الثوابت الفلسطينية في الشعر المقاوم: حق العودة |
كتب د. رمضان عمر | |
16/01/2012 | |
"قاوم" خاص - المتابع للحركة السياسية الفلسطينية الرسمية في تعاملها - الدبلوماسي- مع القضية الفلسطينية يشعر أنها-في كثير من الأحيان- تستبيح حمى القضية، ونفسد قدسية الثوابت، وتتجاوز حقوق الشعب؛ فلكم عرَّض السياسيون هوية الوطن للتلاشي والضياع، من خلال تبنيهم منطقا زئبقيا في تحديد الثوابت،والتعامل معها بطريقة (براغماتية) تجارية، تخضع لمنطق الكسب والخسارة.
فمع أنهم يزعمون أن القدس والعودة، والحدود (67)، وانسحاب المحتل من أراضي الدولة المتفق على إعلانها، خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها أو العبث بها، لكنهم- في واقعهم العملي - ينزلقون، ويتجاوزن ويعبثون، ويوقعون اتفاقات وتفاهمات تلغي وتسقط وتتجاوز تلك الثوابت، وتقفز عليها تحت مبررات واهية لا تمت للمصالح العليا بصلة.
ولعل مواكبة سريعة لسلسة التنازلات التي قامت بها المنظمة، بدءا من الاعتراف الفاضح بدولة الاحتلال الغاصب، ثم التنازل - رسميا- عن الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية،مرورا بوثائق عديدة أثبتت تورط بعض الفلسطينيين في بيع الحقوق، والمتاجرة بالوطن السليب؛ يكشف- لك- عن ذلك السلوك المهين، والمنطق السخيف، في زمن عزت فيه المواقف الصادقة، والبطولات النادرة، وسيق الناس إلى حتفهم السياسي كقطيع الغنم؛ لقبول ما يفرض علهم من حلول ناقصة ومجحفة.
لكن الشعر بمنطقه الرفيع يظل علوي الهمة، قوي الجناح، ثاقب الفكرة، لا يؤمن بالانهزام والتراجع، بل يبقي روح التحدي عالية، وعناوين الثبات واضحة وتجليات النصر مرتقبة.
وقد واكب الشعر العربي القضية الفلسطينية منذ احتلالها الأول من قبل البريطانيين، حتى اللحظة، وسجل- فيه -الشعراء أروع ما خطت أناملهم من شعر في سفر خالد لن تمحوه سنون التنازل والتفريط.
· الشعراء وحق العودة :
ارتبط الشعر الفلسطيني المقاوم -منذ النشأة– بكبرى المحطات الثورية، والنكبات الكارثية، واتخذ في سبل تعبيره منحيين متلازمين : دقُ نواميس الخطر، وكشف جرائم المحتل، وما لازم ذلك من ندب وعويل واستغاثة،ومحاولة لاستدرار العاطفة الجياشة للتثوير النفسي، وكشف فظاعة التقتيل والتشريد.
لكنه من نحو آخر أسرج خيول القصيد، ونزع عن قوس واحدة، ليرسم معالم البطولة، فاستحث الهمم، وارتقب الفجر الجديد، ونادى بالنصر القريب، هازئا بالمحال، مستعليا على الجراح، حتى غدا الشعر وقودا يجدد الهمم والعزائم، ويبدد الكسل والخنوع.
· شعر النكبة بين الفجيعة والأمل بالعودة:
ولعل نكبة فلسطين، وما خلفته من هزيمة للأمة - عام 48 - كان تاريخا مفصليا في رؤية القصيدة العربية الحديثة، ومنطق تعاملها مع الحدث، وكانت قراءة كبار الشعراء لمستقبل هذه الأمة بُعيْد تلك المصيبة بيانا لرؤية ثقافية ثاقبة، فغاصوا إلى أعماق المعاني، وكشفوا عن دقيق العلل، ونبهوا إلى مخاطر الذل والخنوع؛ فكانت قصائدهم بيانات حق، ونداءات صدق، وإشعاعات نور، لم تقتصر على التدبيج والتقفية، بل غاصت في أعماق التجربة الفكرية، والرؤى السياسية، وصدحت بما لم يصدح به السياسيون فكان حقها أن تقرا، وتذاع في الباحات والميادين؛ لتكون شهادات صدق من نخبة على تاريخ فرط به المفرطون، وتاجر فيه المتاجرون.
وللشعر قيمتان :قيمة فنية جمالية تقتحم الأذن بلا إذن، وتتربع على صحن الاستجابة، محدثة أثرها الساحر النوعي في المتلقي، وقيمة معرفية تصدر عن أصحاب فكر وتجربة، وتصاغ بطريقة حكيمة لغايات كريمة، وتأثيرها لا يسقط بالتقادم، بل إن الشعر الجيد يدوم أثره ويخلد.
