.....................................
للأسف فقد انتشر في هذا العصر فئات لا تملك إلا ترديد ما يقوله الآخرون دون إعمال لعقولهم ، فتراهم يُكَفِّرون لأدنى سوء فهم أو سوء تصور ، وكما قيل الحُكم على الشيء فرع عن تصوره . وتارة يرمون بالبدعة أناساً لا ذنب لهم سوى اجتهادات صائبة مبنية على الكتاب والسنة الصحيحة . وهناك أشخاص ظهروا في هذا العصر يسمون أنفسهم بالسلفيين زاعمين أنهم سائرون وفق منهج السلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ ، وهم أبعد ما يكونون عن السلف الصالح . وبصراحة أنا لا أشك في إخلاصهم وبحثهم عن الحقيقة، ولكنهم وقعوا في كوارث كثيرة ، ومما زاد الطين بِلّة إلصاق تلك الكوارث بالسلف الصالح . ودعوى الانتماء إلى السلف الصالح دعوى عريضة يتبناها الكثيرون ، ولكن ما نصيبها من الحقيقة ؟ ، هذا هو السؤال المحوري الذي يجب أن نسأله لأنفسنا ، وكما قيل :
والدعاوى إنْ لم تُقيموا عليها بيِّناتٍ أبناؤُها أدعيــــاءُ
وفي واقع الأمر ، إن هؤلاء الأشخاص هم تَيْمِيُّون _ نسبة إلى ابن تيمية _ ، يرون السلف من منظار ابن تيمية ، فأفكارهم راجعة إلى ابن تيمية على وجه التمحيص والتدقيق وليس للسلف الصالح ، لذا فمن الخطأ تسميتهم بالسلفيين ، والصواب تسميتهم بالتّيْمِيِّين .
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وإنني أدعوهم إلى توسيع صدورهم للرأي المخالف ، وعدم التقوقع في شرنقة ابن تيمية وظله التابع ابن قيم الجوزية. فخطأ كارثي أن نلغيَ تاريخاً إسلامياً حافلاً بالعلماء سلفاً وخلفاً بجرة قلم ، ولا نعرف إلا أقوال ابن تيمية ، وكأن السلف والخلف أطفال صغار يلعبون في الشارع لا عقول لديهم ولا علم عندهم . وترى هذه الفئة ( التيميين ) في كل واد يهيمون ، يرمون الناس بالشرك تارة ، وبالبدعة تارة أخرى . وما وُجدوا في مكان إلا أثاروا الفتنة فيه ، ظناً منهم أنهم على الحق المطْلَق وغيرهم على الباطل المطْلَق ، وهذا هو الإرهاب الفكري في أبشع صوره . وبعد كل هذا يزعمون أنهم مُتّبعون للسلف الصالح. وهذا مجانب للحقيقة، فسلفنا الصالح علماء جهابذة يتبعون الكتاب والسنة الصحيحة، ويُعمِلون عقولهم في استنباط الأدلة والأحكام، يتعاملون مع الناس باحترام وتوقير، ولا ينظرون إليهم نظرة دونية . وكلُّ واحدٍ منهم _ بلا استثناء _ لسان حاله يقول : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب . وهذا هو تواضع الأئمة الأعلام البعيدين كل البعد عن التعصب والتنطع .
ولندخل إلى صلب الموضوع ، فنقول وبالله التوفيق إن التوسل لغةً معناه اتخاذ الوسيلة . يُقال ( تَوَسّل ) بكذا : اتخذه وسيلة . [انظر المعجم الوجيز ، ص 669 ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة .] أما أدلة التوسل فهي ثابتة في القرآن والسنة الصحيحة .
الأدلة من القرآن على جواز التوسل :
[1] قال اللهُ تعالى : (( يَا أَيها الذينَ آمَنُوا اتقوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )) [ المائدة : 35] .
والوسيلةُ هي القُربة. فعندما يقول شخصٌ: أتوسّل إليكَ ، فهو يعني أتقرّب إليكَ . وهي تَصْدر من الأدنى إلى الأعلى ، ومن الضعيف إلى القوي ، ومن العاجز إلى صاحب القُدرة .
