كثير من المراقبين ، راهنوا على قدرة الشعب المصري على الصمود في وجه النظام ، والاستمرار في التظاهر السلمي ، حتى تحقيق أهدافهم ..
وكثيرون أيضا ، راهنوا على قدرة النظام على إجهاض هذا الغليان ، وإخماده أو وأده ، بطريقة أو بأخرى ، كون النظام متمرسا في عمليات كهذه ، مستفيدا من تجارب سابقة ، ومن دعم خارجي يتلقاه على شكل غطاء وتسويغات ..
ورغم أن الثورة في أسبوعها الثالث ، ورغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة ، إلا أن المدن والشوارع والساحات تزداد التهابا بمئات الآلاف من الجماهير التي تنضم يوميا لهذه الحشود ، في مؤشر واضح ، عبّرت عنه بعض الشعارات بالقول : " خرجنا ، ومش هنرجع بلا مطالبنا " ..
فالتنازلات التي بدأت بإقالة الحكومة ، وتعيين نائب للرئيس ، وتغيير قيادات الحزب الحاكم ، والإعلان عن سلسلة تعديلات دستورية ، تزامنت مع إعلان عدم ترشح الريس ولا نجله لانتخابات الرئاسة مستقبلا ، والدخول في بعض الحوارات مع المعارضة ، وما شابه ذلك ، كله لم يلبِّ بعد ، مطلب المقيمين الجدد في ميدان التحرير وسط القاهرة ، وإن كان هؤلاء لا يرفعون سوى الشعار الأهم ، ذا السقف الأعلى : " كش ملك " .. يريدون تنحي الريس ..
وريّسهم هذا كأن أذنيه واحدة من طين ، والأخرى من عجين ..
لم يصله بعد صوت الجماهير المحتشدة طيلة الأيام السابقة ، ولم يسمع صيحاتها ، ولم يتحسس أنـَّاتها ولا آلامَها ولا صرخات ثكلاها ، ولا سيل التهم وشتى أنواع الكلمات " المنمقة " الموجهة إليه والتي تليق بمن هو في مقامه " السامي " ، ولا الاعتراضات ، ولا المطالبات التي بلغت أسماع العالم ، فاهتز لها ، ورجّع صداها ، لكنها لم تبلغ مسمعيْه المشنفين لأصوات تأتيه من البعيد البعيد ، وعيناه صوب " حلفائه ومعاهديه " في الشرق ، ينتظر وعودا بالمساعدة ، وربما ، بالدعم ..
أهو أصم ؟؟ أم يتصامم ؟؟!!
بالتأكيد ، ليس كذلك .. لكن ، يبدو أن الطبخة الأمريكية الصهيونية لم تنضج بعد .. وهي ما تزال تطبخ على نار ميدان التحرير ، ما دام المتظاهرون لم يتوجهوا بعد ، لقصر الرئاسة ، ولا لأي مرفق هام من مرافق الدولة ، بهدف إسقاطها على الطريقة التونسية أو الرومانية أو الإيرانية ، أو على طريقة سد مأرب ..
فرغم كل الذي جرى ، وقد جرت في النيل ملايين الأمتار المكعبة من الماء الطهور منذ 25/01/2011 إلى اليوم ، لكن أمريكا لم تطلب بوضوح أو بصراحة أو بشكل حاسم قاطع ، من الريّس أن يتنحى عن السلطة ..
ولا مرة حدث هذا ، بل لو تتبعنا الخط البياني للتصريحات الأمريكية منذ بداية الثورة إلى الآن ، لوجدنا المنحنى في الأيام الأخيرة يتصاعد إلى الأعلى بعد أن كان في بدايته متأرجحا متقلقلا ، غير محدد الوجهة ، ثم ارتفع قليلا مع ارتفاع سقف المطالبة بالتغيير : " الآن " ، ليعود الخط من جديد إلى التغير نحو الأعلى ، مع إعلان أمريكا ، أن تنحي الرئيس المصري " سيكون له نتائج سيئة على المستقبل السياسي " للديمقراطية والانتخابات " في مصر ..
وهذا الموقف الأمريكي " المتناهي في الشدة " ، ليس بعيدا عن التوجهات الصهيونية التي ما تزال تتباكى على نظام الريّس ، وترى في خليفته " نائبه " خير خلف لخير سلف ..
