلى أين مصيرها ومآلها، لأنه "يتحتم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية (والسياسية) أن ننظر إلى مكاننا في دورة التاريخ وأن ندرك أوضاعنا وما يعترينا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم، فإذا ما حددنا مكاننا في دورة التاريخ سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا"( ). وليس يفيدنا في شيء – يضيف بن نبي- أن نتساءل عما إذا كانت الحضارة قد بدأت في مصر أو غيرها، وكل ما نقوم به هو أننا نلاحظ استمرارها عبر الأجيال...
التعليقات (0)