أظهرت الثورات أو الانتفاضات العربية عموماً مدى تخلف الفكر العربي السياسي وعجزه عن ملامسة الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد العربية ولشعوبها,لكن هذا الشعب تجاوز بممارسته الفعلية كل نظريات وتنظيرات المثقفين والمفكرين ومنظري الأحزاب المتهالكة.
و من الممكن القول أنَّ قدرة الممارسة والوعي السياسيين لعامة الشعب العربي على التأثير في نظريات وأفكار مفكريه و مثقفيه هي اكبر بكثير من قدرة نظريات وأفكار هؤلاء المفكرين والمثقفين على التأثير في وعي وممارسة هذا الشعب. وبذلك فقد ردَّ هذا الشعب اعتباره عملياً، وفاجأ نفسه وفاجأ الجميع بتحقيقٍ لمنجزات لم يستطع أن يلحظها أغلب، وربما كل، المتابعين وهذا الاعتراف ليس ضرورة أخلاقية فقط وإنَّما هو، قبل ذلك وأهم منه، ضرورة أيديولوجية ومعرفية أيضا."
واذا كان النضال من أجل اسقاط أو تغيير نظام يجب أن يمثل في نفس الوقت قطيعة معرفية مع النظام البائد و نضالاً من أجل بلورة نظام جديد مناسب يحفظ حقوق الجميع في دولة قانون ومؤسسات ديموقراطية , وعندما يكون البديل ليس ناجزاً ربما كان الاتفاق على بديل مرحلي ناجح وجيد ومناسب في تجسيده للأمر الواقع أسهل أو أقل بصعوبة بكثير من تغيير النظام الحالي أو احداث تغيير حقيقي وجذري فيه مع التأكيد انه لابد من القطيعة المعرفية مع النظام السابق من اجل نجاح الثورة.
ان الثورة السورية قد نجحت حتى الان على صعيدين:
الاول هو افشال الحل الامني للنظام و البدء بدفع عجلة الثورة التي لم تاخذ تسارعها بعد وهذه اصعب مرحلة في الثورة فقد استطاعت ان تجبر النظام على الاعتراف بان هناك مشكلة سياسية تجبره على التغيير الجذري وليست بانها مطالب جماهيرية يريد التكرم باهدائها الى المواطنين. والوصول الى هذه المرحلة لم يتوقعه احد حتى المعارضين سواء كانوا الاسلاميين او القوميين الذين عاشوا في الخارج منذ ثلاثين سنة وهذه ماكان ليحدث لولا دماء الشباب التي سالت و كسرت حاجز الخوف خلال الفترة السابقة من الثورة.
الثاني هو الانتصار الاعلامي للثورة وانهزام اعلام النظام وفشله وبدأ يتخبط في مكانه وهي معركة كسبتها الثورة بدون اي شك حتى وصل الامر الى الاعتراف باللجوء الى الحوار مع المعارضين لمعرفة متطلبات المرحلة القادمة, كما ان النظام بعد الان سوف يحاول محاورة اشخاص ليس لهم علاقة بالثورة لكي يسرق الثورة كما حاول ان يفعل مبارك في مصر.
وهنا يحضرنا السؤال الاتي: ما هو مستقبل الثورات العربية وبالذات ثورة سورية
وهنا يمكن ان نقول اننا امام منطقين لدى المثقفين العرب منطق الاسود ومنطق الضباع
و النقطة الاساسية امام المعارضين تتلخص في المنطق "الضباعي" الذي يرى السلطة بمثابة استيلاء تالي على "غنيمة" أو مائدة لم يتم المشاركة في إعدادها و ينبغي النهل والإثراء منها لفئات حصرية على حساب بقية فئات المجتمع
بينما منطق "الأسود" الذي يرى أن (المشاركة في) السلطة هي محض تتويج طبيعي لبذل واستثمار جهود مسبقة في إنجاح وضع سياسي ما (الثورة هنا) دون إنشغال كبير بمسالة الغنيمة وهي الوصول الى الحكم
ومايدل على هذا هو وضع المعارضة التي لم تتوحد على صف وبرنامج واحد متناسق وذلك لتفاجؤها بوضع الثورة التي وصلت اليه حتى الان ولأنهم بعيدين عن الثورة ذاتها.
كما ان الخطورة الاخرى في ان هذا الإطار الغنائمي والموائدي هو بالضبط ذاك الإطار الذي كانت تفكر به النظم الاستبدادية التي أسقطتها.
ومن المحزن والمخزي أن نجد هذا الإطار الفكري ما زال حاكما لوعي "فئة الضباع المترقبين" .. الذين يعجزون عن فهم أن المجريات السياسية تستدعي المساهمة فيها بمنطق الأسود قبل أن تستدعي ترقب "نهش موائدها" بمنطق الضباع..