والوثائق التي كشفها ويكيليكس مؤخرا ، توضح كيفية مراهنة الصهاينة على هذا الخليفة " النادر " منذ عام 2008 ، كونه خير من يحافظ على الإرث " الاستسلامي " في الخيانة والعمالة للعدو الصهيوني ..
وهذا مؤشر واضح أيضا ، أن الصهاينة وأمريكا ، لم يكونوا يؤيدون توريث الحكم ، رغم كل المهانة والخدمات التي قدمها لهم النظام المصري ، سواء على الصعيد السياسي : بهدم الجدار العربي وحصار غزة ، وبناء السور الفولاذي ، أو على الصعيد الاقتصادي : الذي منح الصهاينة خيرات مصر الظاهرة والباطنة ، أو على الصعيد الأمني : الذي لم يتوان حتى في الإفراج عن جميع جواسيسهم ..
وقد اعترف الصهاينة أن أكبر دولتين داعمتين لهم هما : أمريكا أولا ، ومصر ثانيا ..
من هنا يأتي التشدد في المطلب الصهيوني بالحفاظ على النظام ورجاله ، ولو سقط رأسه ، فذلك ليس مهما مع وجود بقية جسد الأفعى ..
ومن هنا يأتي تفسير التردد الأمريكي والحيرة التي تنتابها بين أن تكون " وفية لمبادئها المزعومة " وبين أن تتمسك بالنظام إرضاء للصهاينة ، وحفاظا على مصالحها في المنطقة ..
وليست المعارضة الأمريكية والصهيونية لتوريث الحكم نابعة من كرههما بمبدأ التوريث بحد ذاته .. فهما لا تعنيهما من مصر كل تلك " السفاسف " ..
فهما تريان أن عمر سليمان هو الأداة المثلى للخلافة وتأمين البلاد والعباد ، وهو القادم من رأس المؤسسة الأمنية ، القادرة على ترويض الشعب وتلويع معارضته ، لاستكمال مسيرة أربعين عاما خلت ..
فاختيار عمر سليمان نائبا للرئيس الآن ، وبعد ثلاثين عاما من شغور هذا المنصب ، وفي هذه المرحلة ، لم يكن صدفة ولا أمرا اعتباطيا .. ولا هو حاجة تتطلبها المصلحة الوطنية أو القومية للبلاد ..
إنه قرار التفافي تآمري منسق ومدروس مع أصحاب القرار الحقيقيين .. وهو حاجة صهيونية كبرى ، ورغبة أمريكية شديدة ..
فتفضيل سليمان على جمال مبارك ، ليس كرها بالتوريث ، وإنما حب بمن سيكون أقدر على الحفاظ على مصالحهم ، والدفاع عنها وحمايتها من " الغوغاء " ، وتثميرها بما يعود بالنفع الأكبر على الصهاينة ، مقابل لا شيء يحصل عليه الشعب المصري ، لا من حكومته ، ولا من الصهاينة بالطبع ، لأنهم ليسوا في وارد أن تمتد يدهم بالعطاء ، فذلك ليس من " شيمهم " أبدا أبدا ..
فهم يعيشون لأنهم يأخذون فقط ..
وليس لهم فضيلة العطاء عبر تاريخهم كله ..
وصار معروفا لدى الشارع المصري والعربي أن " عمر سليمان " هو مرشح الصهاينة لخلافة رئيسه " الصديق الحميم الذي لا غنى عنه لاستمرار الهيمنة الصهيونية على شعوب المنطقة " بواسطة " المروِّض الأكبر " ..
وقد شاع على نطاق واسع في وسائل الإعلام أن عمر سليمان هذا ، كان يُعَدُّ " ويُصنع " على مرأى من الصهاينة ليوم كهذا ، كي تبقى مصالحهم في أيد أمينة ، ولو احترق المصريون جميعا ..
هل سيستطيعون ترويض الثوار لقبولهم بهذه النتائج ؟؟
هل سيبلع الثوار هذا الطعم السام القاتل ؟؟!!
إن وعي الثوار ، ودماء الشهداء الذين سقطوا برصاص بلطجية النظام ، لا بد أن توصل الثورة إلى طريقها الصحيح والمؤدي إلى تحقيق آمال وأمنيات كل الشعب العربي في مصر خصوصا ، وعلى مساحة الوطن العربي كله ، عموما ..
سدّد الله على النور خطاكم أيها الأحرار ..
عشتم ، وعاشت مصر وثورتها حرة أبية ..
الأربعاء ـ 09/02/2011
التعليقات (0)