وقال المناوي في فيض القدير(4/108): (( وإنما سُمِّيت وسيلة لأنها منزلة يكون الواصل إليها قريباً من الله ، فتكون كالوصلة التي يتوسل بالوصول إليها والحصول فيها إلى الزّلفى منه تعالى )) .
والآيةُ القرآنية تدعونا إلى التزام التقوى، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى، أي التقرب إليه باجتناب المحرّمات ، وفعلِ الطاعات ، والعمل بما يُرضيه _ سبحانه وتعالى _ .
قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 151 ): (( الوسيلة هي القُربة ، عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وهي فعيلة من تَوَسّلْتُ إليه أي تَقَرّبْتُ )) اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 73 ) عن معنى كلمة الوسيلة : (( قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس : أي القُربة ، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه )).
وعن حذيفة : أنه سمع قارئاً يقرأ (( يَا أَيها الذينَ آمَنُوا اتقوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )).قال: (( القُربة )) . ثم قال : (( لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد الله من أقربهم إلى الله وسيلة )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 341) . وقال الذهبي : (( على شرط البخاري ومسلم )) .] .
ويجوزُ التوسل بالشخص الصالح.ولا يَخفى أن أعظم الصالحين هو النبي صلى الله عليه وسلم . والتوسلُ بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون بالتوسل بالإيمان به وتصديقه ومحبته وتعظيمه والصلاة والسلام عليه . وهذا الأمرُ لا يَعني بحال من الأحوال عبادته ، أو اتخاذ وسائط بين العبد وربّه . فالتوسلُ له معنى مُحدّد يُوضَع في نصابه صحيح بلا تطرف .
قال ابن مفلح المقدسي في الفروع ( 2/ 127 ) : (( ويجوز التوسل بصالح ، وقيل يستحب . قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ، وجزم به في المستوعب وغيره، وجعلها شيخنا كمسألة اليمين به. قال : والتوسل بالإيمان به ، وطاعته ، ومحبته ، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وبدعائه ، وشفاعته ، ونحوه مما هو من فعله ، وأفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع ، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى : (( اتقوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )) )) اهـ .
قلتُ: يتضح لنا من النصوص السابقة أن معنى الوسيلة هي القُربة. أي إننا نتقرب إلى الله تعالى بعبادتنا وطاعتنا . وقد يَسأل أحدهم : وما علاقة هذا بالتوسل ؟!. فنقول له : دعنا نسألك أيهما أعظم صلاتك وعبادتك أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟.فإن قال: صلاتي أعظم، فقد كفر إجماعاً وخرج من الإسلام. وإن قال النبي صلى الله عليه وسلم ، قلنا له : صدقتَ، وبما أنك تتوسل بالقُربة ( الطاعة والعمل الصالح) وهي مفضول ، فكيف تمنع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الفاضل الذي أرشدكَ إلى الصالحات ؟! .
ولنتأمل قول ابن مفلح المقدسي وهو من أئمة الحنابلة الذين ينتسب إليهم من يسمون أنفسهم بالسلفيين. فهو يقول إنه يجوز التوسل بصالح. ونحن نقول: فكيف بسيد الأنبياء والصالحين صلى الله عليه وسلم ؟! . كما أنه نقل أنه يُستحب التوسل. وأرجو أن تتأمل كلام الإمام أحمد، فهو غاية في الأهمية والروعة. إذ إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ، وهذا أمر مجزوم به كما يتضح من سياق الكلام . فعلى الذين يرمون المتوسلين بالنبي صلى الله عليه وسلم بالشرك أن يرموا الإمام أحمد وباقي الأئمة بالشِّرك قبل أن يُعَمِّموا هذيانهم على باقي المسلمين ! .
[2] قال اللهُ تعالى : (( أُولَئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الوَسِيلَةَ أَيهم أَقْرَبُ )) [الإسراء: 57] .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 2321) : عن عبد الله بن مسعود قال : (( نَزلت في نفر من العرب، كانوا يَعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجنيون ، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يَشعرون )) .
