أليس من المفارقة أن يُنجز التونسيون ثورة عظيمة فلا تغمرهم مشاعر فياضة من الحبور والبهجة والنخوة ولا يُترجمون ذلك في مواكب حافلة هازجة وولائم شعبية وأخرى فاخرة وسائر مظاهر الفرحة الأخرى التي يحذقون منها فنونا شتّى اعتزازا بثورتهم وتكريما لشهدائها ورموزها ووفاء للقيم التي أوقدت شرارتها ؟...
لم يتمكّن الشعب التونسي إلى اليوم،وربما لأمد قد يطول،من التمتّع بحقه في الفرحة والاحتفال بانتصاره الرّائع المُبهر يوم 14-1-2011 الذي حققه على مؤسسة حكمه الفاسدة إطاحة برموزها بأسلوب مبتكر فاجأ الكثيرين داخل الوطن وخارجه،خصوصا "المُتَفَقْهجُون" منهم،وطرح نموذجا متفرّدا مغريا بالاستلهام منه في قدرة سلاح الشباب "الناعم" على هزيمة أعتى الأجهزة الديكتاتورية...
أما لماذا لم يفرح الشعب التونسي أو لم تكن فرحته في مستوى إنجازه التاريخي،فذلك يجد تفسيره في حالة الغموض والحيرة والارتباك التي حفّت بالثورة وآل إليها الوضع في البلاد،فضلا عن تسارع التداعيات والتطوّرات وخلط الأوراق في المشهد الإقليمي العربي الذي غدا شديد الاحتقان والتعقيد مما أثار المخاوف ودفع على الريبة وحبس زغردة الفرح في الحلق...
وقفةٌ،على عجل،على عيّنات ذات دلالات من شريط كثيف الأحداث المتسارعة بتفاصيلها قد تساعد على الفهم والتبرير:
- "التشغيل باستحقاق يا عصابة السّرّاق"..."الشعب يريد"..."ديجاج/ارحل"،شعاراتٌ ذات مفعول سحري كانت كفيلة بتحرير الضّعيف المسحوق من خوفه والإطاحة بالقويّ الطاغية من علياء جبروته. تزامن ذلك مع استهداف المؤسسة الحاكمة بشنّ مقاومة شبابية شرسة ركيزتها بالأساس عالم الشبكة العنكبوتية الافتراضي مدعومة بحملة من ذات المنحى تكفّلت بها فضائيات ذات انتشار واسع في مقدّمتها قناة "الجزيرة" المثيرة للجدل والمحيِّر أمر انبعاثها وأغراضه في بيئة دخيلة عن إعلام حرّ...
- لم يكد يتشكّل مشهد سقوط مؤسسة حكم الرئيس الهارب،حتى تحرّر المعتقلون من أسوار السجون التونسية التي كانت تغصّ بهم، تزامنا مع تحرّر المهجّرين المغتربين وفي مقدّمتهم الرّموز القياديين بعودتهم،على عجل،إلى وطنهم حنينا جارفا لأحضانه بعد أن كانوا قد فرّوا منه بجلدهم ،وانخراطا في ثورته وفق أحلامهم التي تلتقي مع أحلام صانعيها،لكنّها تختلف في وصفات العلاج والاستحقاقات العاجلة ...كانت تلك لحظة تاريخية مؤثّرة بحقّ اختلطت فيها دموع الفرح بذكريات العذاب الأليم في وطن،فجأة،أصبح يتّسع لكلّ أبنائه...لكن هل يتّسع ذات الوطن الصغير المتواضع الموارد الطبيعية لكلّ حساباتهم المعلنة والخفيّة ولكلّ مشاريعهم المتنافرة ولكلّ المآرب،بما فيها الخسيسة،في ظلّ غياب قواعد "لعبة نظيفة" ينصاع لأحكامها الجميع ؟...
