يمكن القول أن تجارب الحكم في الاقطار العربية , قد جسدت معظم التيارات السياسية والفكرية المعروفة .وقد فشلت في ترجمة أفكار تلك التيارات على أرض الواقع .فلا التيار الاشتراكي تمكن من تطبيق الاشتراكية , ولا التيار القومي تمكن من تطبيق الوحدة , ولا التيار الليبرالي تمكن من تطبيق الحرية والديمقراطية .
لقد واجهت الرأسمالية الاشتراكية ,وتجسدت تلك المواجهة في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة , وانتهت المواجهة بانهيار الاتحاد السوفيتي , وزوال المنظومة الشيوعية , وقيل في حينه "أن أحسن وسيلة لانهيار النظام الاشتراكي هي الديمقراطية " حسب تعبير برجنسكي , ولكن ما حصل لم يلغي الاشتراكية , أو يثبت أن البشرية لم تعد بحاجة الى الاشتراكية أو العدالة . والذي انهار هو النظام الذي لم يستطع تطبيق الافكار الاشتراكية التي تسعد الانسان كما أن الرأسمالية لم تسعد البشرية, ولا سيما بعد الكوارث التي حصلت في الدول الرأسمالية , وبالذات في الولايات المتحدة , التي كانت تتربع على قمة اقتصادات العالم . وقد عادت الادارة الامريكية الى فرض سيطرة الدولة على المؤسسات الاقتصادية , في محاولة منها للحد من انفلات الشركات والقطاع الخاص , ومن الانهيار الاقتصادي الذي سببته المضاربات في البورصة .
ويمكن القول أن الرأسمالية ليست هي الحل لمشكلات الناس , نظرا لجشع الرأسماليين وتكالبهم على جمع الثروة على حساب غالبية أبناء المجتمع .ولا نغاير الحقيقة عندما نقول أن الثورات الاشتراكية التي حدثت في العالم من بداية القرن العشرين , لم تحقق القفزة النوعية التي كان مأمولا منها أن تحققها , رغم أنها حققت تقدما اجتماعيا لبلاد وشعوب كانت تعاني بنسب مختلفة من التخلف , ولكنها لم تحقق التغيير النوعي في الانسان , فلم يخلق الانسان الاشتراكي الجديد . ويبدو أن الفرصة قد ضاعت على هذه الثورات رغم القوة التي بلغتها بعض البلدان , لكنها كانت قوة مادية لم تصمد أمام المنافسة مع الاخرين ,ولم تصمد للزمن , لانها لم تكون الانسان, والمجتمع الاشتراكي .
وكما كان النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي يعاني من مشكلات مجتمعية , وفي مقدمتها الاقتصادية التي أثرت على مستوى معيشة الافراد , وبمعنى أدق على رفاهيتهم , فان النظام الرأسمالي يعاني من المشكلات ذاتها , وان كانت بنسب أقل حدة . ولكن الامر الاهم أن الشيوعية والماركسية أخذت تتراجع عن شعاراتها فيما يخص الدين وأهميته ودوره في المجتمع , ولا سيما موقف الاحزاب الشيوعية في بلدان أوروبا الغربية .وتبين أن الفصل بين العقيدة الدينية والعقيدة القومية , كان فصلا مفتعلا ,اقتضتها ضرورات المرحلة التي حكمت فيها الاحزاب الشيوعية عدة بلدان , وها هي الاحزاب الشيوعية تعيد النظر في مسارها الفكري , وحتى تفكر في تغيير اسمها .
شهدت بلداننا العربية اشكالا من النظم السياسية , وقد جربت معظم التيارات حظها في الحكم , ولكنها لم تتمكن من بناء نموذج متميز , يمكن أن يقتدى به , فقد فشلت التجربة الشيوعية في اليمن الجنوبي , كما فشلت تجربة الحكم الاسلامي في السودان وفي أفغانستان , كما ان تجربة الاحزاب الدينية الطائفية في العراق لم تجلب الى العراقيين غير الشقاء والفقر والقتل والتهجير , وهاهي تجربة ايران تترنح بين التيار الاصلاحي , والتيار اليميني المتشدد , كما ان الصومال يعاني من الفقر والتمزق تحت ظل حراب الجماعات الاسلامية المتطرفة .