واللهُ تعالى يُخبِر أن المعبودِين يَبتغون القُربةَ إلى ربِّهم ، فهُم مؤمنون حريصون على التقرب إلى الله تعالى باجتناب المعاصي ، وفعلِ الطاعات .
قال الطبري في تفسيره ( 8/ 95 ) : (( يبتغي المدعوون أرباباً إلى ربهم القُربة والزلفة لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله )) اهـ .
وقد وضحنا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الأعمال الصالحة ، وبما أننا نتوسل إلى الله تعالى بعبادتنا وهي المفضول ، فكيف لا نتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الفاضل ؟! .
[3] قال الله تعالى : (( وَلَوْ أَنهم إِذ ظَلموا أَنفُسَهم جاؤوك فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَواباً رحيماً )) [ النساء : 64] .
قد عَلّق اللهُ تعالى قبولَ استغفارهم باستغفاره عليه الصلاة والسلام . وذلك صريح في الدلالة على جواز التوسل به كما يُفهم من قوله تعالى : (( لَوَجَدُوا اللهَ تَواباً رحيماً )) .
والآية واضحة وقاطعة في طلب المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ إن ( جاؤوك ) واقعة في حيز الشرط مما يدل على العموم . قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 1/ 175 ): (( قال إمام الحرمين الجويني وابن القشيري إن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط والنكرة في النفي )) اهـ .
وتخصيص الآية بحاجة إلى دليل ولا دليل . قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/ 201 ) : (( واللفظ عام في صيغته فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم ، لكن يكفي في التخصيص أدنى دليل ، لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حُجّة )) اهـ .
وقد اعترض ابن عثيمين على الاستدلال بالآية، فقال في كتابه فتاوي مهمة لعموم الأمة ( 1 / 101و102): (( ( إذ ) هذه ظرف لما مضى وليست ظرفاً للمستقبل. لم يقل الله : ولو أنهم إذا ظلموا ، بل قال: إذ ظلموا. فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ))اهـ .
وهذا الكلام مردود ويحتوي على أخطاء لغوية واضحة ، ومثل هذا الكلام يدل على عدم إلمام بقواعد اللغة العربية ودلالات الألفاظ ومستلزماتها. وإليك تفنيده بالآتي : إن ( إذ ) تُستعمل في الماضي كما تُستعمل في المستقبل أيضاً. والأدلة على استعمالها في المستقبل كثيرة ، منها قوله تعالى : (( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبهم )) [ الأنعام : 30] ، وقوله تعالى : (( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا )) [ سبأ: 51] .
[4] إن المراد من التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين والطلب منهم هو استشفاعهم ، وقد أخبر اللهُ تعالى أنهم يملكون الشفاعة بقوله تعالى : (( وَلا يَمْلِكُ الذينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَق وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) [الزخرف: 86] .
ومن المعلوم أن شهادة الحق هي كلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " . فما المانع من طلب شيء مما مَلَكوه بإذنه تعالى ؟! . فيجوز أن تطلب منهم أن يعطوك مما أعطاهم اللهُ تعالى ، أما الممنوع هو طلب الشفاعة من الأصنام التي لا تملك من أمرها شيئاً . وليكن معلوماً أننا لا نطلب من غير اللهِ ما لا يقدر عليه إلا الله.كما أنه من القواعد الأساسية في الإسلام أن الفاعل الحقيقي الوحيد في الكون هو الله تعالى وَحْدَه ، وهو المعطِي المانع . ولا يوجد شيء استقلالي خارج عن مشيئته ، وهذا لا ينفي وجود أسباب ومسبِّبات لها دور في تحريك الكون خاضع لإرادة الله تعالى .