إذن لم يكن ممكنا أن تكتمل الفرحة لتكون بحجم الثورة النظيفة التي صنعت الحدث التاريخي،ظلت مشاعر الفرحة بالانتصار حبيسة ومؤجّلة تحت وطأة التّحسّب والخوف من انحرافات يُفرزها تضارب مصالح محترفي السياسة وسماسرتها فيما بينهم بما قد يهدّد بإلحاق الضرر بمصالح الوطن العليا،وجرّاء انقيادٍ إلى مزالق الانفلات الأمني الذي لا يستفيد منه غير مرتزقة ولصوص ومحترفي إجرام سعوا إلى التشجيع على الفوضى عسى أن تصنع منهم "وجهاء قوم" يُذعن لسطوتهم ويُستجاب لأهوائهم...
- في مشهد محيّر ومثير للدّهشة يتعفّف العدد الوافر من الشباب الذين صنعوا الثورة عن فرض إملاءاتٍ تُمكّنهم من قطف ثمار إنجازهم ،رغم أوضاعهم الصعبة الحرجة التي تضع استحقاقاتهم الضاغطة في المرتبة الأولى.لماذا ؟،لعلّه إدراك ذكائهم الغريزي زوّدهم بالصبر وبصّرهم إلى أنّه ليس ثمّة من وليمة تقيمها السّماء على نخب الثورة في وطنهم الجريح...اعتبروا أنّهم لم يُنجزوا إلا ما هو ثأر لكرامتهم المهدورة وتدليل على وطنيّتهم الصادقة تاركين أمانة تحقيق أهداف ثورتهم لمن هم أكبر منهم سنّا وأصلب عودا وأوفر خبرة وتجربة...أكثر من هذا فإنّ أفواجا من الشباب ما إن استكملوا مهامهم في إيقاد شرارة الثورة حتى انصرفوا،على عجل، إلى البحث عن لقمة عيشٍ خارج حدود الوطن قاطعين أهوال البحر في قوارب صغيرة متهالكة لم يصمد العديد منها في وجه الأنواء فغرقت بمن فيها في الأعماق. تُفصح الأرقام الرسميّة عن عدد 22 ألف من الشبان التونسيين الذين تمكّنوا خلال الأشهر الأولى من اندلاع الثورة من التسلّل إلى جزيرة "لامبادوزا" الإيطالية التي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين الستة آلاف،وتُضيف رواية أخرى غير رسمية أنّ هؤلاء الشبان اليافعين،الذين قُدّر لهم النجاة ولم يبتلعهم البحر فأرسوا على شواطئ ذات الجزيرة،كانوا مسكونين بنشوة انتصار ثورتهم إلى حدّ أنهم دخلوا الأرض الأجنبية بعقلية الثوّار هاتفين: "لاَمْبادُوزَا حرّة،حرة،والطّليانْ على برّة"،أي أنهم كانوا يدعون السكّان الأصليين للجزيرة إلى الرّحيل عنها...
- لم يكن هروب الرّئيس السابق زين العابدين بن علي المفاجئ إلى منفاه في السعودية وسقوط مؤسسة حكمه المتعفّنة بالحدث العادي أو المألوف،على الأقلّ،في العالم العربي وطيلة عقود خلت...كان حدثا مدوّيا في الدّاخل كما لدى الأشقاء وسائر دول العالم،كان رسالة مشفَّرة فكَّ طلاسمَها كلُّ معنيّ بها على هواه،إذ وجدت فيها شعوبٌ عربية مقهورة أملا لخلاصها في حين قرأها حكّامها على "أنهم ليسوا بن علي" وأنّ "بلدانهم ليست تونس"،دون أن يعني ذلك عدم التقاطهم لإشارات تحذير،تلك الإشارات كانت واضحة،لكنهم تعاملوا معها بما يَرْشح به إناؤهم السلطوي من مياه راكدة متهفّنة لم تعد قابلة للتطهير...
