لا أظنّ أنّ الشّطَارَةَ تُسعِف أيًّا كان لجحود فضل الثورات العربية التي نعيش على وقعها في تحريك المياه الآسنة،تلك المياه التي طال ركودها فتعفّنت ليؤول الواقع العربي لما آلَ إليه من رداءة وهزال وفساد وانغلاق رسَمَ بوضوح مستقبلا قاتما يُؤشّر لذهاب ريح الأمة العربية وروحها دون رجعة...
الربيع العربي الذي نصنعه اليوم بإرادتنا وبكلّ أوجاع مخاض الولادة ليس ادّعاءً ولا أضغاثَ أحلامٍ،هو من قبيل ذلك العهد الذي انتفضنا فيه ضدّ الاستعمار الأجنبي البغيض فانتهى بانتصار إرادتنا على جبروته وبطشه.(ومَنّ لم يُعانقه شوق الحياة///يعشْ أبد الدّهر بين الحفر-الشابي.)
الربيع العربي ثورة ثانية على استعمار الاستبداد المحلّي الذي خرج من صلبنا قمعا "وطنيا" في غفلة منا منذ ذلك اليوم الذي خلنا –ونحن نمجّد بطولاتنا-أنّ الاستعمارَ ليس إلا احتلالا أجنبيّا دحرناه بخروج عساكره تجُرّ أذيال الخيبة.
الثورات العربية اليوم حقيقة نعانقها بشغف وشوق ونخوة حتى ونحن نصغي باهتمام لأصوات المحذّرين من أنّ الغد قد يُفاجئنا بما لا يسُرّ (وكأنما نحن بصدد التفريط فيما يسرّ)...
قطعا لا يجب أن نصُمّ آذاننا عن سماع الأصوات المحذّرة مما يُحَاك في العلنَ والخفاء من الخارج قبل الدّاخل،علينا أن نتلقّف الرسالة المحذّرة قبل الرسالة المطمْئنة نتَبيّنها ونتدبّرُ أمرها ونأخذها مأخذ الجدّ على ألاّ تعوق اندفاعنا لصرف المياه الراكدة التي نسبح في عفونتها...
القول بأنّ المستقبل العربيّ محفوف بالمخاطر والكمائن تحذير يستمدّ مبرّره من تلك الخطط المحبوكة الجاهزة التي نسجها القويّ المهيمِنُ للإبقاء على تفوُّقه في توقيت لم يَعُد بالإمكان إرجاؤه لاعتبارات متعدّدة ومعقّدة تهمّنا معرفتها تماما كما يهمّنا التأكيد على أنّ التوقيت نفسه هو ذاته الذي فاض فيه كأس الشعوب العربية ونفذ صبرها على الإذعان لهوانها تتجرّعه استبدادا وفسادا واستخفافا بها...
ثوراتنا العربية حدّدت هدفها العاجل الإطاحة باستعمار الاستبداد المحلّي،ونحن إذ نرصد تطوّراتها نراها تختلف من قطر عربي إلى آخر على مستوى الثمن المدفوع وعلى مستوى تشعّب الأحداث وحتى النتائج:المستبدّ رقم واحد المطاح به في تونس فرّ-فجأة-إلى حيث مهبط الوحي ليُكفّر عن ذنوبه تاركا الشعب بنخبه السياسية وعامته يُواجه مصير ترتيب استحقاقات الحكم الانتقالي.ولئن حالف تونس التوفيق في تحقيق الغاية بأخفّ الأضرار دون بروز وجه سافر لتدخّل أجنبي،فإنّ الحال جاء مختلفا لدى الجارة ليبيا ذات الثروات الهائلة التي اضطُرّ شعبها لدفع تكلفة باهظة ضحايا وتشريدا ودمارا إلى جانب الاستعانة بالأجنبيّ (حلف الناتو) لتحقيق الغرض المنشود...في حين أنّ دخول اليمن على خطّ الانخراط في الثورات العربية لئن كان مبرّرا ومفهوما فإنّه يبدو مرشّحا لترتيب مغاير على تخوم الخليج العربي النائم على بِرك نفطه وفي قلب شَرْع القبائل والملل والنّحل وإرث التاريخ الذي يستعصي على التحديث...