الأدلة من السنة :
[1] في الحديث الصحيح عن عثمان بن حنيف : أن رَجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ادْعُ اللهَ أن يُعافني، فقال: (( إن شئتَ أَخّرْتَ ذلك وهو خير وإن شئتَ دعوتُ ))، قال : فادعه، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن ركعتين ويدعوَ بهذا الدعاء فيقول: (( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بِنبيكَ محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهتُ بِكَ إلى رَبي في حاجتي هذه فتقضى لي ، اللهم شَفّعْه فِيّ ، وشَفّعْني فيه ))
[رواه الحاكم في مستدركه ( 1/ 458 ) برقم ( 1180 ) وصحّحه ، والترمذي ( 5/ 569 ) برقم ( 3578) وصححه].
فهذا الحديث الشريف واضح في جواز التوسل ، ولو كان شِرْكاً كما يزعم البعض لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ الضرير بفعله . وهو حديثٌ ذو دلالة عامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مَوْته .
ومن الجدير بالذِّكر أنه ينبغي التروي والتثبت في إطلاق الأحكام ، خصوصاً الأحكام المتعلقة بالكفر أو الشِّرك ، لأن هذه الأحكام يترتب عليها مسائل غاية في الخطورة ، فالشِّرك نوعان : مُخرِج من المِلة، وغير مخرج من الملة . وإذا تورّط المرء بالشِّرك المخرج من الملة ينبغي نصحه إن كان جاهلاً ، أو استتابته إن كان عالِماً بما يقول ، فإن أبى فالقتل . ولا يجوز إطلاق لفظة الشرك على أمور خلافية، لأن مسألة بهذا الحجم تحتاج إلى دليل ثابت قطعي الورود والدلالة في آنٍ معاً .
وقد يعتقد البعض أنه لا حق للخلق على الخالق ، فكيف نقول " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد " . وهذه المسألة فيها تفصيل دقيق ، (( قوله لأنه لا حق للخلق على الخالق ، قد يقال إنه لا حق لهم وجوباً على الله تعالى، لكن الله _سبحانه وتعالى_ جعل لهم حقاً من فضله ، أو يراد بالحق الحرمة والعظمة ، فيكون من باب الوسيلة . وقد قال تعالى : ]وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [ [ المائدة : 35] ... ذكر العلامة المناوي في حديث : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ، عن العز بن عبد السلام أنه ينبغي كونه مقصوراً على النبي، وأن لا يُقسَم على الله بغيره ، وأن يكون من خصائصه . قال : وقال السبكي : يحسن التوسل بالنبي إلى ربه ، ولم ينكره أحد من السلف ولا الخلف ، إلا ابن تيمية فابتدع ما لم يقله عالِم قبله )) [حاشية ابن عابدين ( 6/ 397 ) .] .
قال الحصني في دفع شُبَه من شبّه وتمرد ( 1/79 ): (( فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والاستجابة ، وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي، وليس فيه التقييد بزمن حياته ، ولا أنه خاص بذلك الرّجل ، بل إطلاقه . يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رؤوف رحيم، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم. ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهموا التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف _رضي الله عنه _ )) اهـ .
والتوسل مستمر بعد وفاته ، بدليل أن راوي الحديث الصحابي الجليل عثمان بن حنيف قام بتعميمه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما هو مقرّر فإن فهم الراوي ( تفسيره ) مقدّم إلا إذا ظَهرت قرينة معارِضة ولا قرينة معارِضة في هذا الحديث .
وقد روى الطبراني في الكبير ( 9/ 30 ) : عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن عمه عثمان ابن حنيف : أن رَجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان _ رضي الله عنه_ في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه ، فقال له عثمان ابن حنيف : ائت الميضأة فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين ، ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك . ورح حتى أروح معك ، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثم أتى باب عثمان بن عفان _ رضي الله عنه_ ، فجاء البواب حتى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان _رضي الله عنه_ فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : حاجتك فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها .
[قال المنذري في الترغيب والترهيب ( 1/ 273 ) : (( قال الطبراني بعد ذكر طُرقه : والحديث صحيح )) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 2/ 565) : (( روى الترمذي وابنُ ماجة طرفاً من آخره خالياً عن القصة ، وقد قال الطبراني عقبه : والحديث صحيح بعد ذكر طرقه التي رُوي بها )) اهـ . قلتُ : وقد فهم الصحابي الجليل عثمان بن حنيف _ رضي الله عنه _ التوسل في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. وتفسيره مُقدّم وقوي الحجّة. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (10/158) : (( ومذهب الشافعي ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مُقدّم إذا لم يخالف الظاهر )) اهـ . وقال الحافظ في الفتح ( 1/ 159 ) : (( واستنبط ابن المنير... أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره )). وقال النووي في المجموع ( 1/ 491 ) : (( ولأن تفسير الراوي إذا لم يخالف الظاهر يجب قبوله على المذهب الصحيح لأهل الأصول )) اهـ . وقال الآمدي في الإحكام ( 4/ 277 ) في حال اقتران الخبر بتفسير الراوي : ((تفسير الراوي بفعله أو قوله فإنه يكون مُرَجِّحاً على ما ليس كذلك ، لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه )) اهـ . ].
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 10/ 25) : (( وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله إلى الله _ عز وجل _، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله _ سبحانه وتعالى _ ، وأنه المعطي المانع ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . اهـ . وقال فيها في شرح قول صاحب العمدة : ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين ...ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن حنيف_رضي الله عنه _ أن أعمى أتى النبي فذكر الحديث ، ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس _ رضي الله عنه _ عم رسول الله )) اهـ .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 1/ 221 ) : (( فيحمل قول القائل " أسألك بنبيك محمد" على أنه أراد إني أسألك بإيماني به وبمحبته وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك ، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع ، قيل من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسّل بالنبي بعد مماته من السلف كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسناً ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكن كثيراً من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولا يريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر . وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع )) اهـ .
قلتُ : على ابن تيمية أن يكون أكثر دقةً ، فقوله : (( ولكن كثيراً من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولا يريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر )) فيه حُكم على النوايا ، وهذا غير مقبول ، لأن أحكام الشرع تُجرَى على الظاهر ، وحساب السرائر عند الله تعالى . وما أدراك أنهم لا يريدون هذا المعنى على فرض التسليم بكلامك ؟! . (( أفلا شَقَقْتَ عن قلبه )) [رواه مسلم ( 1/ 96 ) . وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 107 ) : ((فيه دليل للقاعدة المعروفة فى الفقه والاصول أن الاحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر ))اهـ. وقال الحافظ في الفتح ( 12/ 273 ) : ((وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر )) اهـ . ] .
كما أن ابن تيمية اخترع بدعة التفريق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل بالإيمان به . وهذه البدعة لا معنى لها . فنحن لا نؤمن بمحمد بن عبد الله لأنه محمد بن عبد الله ، فهناك الكثير من الكفار يَحملون اسم محمد بن عبد الله، أو محمد عبد الله ، في كل زمان ومكان . وإنما نؤمن به لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالتوسل في واقع الأمر توسل بالأعمال الصالحة ، إذ لا يكون الصالح صالحاً إلا بأعماله ، فلا معنى لفصل الذات عن الأعمال . وحتى على فرض أن المعنى لم يكن حاضراً في قلب الإنسان ساعة التوسل ، فهو كامنٌ في عقيدته : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فلا معنى لبدعة التفريق بين ذات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرة ، والإيمان به .
وقد قال الله تعالى : ] واتقوا اللهَ الذي تساءلون به والأرحامَ [[ النساء: 1] .
هذا أمرٌ إلهي بتقوى الله الذي تعاقدون وتعاهدون به ، وتتساءلون فيما بينكم حوائجكم به ، تقولون : أسألكَ بالله ، وأنشدكَ اللهَ . ] والأرحام [ أي : واتّقوا الأرحامَ أن تقطعوها .
قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 596 ) : (( أي واتقوا الله بطاعتكم إياه . قال إبراهيم ومجاهد والحسن : الذي تساءلون به ، أي كما يقال أسألك بالله وبالرّحم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد . وقرأ بعضهم : والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره )) اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره ( 5/ 5) : (( سألتك بالله والرحم . هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد ، وهو الصحيح )) اهـ .
عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أنشدكَ الله والرحم . [ رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 428 ) برقم ( 3488 ) وصححه ، ووافقه الذهبي.] .
قلتُ : وعبارة " أنشدك الله والرّحم " توسّل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحق الرّحم . وهي عبارةٌ شرعية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر على أبي سفيان. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر الباطل، ولا يسكت عليه. فسكوتُ النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم إنكاره هو تشريع يُعتمَد على أنه جواز.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 5): (( وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام )) اهـ . وقال الحافظ في الفتح ( 2/ 443 ) : (( لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره ، إذ لا يقر على باطل )) اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره ( 5/ 5) : (( قال القشيري : النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرّحم ، فلا نهي فيه ... وقد قيل هذا إقسام بالرّحم أي اتقوا الله ، وحق الرحم كما تقول افعل كذا وحق أبيك ، وقد جاء في التنزيل : والنجم ، والطور، والتين ، لعمرك. وهذا تكلف . قلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون والأرحام من هذا القبيل فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وَحدانيته وقدرته تأكيداً لها حتى قرنها بِنَفْسه والله أعلم )) اهـ .
قلتُ : لنا وقفة مع هذا الكلام . فالله تعالى أقسم في القرآن الكريم بالشمس فقال تعالى : ] والشَّمسِ وضحاها [ [ الشمس: 1] . فهل يجوز للمسلم أن يقول لشخص ما : أسألك بالشمسِ أن تساعدني ، أو ما شابه هذه العبارة ؟ . الجواب : بالقطع لا يجوز لأن هذا حَلف بغير الله تعالى مع أن الله تعالى أقسم بالشمس في القرآن . فاللهُ يُقسِم بما شاء ، ولا يحق للمسلم أن يفعل ذلك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَن حَلفَ بغير الله فقد كَفر )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 65 ) برقم ( 45 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 531 ) : (( والتعبير بقوله فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك ، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك ... قال العلماء : السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده . _ أما اليمين بغير الله تعالى _ فقد ثبت المنع فيها. وهل المنع للتحريم ؟ . قولان عند المالكية ، كذا قال ابن دقيق العيد ، والمشهور عندهم الكراهة . والخلاف أيضاً عند الحنابلة ، لكن المشهور عندهم التحريم ، وبه جزم الظاهرية . وقال ابن عبد البَر : لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه ، فإنه قال في موضع آخر : أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها ، لا يجوز لأحد الحلف بها . والخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي : أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية فأَشعر بالتردد ، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه . وقال إمام الحرمين : المذهب القطع بالكراهة ، وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حُرِّم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافراً ، وعليه يتنزل الحديث المذكور ، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يَكْفر بذلك )) اهـ .]
أمّا أبو سفيان فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم بالله والرّحم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فصار ذلك تشريعاً بالجواز. وهذه العبارة صالحة للاستخدام في كلام البشر . وهذا ينقل المعنى من الحلف إلى معنى آخر مقبول ، وهو أن عبارة " أسألك بالرّحم " أو " بحق الرّحم " تحوي باء السبب ، فيكون معنى العبارة، أسألك بسبب الرّحم الذي بيننا أو بسبب حق الرّحم الواجب عليك أن تفعل كذا وكذا. وهذا المعنى المقبول ، والله أعلم . ووفق هذا المعنى لو قال شخص : أنشد الله ومحمداً ، أو أسألك بالله ومحمد ، فيظهر لي أن هذا جائز، لأن محمداً أعظم من الرّحم، كما أنه في الحالتين لا يوجد حَلف، فيكون المعنى هو التوسل إلى الغير بحق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حق الإيمان بالله وطاعته، وحقه على الناس، ووجوب تعظيمه مِن قِبَلهم ، وأنه سبب إلى الهداية الإلهية ، قادنا إلى الخير ... إلخ هذه المعاني الطاهرة .