وحينما نتابع الحركة الشعرية وعلاقتها بالثوابت الفلسطينية سنجد أن هذا الشعر التزم منذ النشأة حتى هذه اللحظة بمبدأ الحفاظ على الحقوق والثوابت، ولم يعترف بكافة القرارات والاتفاقات المجحفة التي وقعها السياسيون باسم الشعب .
ولعل من أوائل القصائد التي تناولت القضية الفلسطينية في نظرة استشرافية، موردة مصطلح "النكبة" قبل وقوعها؛ ما جادت بها قريحة الشاعر الملهم _أحمد محرم – في شهر نوفمبر 1933م،أي قبل وقوع نكبة فلسطين بخمسة عشر عاما؛ حيث نشرت له جريدة "البلاغ المصرية" قصيدة مطولة بعنوان "نكبة فلسطين"،رأى فيها الشاعر بنظرته الثاقبة أن المؤامرات التي تحاق ضد هذا الوطن السليب بقيادة بريطانيا،وتواطؤ دول أخرى،وخنوع العرب ستؤدي حتما إلى كارثة منتظرة تستشرف مستقبلا مظلما محيطا بالأمة:
يا فلسطين اصطليها نكبة هاجها للقوم عهد مضطرم واشهديه في حماهم مأتما لو رعوا للضعف حقا لم يقم واشربي كأسك مما عصروا من زعاف جائل في كل فم.
وما أن حلت النكبة، وانكشف الستار عن مؤامرة مرعبة، خلصت بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين، أعطت الاحتلال جزءها الأكبر حتى انبرى الشعراء منددين بهذا الضيم،رافضين هذا التقسيم، فها هو ذا الشاعر المصري علي محمود طه يطلق قصيدته (يوم فلسطين ) صرخة وجع وألم ضد هذا القرار" التقسيم" المؤلم الذي أصاب الأمة بأسرها:
هو الشرق لم يهدأ بصبح ولم يطب رقاد على ليل رماك بزلزال غداة أذاعوا أنك اليوم قسمة لكل غريب دائم التيه جوال قضى عمره،جم المواطن –واسمه مواطنها –ما بين حل وترحال وما حل دارا فيك يوما، ولا هفت على قلبه ذكراك من عهد إسرال
وإذا كانت النكبة بمآسيها وجراحاتها قد قلبت موازين التشكل الجغرافي في المنطقة، وفجرت واحدة من عظميات ظلم الإنسان للإنسان (الهجرة القسرية)؛ فإن هذا التشريد القسري قد ولد حالة من التشبث بالأرض، والحلم بالعودة،وفي اصطلاح التجربة الأدبية الحديثة ؛ فقد برزت ظاهرة "أدب العودة "، وهو أدب يصر على حق الرجوع،ويرفض قرار التقسيم، ويهزأ بكل التوقيعات والاتفاقات المجحفة والمذلة .
يقول شاعر الطفولة – سليمان العيسي – على لسان طفلة تقف أمام زقة من زقات المخيم :
فلسطين داري ودرب انتصاري تظل بلادي هوى في فؤادي ولحنا ابيا على شفتيه
ثم يأتي الشاعر الفلسطيني "عبد الرحيم الكرمي" ليعمق هذا الحنين، ويجسد تلك اللهفة:
فلسطين الحبيبة كيف أحيا بعيدا عن سهولك والهضاب ؟ تناديني السفوح مخضبات وفي الآفاق آثار الخضاب تناديني الشواطئ باكيات وفي سمع الزمان صدى انتحاب تناديني مدائنك اليتامى تناديني قراك مع القياب
وإذا كان مفهوم العودة قد امتزج بعواطف جياشة، تتراوح بين الحنين والحلم، فإن هذا الاندماج العاطفي شكل واحدة شعورية في الانتماء الوطني، ليعيد ربط المجتمع بروابط الأخوة والمحبة،وفق قاعدة عريضة تنطلق منها كافة التعبيرات الوجدانية " الوطن حضن للجميع " وهذا ما يستشعره الشاعر الفلسطيني توفيق زياد في قصيدته "جسر العودة ":
أحبائي !! برمش العين أفرش درب عودتكم، برمش العين . وأحضن جرحكم، وألُمّ شوك الدّرب، بالجفنين . وبالكفين، سأبني جسر عودتكم، على الشطّين أطحن صخرة الصّوان، بالكفين . ومن لحمي . .