أما سوريا التي تنقاد إلى مخاض لولادة بدت في غير موعدها من حيث التوقيت لا من حيث الظروف المحفّزة،فإنّ مآل ثورتها مُرشّحٌ لاحتمالات تداعيات موجعة ومخيفة قبل استقرار أوضاعها بالنّظر إلى موقعها وطبيعة نظامها وتحالفاته...تبقى مصر في تعداد المسكوت عنه عمدا لأنّ –أغلب الظنّ-أنّ ثورتها ليست فيما طفا منها عن السّطح،إنّما فيما يُخفيه الغيب،والغيب-حتما سيكون اختبارا حاسما لشعبها تماما كما هو الشأن للقوى الخارجية التي أعدّت سلفا ترتيباتها لـ"الشرق الأوسط الجديد/الكبير"...مصر "مربط الفرس" وعلى كاهلها يقع عبء المقصود والمنشود من زلزلة الإقليم العربي وجواره...أما بقية الدول العربية فهي،بشكل أو بآخر، ليست خارج دائرة الثورات العربية حتى إن بدا الوضع مغايرا بلا دماء ولا ضجيج...العبرة بالنتائج استجابة للتطلّعات الشعبية المحلية وانسجاما والأجندات الخارجية التي لا يجب أن نراها شرّا خالصا أو أنّ شرّها لا نجد ما نطوّعه منه إلى خيرنا...
من ثمّة فإنّ الخلاف ليس في الإقرار بالمخاطر التي تتربّص بـ"الرّبيع العربي" والتنبّه لها -ولا يجب أن يكون الأمر كذلك- إنّما في كيفيّة التّعاطي معها :
- هل تعوقنا المحاذير والمؤامرات التي تحاك ضدّنا عن الفعل والتدبير وبالتالي التسليم بأمرٍ واقعٍ لم نعد نتحمّله،أمْ أننا ننخرط في صياغة قدرنا بتصميم الرّافض للموجود الرّديء المتحسِّب من أهوال المفتَرض تشكيله؟..هل ننخرط في صياغة حاضرنا ومستقبلنا عن وعي بالتحديات المطروحة أم نغرس رؤوسنا في الرّمل كالنعامة لنترُك لغيرنا التّحكّم في مصيرنا مُنحازين لخيار التقوقع والجمود؟.. إنّ التوقيت الذي أتاح لنا فكّ تلك القيود التي كبّلتنا واستجاب لإرادتنا في الثورة على البائد الذي خنق أنفاسنا هو توقيتنا...نحن الذين رغبنا في قدومه وانتظرناه طويلا وقدّمنا لأجل إطلالته علينا القرابين والضحايا.وهو توقيتٌ إذ تبيّن لنا أنّ المهيمنين على حضارة العصر قد استعدّوا له لتأمين مصالحهم وتنفيذ أجنداتهم لا يجب أن نفترض أنّه لم يَعُد ملائما لتطلّعاتنا في خوض غمار ما ننشد من حرّيّة وكرامة إنسانيّة فننكفئ على أنفسنا ونقبل بالقعود والجمود فيما لم نعُدْ نرضى به.
إنّ الشعوب تضرب موعدها مع التاريخ حين لا تباغتها أحداثه بل هي تستشعرها وتتهيّأ لها وتخوض غمارها بكلّ الاستحقاقات التي تفرضها دون خنوع ولا تهوّر،علينا التنبّه إلى أنّ الفرص التاريخيّة التي تُشكّل منعرجا للتحوّلات الكبرى المتاحة هي نادرة ولا تتكرّر،وهي تستوجب منّا اقتناصها في الإبّان دون تقديم ولا تأخير،هي فرص لا يستفيد منها إلا من ينخرط في صنعها ويُجيد التّعامل مع ما تقتضيه من يقظة وبُعد نظر وسداد رأي وقدرة فائقة على المناورة...
التعليقات (0)