ووفق هذا المعنى الدقيق يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ... )) ، أي اللهم إني أسألك بإيماني بهذا النبي العظيم ، وبسبب أنك هَدَيْتنا به إلى طريق الحق ... . مع الانتباه إلى أنه لا تفريق مُطْلقاً بين ذات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم اكتسب منزلته الرفيعة من كَوْنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب مخلوقاته إليه _سبحانه _ ، وهذا المعنى هو الراسخ في النفوس حال التوسل أو الاستغاثة. والتفريقُ بين ذات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به بدعةٌ اخترعها ابن تيمية من بنات أفكاره بلا دليل مُعتبَر . أضف إلى هذا أدلة من اعتبر التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كاليمين به .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 1/ 264 ) : (( جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر، فجس بطنه ، فقال : بك داء لا يبرأ ، قال : ما هو ، قال : الدبيلة. قال فتحول الرّجل فقال: الله الله الله ربي لا أشرك به شيئاً ، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، تسليماً يا محمد ، إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي . قال: فجس بطنه، فقال : قد برئت ، ما بك علة . قلتُ _ أي ابن تيمية _ : فهذا الدعاء ونحوه قد رُوي أنه دعا به السلف ، ونقل عن أحمد بن حنبل فى منسك المروذي التوسل بالنبي في الدعاء ، ونها عنه آخرون . فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته . فهو محل النزاع ، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول، وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ فى الشريعة ، فإن كثيراً من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ، ويحصل ما يحصل من غرضهم . وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو باتفاق المسلمين ، ويحصل ما يحصل من غرضهم، فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته وإن كان الغرض مباحاً)) اهـ.
قلتُ : هذا الكلام لنا معه وقفات :
أ) قوله " ونها عنه آخرون " . هلا قال لنا ابن تيمية من هؤلاء الآخرون الذين نهوا عنه ؟، فالتوسل ثابتٌ لم ينه عنه سوى ابن تيمية نفسه الذي ابتدع بدعة سيئة بمنعه التوسل، وخالف إمام مذهبه ، وكل العلماء المعتبَرين ، من أجل هواجس وخيالات وشكوك مَرَضية تدور في رأسه حول مفهومه المتطرف للشِّرك .
ب) هلا قال لنا ابن تيمية من هم العلماء في تاريخ الإسلام الذين فرّقوا بين ذات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به ومحبته وتقديره ، فكل المسلمين على مدار التاريخ يُعظِّمون محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله ، وأعظم مخلوقاته. وينظرون إليه بلا تفريق بين ذاته وأعماله، أو بين ذاته والإيمان به . وبدعة التفريق اخترعها ابن تيمية ليتوصل إلى ما يريد إثباته من خياله المريض ، وهذه المسألة ليست محل نزاع كما زعم ابن تيمية ، لأن المسائل في محل النزاع تكون بين وجوه متعددة بين أهل العِلم ، وهذه المسألة متفق عليه شذّ عنها ابن تيمية وأتباعه فيما بعد، فلا عبرة بهذا الشذوذ الراجع إلى الهوى لا الدليل.
ج) أما ما قاله ابن تيمية من أن الكثيرين يدعون الكواكب والأوثان وتماثيل الكنائس ... إلخ ، فنقول إن القياس مع الفارق باطل . وهل تريد أن تساوي بين سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم الذي ورد التوسل والاستغاثة به في أدلة شرعية صحيحة ساطعة مع الأوثان والكواكب التي من يدعوها يخرج من الملة قَوْلاً واحداً ؟! . كما أن التوسل والاستغاثة بالمخلوقات ليست دعاءً لهم ، لأن الدعاء لله تعالى وحده .
د) إن ابن تيمية يجهل تماماً القاعدة التي تقول إن التّرك ليس من دلائل التحريم ، ولا حتى من دلائل الكراهة . فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ أمرٍ ما ، أو ترك صحابته _ رضوان الله عليهم_ فعلَ شيء ما ، فهذا ليس دليلاً على تحريم ذلك الأمر أو كراهته ، لأن الأحكام الشرعية بما فيها الحرمة والكراهية تثبت بالنصوص الشرعية ، وليس بالتّرك .