هذا المنطق الذي لم يعد صالحا سوى للاستبداد والعنف والنخبوية .. بينما الثورة العربية المعاصرة هي ثورة سلمية شعبية لاعنفية
الثورات العربية والفهم الاقصائي
ان اهم ما يصح الإنشغال به الآن هو "حشد" وتجميع كافة الفئات المجتمعية السياسية جميعها دون تفريق بهدف اجتياز المرحلة الصعبة بينما الثورة نفسها لم تنجز بعد
كما ان على الطبقة المثقفة السياسية أن تتخلص من منطق التغيير بالعنف من أعلى وأن تحاول أن تفهم كيف يعمل المنطق الجديد الذي تتبناه الشعوب العربية حاليا والذي يقوم على التغيير من أسفل وبطريقة سلمية
ايضا المطلوب منا عدم الخوف واظهار الهواجس الذي يشكل خطرا اكثر في لعبة الاقصاء الجديدة والتي يقودها اعلام الوجبات الجاهزة كثورة ضد المثقفين والنخب ليجد الشارع نفسه وجها لوجه مع المجهول المجمل بالشعارات المقنعة والعاب التقية السياسية وبنفس الطرق الاستبدادية كالكلام عن القائد الضرورة ووعي وحنكة الشعب الضرورية. ولنتوقف عن ابداء المخاوف فالحل أتي لا محالة وكل ما علينا الانتظار فقط لكي يوجد الشعب البديل. وهنا لابد من التنسيق بين "وعي النخبة" و"وعي الشعب" أو حكمة الشعب فالثورة بحاجة الجميع للادلاء بدلوهم.
ان على الثورة ان لاتخاف من التيارات السياسية الموجودة على الساحة السياسية فإن الديمقراطية ستدفع بالتيارات الإسلامية نفسها إلى التطور والتوافق مع حركة الواقع ومع متطلبات نضج وعي الجماهير لتصبح كما في المثال التركي وما بعده ولتتجاوز جميع النماذج المسبقة التي نتوقعها لها والتي نقيسها على ما صدر من أخطاء فادحة للتيارات الإسلامية خلال فترات تفاعلها مع النظم الاستبدادية السابقة.
لذا فالمطلوب هو مساعدة هذه التيارات على النضج وليس اقصاءها وليس الحجر عليها وليس التعامل متعها بنفس الأجندة القمعية التي صنعتها النظم الاستبدادية لأن في هذا خطورة نعرفها جميعا.
كما انه من مشكلات الطبقة السياسية العربية أنها ما زالت تجتر نفس معاركها الدجلية العتيقة بمنطق الفوبيا والتخويف من الفكر المختلف كما ان من مشكلاتها أيضا تصلبها الفكري الذي يفتقد المرونة اللازمة للانفتاح على التطورات الجذرية التي أحدثتها تيارات ما بعد الحداثية الفكرية المعاصرة وضرورة التخلي في الخطاب الفكري عن منهجية الطرح الإقصائي التنميطي. وهنا لابد من الاشارة الى نقطة مهمة وهي بما أن الجماهير الثائرة اليوم قد تكون خلفيتها الإسلامية تشكل الأغلبية، و بما أن الديمقراطية تتيح الاحتكام الى صناديق الاقتراع فإن الإسلاميين قد يكونون هم الحاكمون.
المسألة هنا ليست بالمرة أن يفوز الإسلاميون بالحكم ولا أن يفوز العلمانيون بالحكم في انه ولكن المسألة في نمط التفكير الذي يجب أن نتجاوزه كان لا يجب أن يكون هناك "فوز استئثاري" بالحكم سواء للإسلاميين أو للعلمانيين.. ان جميع من يتكلمون عن فوز الإسلاميين (أو العلمانيين) بالحكم هم محكومون بوعي استئثاري إقصائي يقوم على ضرورة تفرد واستئثار فئة وحيدة بالحكم ومن ثم تقوم هذه الفئة على قمع وإقصاء بقية الفئات المجتمعية من الحكم.
وهذا النمط من التفكير هو نمط لاديمقراطي ونمط استبدادي في التوقع وهو يخرج تماما عن احتياجات المرحلة القادمة.
لذا فتوقعات الجميع بحدوث استفراد بالحكم من الإسلاميين أو من العلمانيين إنما يعبر عن أن أصحاب هذا التوقع ما زالوا يفكرون وفقا لعادات التفكير الاستبدادية اللاديمقراطية التي عجزت النخب المفكرة عن إنجاز هذه النقلة الفكرية والفهمية من الاستبداد إلى الديمقراطية؟؟
لذا فانه في عصر العولمة, الدولة المدنية والدينية ليست هي منتهى الأمل فيه بل هي مراحل ينبغي تجاوزها باستمرار وبشكل مرحلي يهدف إلى الوصول الى بناء توافق بشري لا تحده حدود تقليدية مثل الأديان أو القبائل أو الألوان ولا تحده حدود بشرية مثل الجنسيات أو الطبقات.
وربما المأمول هو مجتمع بشري كوني يمتد بامتداد الأرض كلها دون حدود .. وربما ينطلق من العولمة كبذرة (مع استبعاد شراستها واستغلاليتها المعاصرة)
وفي القرن الحادي والعشرين يجب اضافة عامل آخر هو ان الفكر القومي لم يعد بشكل عام صالحا للفاعلية في ظل العولمة ,عصر الدول القومية انتهى ,كما انتهى عصر الايديولوجيات.
التعليقات (0)