Syrian Culture: Secularism In Hijab
1-
لم يفاجئ قرار إلغاء الدورة الثانية من مؤتمر "العلمانية في المشرق العربي" كثيرين على ما يبدو، بعد أن سحبت وزارة الثقافة السورية بإدارتها القديمة في اللحظات الأخيرة موافقتها الرسمية والخطية بذريعة ركيكة هي "وجود خلل في أجهزة الصوت" لدى رئاسة جامعة دمشق، قبل أن تضطر الوزارة لاحقا للإفصاح عن السبب الحقيقي –بحسب عادتها الشهيرة بالاحتفاظ بأسباب أخرى سرية لقراراتها التعسفية- وهو أن موضوع العلمانية بالذات بات من محرمات الحوارات المفتوحة على الملأ، من باب الحرص على السكون الفكري، وصفاء بال بعض أصحاب العمائم التي تطمح "لفـّاتها" إلى الازدياد يوما بعد يوم. (1)
إذن، "ميجر فيلير" في أجهزة الصوت، و"سيستم خربان"، رغم باع الوزارة الطويل في التطبيل والتزمير (2) الذي شرعنه الوزير السابق رياض نعسان آغا، لإقامة الليالي الملاح كرمى لعيون بعض محدثي النعمة في البلد، وإن على أطلال منزل رئيس وزراء سوريا الأسبق مثلا، قبل أن ينكفئ متراجعا عن قراره إثر الحملة التي شنت على ارتجاله الجديد حينها، وهو الساعي لإبراز "الأفراح" السطحية هذه، فرارا من مطارح أقل بهجة وأنسا كانت تحت إدارته، بحسب تعليق مدير آخر في وزارته وصف الساحة الثقافية المحلية بأنها "خاوية". (3)
2-
وتجد هذه الانتكاسة مؤشرا آخر لها في الرد المرير لرئيس اتحاد "بعض" الناشرين السوريين عدنان سالم (4) على منتقدي تمدد بسطات الكتب الأصولية في ما سمي معرض "ربيع الكتاب" نيسان الماضي.
فرغم كل الفصاحة اللغوية –بفتح اللام- والسجع الباهت مدحا بنفسه ومعرضه؛ لم يتجرأ سالم -وشخص آخر تحته في الاتحاد المذكور- على أن ينكر الاتهام الأساس الذي وجه له، وهو قيام جماعة "المكتب التنفيذي" في الاتحاد إياه بتشكيل كوماندوس مطاوعة محلي في أحد معارض الكتاب الرسمية في سوريا، واقتحامهم أجنحة ناشرين آخرين ليصادروا منها كتبا "لا أخلاقية" بحسب تعريفهم القاصر لـ"الأخلاق"، ومخاطبتهم إدارة المكتبة الوطنية، التابعة لوزارة الثقافة، كي تعينهم على "إماطة أذى" مخالفيهم في الرأي والاتجاه.
وهنا يجد المرء –آسفا- تقاطعات من نوع ما بين تطاولات "اتحاد الناشرين"، وإقرار وزير الثقافة السابق بأنه لا ينشر الكتب التي لا تدافع عن الإسلام ورؤيته هو للعيش المشترك، إذ يقول في إحدى مقابلاته "وقرارنا في نشر الكتب ينسجم مع هذه الرسالة، فإن جاء كتاب ضدها . لا ننشره باسمنا وإن نشر، فإننا نحاور صاحبه". (5)
ما يثير سؤالا كبيرا عن صاحب القرار في قصر استراتيجات النشر الرسمية على هذا المستوى غير المقبول من الاعتبارات.
3-
ومن "اتحاد الناشرين" إلى اجتهاد بحثي تاريخي آخر، استنبطه دون كثير عناء على ما يبدو -كحال مفارقات بعض الاكتشافات العظيمة- الشيخ البرلماني محمد حبش، والذي دعا في 17 نيسان، عيد الاستقلال الأخير إلى ضم عدد من "الصحابة" وقادة الجيوش المسلمين الذين عاشوا قبل بضعة عشر قرنا إلى قائمة أبطال "الجلاء السوري".