ويصف الإطلاق الشعري، ويحتشد الإيقاع في تجربة الشاعر " محمود درويش" وهو شاعر يقيم حجة البيان من خلال رقة التصوير ليختصر المشهد المأساوي الأليم في ذلك التشكل الغريب (اللاجئون)، فمن عبق الجراح تنساب أصوات أحباب الشاعر لتقتحم الحصون صارخة بكل عزم : "إنا عائدون ":
أكواخ أحبابي على صدر الرمال و أنا مع الأمطار ساهر. . و أنا ابن عوليس الذي انتظر البريد من الشمال ناداه بحّار، و لكن لم يسافر. لجم المراكب، و انتحى أعلى الجبال _يا صخرة صلّى عليها والدي لتصون ثائر أنا لن أبيعك باللآلي. أنا لن أسافر. . لن أسافر. . لن أسافر! أصوات أحبابي تشق الريح، تقتحم الحصون _يا أمنا انتظري أمام الباب. . إنّا عائدون هذا زمان لا كما يتخيلون. . بمشيئة الملاّح تجري الريح . . و التيار يغلبه السفين ! ماذا طبخت لنا؟ فإنّا عائدون. نهبوا خوابي الزيت، يا أمي، و أكياس الطحين هاتي بقول الحقل! هاتي العشب! إنّا عائدون! خطوات أحبابي أنين الصخر تحت يد الحديد و أنا مع الأمطار ساهد عبثا أحدّق في البعيد سأظل فوق الصخر. . تحت الصخر. . صامد .
إن عشرات القصائد التي طالت موضوع العودة،تؤكد على حق المشردين في قرع أبواب بيوتهم ثانية، وإلقاء عصا الترحال، وإعادة ملء الجرار بالزيت والزبيب كما كان يفعل الأجداد، فكل ما في هذه الأرض السليبة من حجر أو شجر يثبت أن للأرض سكانا، وللوطن أهلا، وان ظلم القرارات لا يمثل إلا الطبيعة الاستعمارية (الشوفينية) التي تهزأ بحقوق الملايين، ولا تلتفت إلا لمنطق القوة.
وإذا كان بعض الساسة المنتفعين قد قبلوا ببعض الفتات على موائد اللئام، تحت ذريعة اختلاف الموازين، والقبول بالمستطاع؛ فإن النص الشعري المقاتل لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا يستجيب للمنطق الهزيل . فلن يسحقهم الجرح، ولن يهزمهم الظلم، فلا بكاء بعد اليوم :
على أبواب يافا يا أحبائي وفي فوضى حطام الدور . بين الردمِ والشوكِ وقفتُ وقلتُ للعينين : قفا نبكِ على أطلال من رحلوا وفاتوها تنادي من بناها الدار وتنعى من بناها الدار وأنّ القلبُ منسحقاً وقال القلب : ما فعلتْ ؟ بكِ الأيام يا دارُ ؟ وأين القاطنون هنا وهل جاءتك بعد النأي، هل جاءتك أخبارُ ؟ هنا كانوا هنا حلموا هنا رسموا مشاريع الغدِ الآتي فأين الحلم والآتي وأين همو وأين همو؟ ولم ينطق حطام الدار ولم ينطق هناك سوى غيابهمو وصمت الصَّمتِ، والهجران وكان هناك جمعُ البوم والأشباح غريب الوجه واليد واللسان وكان يحوّم في حواشيها يمدُّ أصوله فيها وكان الآمر الناهي وكان. . وكان. . وغصّ القلب بالأحزان
وإذا كانت فدوى طوقان قد شحنت طاقتها الإبداعية بحنين مفعم، وحزن سوداوي تتوارى خلفه دمعات ندية ؛ فإن "حسن البحيري "سيصرخ في كبرياء،ويهتف في إرادة :
سأرجع مهما ترامى البعيد ومهما توالت دجى الأزمن لأحمل أرضك بين الضلوع وألثم تربك بالأجفن وإن وقفت شامخات الجبال أمام رجوعي الى موطني فهمة روحي لن تنثني وهامة عزمي لن تنحني
إن الإرادة والتصميم على الثبات والرفض، تنطلق من مقومات العقيدة في شعب تعلقت روحه بقدسية فلسطيني وعرف أن التفريط فيها تفريط بهذا الدين؛ فكانت صرحة الثائرين لن نركع صرخة هوية وعقيدة وكرامة :
شموع الأرض يا جلاد لن تركع وإنْ تَفْقَأْ عيونَ الطـــفلِ أو تَقلعْ فَخُذْ ما شِئْتَ من جسدي وَكُلْ ما شِئتَ من كَبِدي ومَزِّقْ طفلَنا إن شئتَ بالمدفعْ فلن نركعْ فإنْ مَرّتْ جَحافِلُكمْ وإنْ زَخّتْ قَنابِلُكمْ وإنْ ضاقتْ زَنازِنُكمْ فلن "نَمْشي" على أربعْ ولن نركعْ فَمِنْ جرحي شموسُ يا جلادَنا تَسْطَعْ ومن أَلَمي ورودُ يا سيافَنا تطلعْ فإن تحرقْ وإن تَشنقْ وإن تَقلعْ وإن تَقطعْ فلن نركع.
شاعر وكاتب فلسطيني.
|
التعليقات (0)