أما الدول المهيمنَة فكانت أكثر استعدادا للتعاطي مع رسائل الثورة التونسية،بعد ما بدا عليها-للوهلة الأولى-من ارتباك بفعل المفاجأة توقيتا لا مضمونا.سارعت إلى التشاور فيما بينها وإلى تعبئة قواها واستنفارها استشرافا للسيناريوهات المحتملة التي تمكّنها من الاستفادة من ذات الحدث الثوري تأمينا لمصالحها وتعزيزا لحضورها المؤثّر في الإقليم العربي دن غيرها...لم تُوفّق،رغم تحسُّبها وحذرها ودهائها،في التّستّر عن دورها الخفيّ الموجّه لمجريات أحداث ما سُمّي بـ"الربيع العربي"،وكان من الغباء أن يُصدّق العارفون أنّ ذات ربيعٍ يصنعه العرب لا تُداعبه بَرَكةُ يدٍ غربيّة ولا تُحلّق في سمائه طيورُ استخباراتها ونيرانُ طائراتها...
تلك،إذن،مشاهد في مسار الثورة التونسية تسهم إلى حدٍّ كبير في الإفصاح عن رسائلها والظروف التي حفّت بها :شباب ينتفض من أجل انتزاع حقّه في الكرامة فيُطيح بدكتاتورية من أعتى الدكتاتوريات العربية ثمّ تنصرف أعداد وافرة منه إلى البحث عن شغل يُؤمّن لها ذات الكرامة المفقودة داخل الوطن لينشدها مؤقّتا خارجَه حيث ينعم الغرب بالثروة والحرية...بالمقابل مساجين سياسيون يُطلق سراحهم ومهجّرُون نتيجة الاضطهاد تمكّنهم الثورة من العودة إلى حضن الوطن الدافئ،فيُشكِّل أولئك وهؤلاء مع أعداد أخرى من المقصيين والمهمّشين والمتسلّقين طليعة المؤتمنين على تحقيق أهدافها...تشتبه السبل نتيجة الانشغال بتصفية الحسابات القديمة وتواضع القدرة على تعبئة كلّ قوى البلاد للانخراط في بناء وطن الجميع لفائدة الجميع،ويزداد الوضع تعقيدا نتيجة حراك إقليمي بعضه عنيف وبعضه الآخر يُطبخ على نار هادئة متزامنا مع مراسم احتفال لافتة يبرغ الغرب المهيمِن في إخراجها في جنوب السودان الذي انفصل رسميا عن شماله دون أن تتعجّل المحكمة الدولية في ملاحقة الرّئيس طويل العمر ومديد الحكم"عمر البشير" ذاك المتّهم بشنِّ حرب إبادة جماعية،في حين أنها تتعجّل ملاحقة متّهمين مفترضين باغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق...
تحدّيات الرّاهن في تونس كما في سائر بلدان العالم العربي الأخرى تُؤجِّل الفرحة بما أنجزته باكورة الثورات.مَنْ يدري لعلّ التونسيين يكبتون فرحهم المشروع إلى حين أن يبوح المخاض العربي الجديد بكلّ أسراره ؟..لا داعي للفرح اليوم بانتصار لا يكتمل إلاّ بتحقيق أهدافه في عالم ما يزال يتربّص باغتيال أماني الشعوب التي لا تبني ذاتها من الدّاخل في تواضع وبقدر وافر من الصبر والمثابرة والتضامن.
الرّاهن يُملي التّحلي باليقظة والتعامل المتأني الرّصين والغوص في أعماق دلالة الأحداث لغاية اقتناص الفرصة التاريخية السانحة لبناء الذات العربية المهشّمة لبنةً لبنةً،دون استعجال متهوّر ولا استكانة قاتلة... لا يجب إهمال التّنبُّه إلى عملية جارية لإعادة ترتيب خريطة العالم لم تبدأ للتّوّ وأنّ المطلوب من العرب ليس السباحة ضدّ التّيار-كما كان حالهم سابقا حصادا للهزائم- بل المطلوب البرهنة عن جدارتهم بالانخراط انتزاعا لأوفر قدر من المنافع التي تضعهم على سكّة الحداثة والتقدّم دون أوهام عظمة تطوّح فيما لا يُحمَد عقباه لشعوب أثبتت أنها لا تندثر ولا تموت ولا تستسلم،رغم كلّ الهوان الذي أنهكها نتيجة خذلانها،بالأساس،من قادتها ومثقّفيها الذين فوّتوا عليها فرصا كثيرة نتيجة سوء تقدير لما تستوجبه استحقاقات كلّ مرحلة.
التعليقات (0)