وإذ يستعرض حبش الاحتلالات المجوسية والنصرانية والوثنية (فرساًً، وروماً، وسواهم)، نراه يقفز على قدم واحدة في صحيفة "تشرين" الحكومية -التي ندفع من جيوبنا أجر استكتابه وغيره فيها- فوق احتلال "الخلافة" العثمانية، باعتبار أن حبش لا يجرؤ على الحديث –وإن المعتدل بحسب وصف تياره- عن الإخوة الأتراك هذه الأيام.
وذلك في انسجام "استقلالي" ملفت مع وصف السيد وزير الثقافة في مكان آخر حملات التبشير والتوسع الإسلامي ذاتها بـ"جيوش التحرير". (6)
4-
ويبدو وزير الثقافة السابق أكثر تركيزا – رغم أنه معروف بمواهبه الارتجالية المثيرة للإعجاب حقا- عندما يصل في إحدى المرات إلى مناطق معينة في حديثه، مثل "سارع مفكرونا إلى التغريب، وقدموا الحداثة لنا تقديما باهتا ورديئا"، متهما "رسل الحداثة" عندنا بأنهم نافحوا من أجل "إفهامنا أن القرآن الكريم جزء من التراث"، مستخلصا أن المطلوب منه –ودائما على لسان رواد الحداثة- هو ببساطة ... أن يلحد!
فلئن كان فهم وزير ثقافتنا للحداثة –وهو حر في رأيه- على هذا المنوال، فهل نعتب مؤخرا على الشيخ سعيد البوطي وهو يستنزل بفتوى متشنجة غضب السموات على أحد المسلسلات التي لم يشاهدها، أو وهو يطالعنا في صحيفة "الحياة" السعودية -بعد أن رفع عنها حظر وزارة الإعلام- مهاجما فكر طه حسين و"ظلاميته"؟(7)
5-
ولا يقف الهجوم الإسلاموي المحلي على تنويرية مؤلفين أو مؤلفات عند حد "المعارضة" الكلامية، أو رشق التعاويذ على العدادت الالكترونية المستوردة من الصين، بل ينطلق لاويا عنق العلم "العدو- الصديق"، لنكحل الأنظار قريبا ربما بكتاب تنظر في شأنه اليوم "الرقابة" السورية، لمؤلف سوري أيضا يتحدث وبالعلم عن "ثبات الأرض ودوران الشمس حولها". (8)
ومفحم "كوبرنيكوس" هذا، هو كابتن طيار سوري متقاعد، يقول بعضهم إن الله فتح عليه ما فتح، وألقى في روعه ما ألقى، في حين يقول آخرون إنه ليس سوى مجرد تلميذ "حفـّيظ" في أحد كتاتيب الشيخ السعودي ابن باز، الذي سبق له تكفير من يقول بدوران الأرض حول الشمس.
وكل هذا في الوقت الذي تسحب فيه وزارة الثقافة من الأسواق كتابا من نشرها تزعم أنه يهين
السوريين (9) وتلغي اشتراك "دار الجمل" وتنبش رفوف "دار الساقي" وتصادر كتابا للمفكر السوري جورج طرابيشي (10)، وهي ممارسات لا يبدو أن أحدا يشعر على الإطلاق بأي إهانة من أي نوع وهو يشهد فصولها المؤسفة، داخل بيئة سورية ثقافية باتت موئلا لتفريخ ورعاية أمثال مواهب الكابتن إياه.
على أن المثال السابق ذلك ليس حالة "بحثية-إمبريقية" معزولة على ما يبدو، إذ كان ثمة "عالم" سوري آخر رابض لنا في أحد زوايا "مركز ثقافي عربي" في قلب العاصمة دمشق.