الجماعات الاسلامية تنهض من جديد مستغلة الحراك الشبابي في عدد من الاقطار العربية , وتمني النفس بقرب استلام الحكم في مصر أو تونس أو ليبيا . وتظهر مرونة في تعاملها مع دول الغرب الاستعمارية , وحتى مع الكيان الصهيوني , ومستقبل قضية فلسطين . وقد وجد بعض الاسلاميين فرصتهم للهجوم على التيار القومي تحت ذريعة ديكتاتورية أنظمة الحكم التي تعلن شعارات قومية , وفي ضؤ هذا الواقع تبدي القوى والتيارات السياسية تخوفا من طموح الاحزاب الاسلامية تسلم الحكم في بلدان الثورات . لماذا هذا التخوف ؟ هل الخوف من اقصاء الاخرين اذا تسلمت الجماعات المتطرفة الحكم؟.
أما التيار القومي فليس أحسن حظا من التيارات الاخرى ,فقد حصل انقلاب يميني على نظام جمال عبد الناصر , ضيع دور مصر القيادي , وهدر طاقات مصر البشرية والاقتصادية , ولا أحد يراهن على مستقبل مصر القومي بعد الثورة اذا ظل المجلس العسكري يتصرف بعقلية النظام السابق ,أما تجربة البعث في العراق فقد أجهضت بمؤامرة غربية ـ صهيونية تحت ذرائع ثبت كذبها , انتهت بغزو العراق واحتلاله , وهاهو العراق يعيش تحت حكم القوى الطائفية المدعومة من ايران . أما سوريا فها هو النظام ينحر البعث في أعز مبادئه, الحرية , وكرامة الانسان .
هل انتهى التيار القومي ومعه فكره القومي التحرري الوحدوي ؟ , ربما يرى البعض أن الفكر القومي قد انتهى بأنتهاء الانظمة التي مثلته , ولكني أقول من تجارب الماضي القريب , ان الفكر القومي باقي في ضمير ووجدان الانسان العربي . ومن المستحيل أن يتخلى هذا الانسان عن طموحه في تحقيق الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية . وفي ضؤ هذه الحقيقة التي قد يقرها البعض وينكرها البعض الاخر ,ما هو المطلوب من المنتمين الى التيار القومي ؟ . أليس من الواجب أن تتم مراجعة للمسيرة الماضية ؟ أليس من الواجب تشخيص السلبيات ؟ .
ان الحقيقة الساطعة هي , أن القومية العربية التي يؤمن بها البعث , ومعظم القوميين هي الترابط العضوي بين العروبة والاسلام , رغم كل الجهد الذي بذلته القوى المعادية لدق اسفين بينهما وروج لها بعض المتشددين . هذه الحقيقة أقرها الاسلاميون المعتدلون والقوميون في أكثر من لقاء ومؤتمر خلال السنوات الماضية . والخوف آت من اصابة الاسلاميين بالغرور , كونهم يشعرون بقوتهم في الشارع , واعتقادهم أن من حقهم الانفراد بالسلطة واقصاء القوى والتيارات السياسية الاخرى .
السلطة هي سلطة الشعب , ولذلك لم يعد من المنطق أن ينفرد حزب أو تيار بالسلطة بعد هذه التجارب , وأي تفرد في السلطة سيقود الى الاحتراب والاقتتال بين أفراد الشعب الواحد . فهل تتقدم الاحزاب كلها ومن كل التيارات الى مراجعة مسيرتهم الماضية , والنظر الى المستقبل بافق ايجابي أخذين بعين الاعتبار مصالح ابناء الشعب قبل مصالح الافراد والاحزاب ؟
التعليقات (0)