ومن دون الدخول في سفسطة تبعية المراكز الثقافية التي بلغ عددها نصف الألف أو يكاد، يسأل المرء السيد نعسان آغا كيف عميت ألحاظ وزارته عن تلك المحاضرة التي ادعى صاحبها "الأكاديمي" الحصيف فيها أن "التمتمة"، و"الرقية"، و"تحريك اللسان" على رؤوس الفراريج قبل سلخها "يطهرها" من انفلونزا الطيور؟ لا أقل، وذلك في مثال آخر على نوع "التدجين" الثقافي الذي نجد أنفسنا على أعتابه اليوم، وبرعاية حكومية.
هل هذا هو ما يقتطع المواطن السوري من لقمته ويدفعه للوزارة -محلية كانت أم ثقافية- كي يحظى أمثال هؤلاء بمنبر وكروت دعوة وإضاءة ويافطات إعلانية و"بروجيكتور" ومدير جلسة وعدة صوت رسمية -غير معطلة كعدة رئاسة الجامعة- لتقديم عرض "بور بوينت" لمثل هذه الشعوذات المخزية؟ هل هذه هي "الخدمات الاجتماعية" للمراكز التي بشرنا بها الوزير السابق مرارا وتكرارا.
نعم، ثمة موجة جديدة – قديمة من شيوخ الحسبة تنتعش هذه الأيام في المشهد الثقافي السوري، لدرجة أن عطنها "الطاهر" طال مفتي سوريا نفسه، والذي لم ينج من محكمة تفتيشها، ولجنة الاستتابة فيها، المؤلفة من أولئك الراديكاليين الذين يحبون وصف أنفسهم بالعلماء والدكاترة. (11)
6-
وإلا كيف نفسر أن تمنع وزارة الثقافة السورية في عهد الوزير السابق عرض أحد الأفلام التي سبق لوزارة الثقافة نفسها في التسعينات بأن سمحت به؟
ليس هذا فحسب، بل أن يتطاول أحد معاوني الوزير ويهدد القيمين على الحدث الثقافي بالسجن إن هم عرضوا ذلك الفيلم. (12)
وسواء كانت حجة المنع هي وجود مشاهد عري بزعم الوزارة، ونفيها المستتر لاحقا، أو لأسباب أخرى في درج الوزير ومعاونه إياه؛ فإنهم مدينون لنا اليوم وكل يوم بتقديم المبررات التي لا تدخل في باب "التقيـّة" والتي يكسرون بموجبها موافقة نائب الرئيس نجاح العطار على الفيلم ذاته. لنتمكن على الأقل من مقارنة الرؤى الثقافية التي تسيـّر الوزارة اليوم، مع تلك التي تسيـّر الثقافة -اليوم أيضا- من منصب أرفع من ذلك المعاون وسيده.
علما أنها ليست المرة الأولى التي يتدخل فيها مقص وزارة الثقافة في فيلم سينمائي بذرائع أخلاقية موهومة. فقد بررت الوزارة لنفسها تشويه فيلم افتتاح مهرجان دمشق السينمائي 2007، بعد قرار اعتباطي مشابه في حينه، يفيد بأن المشاهد التي جرى اقتطاعها "إباحية"، مع أن الوزارة نفسها "حفيت" وقتها لجلب الفيلم الروماني المشار إليه -أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان- بعد نيله سعفة مهرجان "كان"، لتتباهى بعرضه الأول في الشرق الأوسط "القديم".
وكل هذا في الوقت الذي كان يصر فيه السيد نعسان آغا على أنه يقدر "الإبداع" حق قدره، لا بل يشكو لإحدى الجرائد الرسمية "قلـّة النوم"، كونه لا يجد وقتا كافيا لممارسة "دور المبدع" إياه. ومدشنا في الوقت عينه بمواكبة المكتب الصحفي المطبـّل المزمـّر (13) أحدث صالة عرض سينمائية في سورية.
.................................
هوامش
(1)- كان من المفترض أن يشارك في المؤتمر الذي حمل عنوان "الدولة العلمانية ومسألة الدين" مفكرون من سوريا وتونس والعراق وفلسطين وتركيا والدنمارك وإيرلندا. وحاول المؤتمر الملغى مناقشة التجربة العلمانية التركية كنموذج، و"هل الدولة الدينية مطلب شعبي، والدولة العلمانية إلزام نخبوي؟"، و"مدى قبول الشعوب والمجتمعات المسلمة للمعيش العلماني"، و"حول إمكانية قيام علمانية إسلامية".
(2)- بحسب تعليق أحد مدراء الآثار والمتاحف في الوزارة نفسها.
(3)- تعليق لأحد معاوني الوزير أمام الصحافة في افتتاح مهرجان ثقافي محلي في دمشق.
(4)- كان سالم زعم أن من لقاء صحفيا أجري معه لم يعطه الفرصة كاملة للرد، مع أن المذكور منح 20 دقيقة أصر خلالها على ترديد كليشيهات ببغائية مدائحية، وتفوهات لا تضيف شيئا للمادة الصحفية، متهربا من الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالانشقاق في الاتحاد، وتهم الترويج للكتاب الإسلامي، وتقويض العلمانية في سوريا، وعدم شرعية المكتب التنفيذي وأهليته. راجع "خلافات الناشرين السوريين"-"كلنا شركاء".
(5)-جريدة "بلدنا". فهل نعتب بعد اليوم مثلا على ممارسات أخرى من قبل شريحة معينة في البلد، نطق باسمها منذ بعض الوقت "ملاك" بعض مطابع العاصمة دمشق، الذين "عارضوا" طباعة كتيب يحوي لوحات تشكيلية للفنان السوري أسعد عرابي بذريعة تصويره رسوما عارية، تتنافى و"مكارم الأخلاق" التي نصبوا أنفسهم حماة الديار لها.
(6)- مجلة "سوريانا". وسبق لحبش أن صام عن الإدلاء بتصريحات ذات طابع سياسي، إثر فضيحة إنكاره أنه تحدث عن محطات تجسس إيرانية في سوريا. وقد واجهت قناة "العربية" السعودية في حينها شيخنا بتسجيل له، تكذيبا لحبش في نفيه أنه قال ما قال.
(7)- راجع مقال "ارتجالات مزمنة في راهن الثقافة السورية".
(8)- هذه ليست على الإطلاق دعوة لمنع الكتاب، بل من الجيد أن يرى الناس الكتاب ليلمسوا إلى أي مدى يمكن لهؤلاء القوم أن يصلوا في دعاويهم و"علومهم"، مع الدعم الحكومي لهم في بعض المفاصل.
(9)- انضم كتاب "سورية في رحلات روسية خلال القرن التاسع عشر" إلى القوائم السوداء للمؤلفات السورية الممنوعة، رغم أنه من منشورات وزارة الثقافة نفسها.
كما سبق أن منعت وزارة الإعلام السورية تداول كتاب "فلينزع الحجاب" للكاتبة الإيرانية شهداروت جافان، رغم حصوله على الموافقات الرسمية المطلوبة سوريا. وحرض وزير إعلام سابق على منع كتاب آخر من منشورات وزارة السياحة.
راجع "القاهرة تكتب، وبيروت تنشر، وبغداد تقرأ.. ودمشق تراقب"- "كلنا شركاء".
(10)- راجع "بعد دار الجمل، إدارة معرض الكتاب تلغي اشتراك دار أطلس وتفتش جناح دار الساقي"-"كلنا شركاء".
(11)- بدأت القصة إثر اجتماع مفتي سوريا إلى وفد طلاب أميريكيين بإشراف بروفيسور وحاخام يهودي أمريكي مناصر للسلام، ونسب إلى المفتي ما مفاده "لو أنّ النبي محمد أمرني بالكفر بالمسيح أو بموسى لكفرت بمحمد"، و"لو أنه –أي محمد- أمرني بالقتل بغير حقّ لقلت له أنت لست نبيا".
(12)- راجع "وزارة الثقافة تمنع عرض فيلم جديد، وتهدد مثقفين بالسجن" –"كلنا شركاء".
(13)- تصريح للمعاون السابق لوزير الإعلام. راجع "قوانين الإعلام تشبه قوانين معامل البصل والكونسروة" - "كلنا شركاء"
التعليقات (0)