[2] وفي صحيح البخاري ( 5/ 2228) ، وصحيح مسلم ( 4/ 2099 ) عن ابن عمر _ رضي الله عنهما_ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر ، فمالوا إلى غار في الجبل ، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل ، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يُفرّجها ... )) .
وهذا يشيرُ إلى استحباب التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة ، والتوجه إليه _ سبحانه _ بِذِكر الطاعات ، والدعاء بها. فهؤلاء النفرُ قد توسّلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة فاستجيب لهم ، وقد ذَكَرهم النبي صلى الله عليه وسلم في موضع المدح والإشادة .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 17/ 56 ) : (( استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به ، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم ، وذَكَره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم ، وجميل فضائلهم )) اهـ .
قلتُ: ولو كان التوسل بغير الله تعالى شِرْكاً لكان هؤلاء القوم مشركين لأنهم توسّلوا بأعمالهم الصالحة، أي توسّلوا بغير الله تعالى، وهذا باطل نَقْلاً وعقلاً. ونحن في هذا المقام نسأل أيهما أعظم : أعمال الإنسان الصالحة أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟! ، وبالقطع فالإجابة هي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قال غير هذا كفر . وبما أن التوسل جائز بالأعمال الصالحة ، وهي المفضول، فمن باب أولى أن يكون التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائزاً وهو الفاضل .
وفي الغنية عن الكلام وأهله ( 1/ 9) : (( كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز ، أو كان شِرْكاً ، كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ، ومن قال بقوله من أتباعه، لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم )) اهـ .
[3] وفي صحيح البخاري ( 1/ 342 ) : عن أنس _ رضي الله عنه _: أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه_ كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : (( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم رآه فاسقنا )) . قال : فيُسْقَوْن .
قلتُ : وفيه جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل .
لكن هذا الكلام لم يعجب ابن تيمية المسترسل في تدعيم بدعته المانعة للتوسل، فقال في مجموع الفتاوى ( 1/ 319 ): (( وقد قال عمر : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم رآه فاسقنا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه )) اهـ .
قلتُ : هذا الكلام يُرد عليه من ناحيتين .
الأُولى: أن الصحابة_رضوان الله عليهم_ لم يجعلوا التوسل بالعباس بدلاً عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فالنبي حَي يُرزَق يَسمع ويَرى ، وسوف نثبت هذا الكلام لاحقاً .
والثانية : أنه لم يتعذر أن يتوسلوا به بعد موته . كل ما في الأمر أن الأمر دليل على التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل . ولو كان ابن تيمية ضليعاً في علم أصول الفقه لما قال ما قال. إذ إنه مقرر في الأصول أن فعل الشيء لا يعني منع ما عداه . بمعنى آخر أن التوسل بالعباس _ رضي الله عنه _ لا يعني منع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفي كتاب دفع شُبَه من شبّه وتمرد ( 1/ 65 ) : (( فإن عمر _رضي الله عنه_ إنما قصد أن يقدم العباس ، ويباشر الدعاء بِنَفْسه ، وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي ، أي الحياة الدنيوية ، وأما التوسل برسول الله فلا نُسلِّم أن عمر _ رضي الله عنه_ تركه بعد موته. وتقديم العباس ليدعوَ للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك )) اهـ .
أقوال العلماء في تجويز التوسل :
[1] قال المرداوي في الإنصاف( 2/ 456 ) : (( يجوز التوسل بالرجل الصالح على الصحيح من المذهب وقيل يُستحب )) اهـ . قلتُ : فما بالك بسيد الصالحين ؟!.
[2] قال الطحاوي الحنفي في حاشيته على مراقي الفلاح (2/547 ): (( ذكر بعض العارفين أن الأدب في التوسل أن يتوسل بالصاحبين ( أبو بكر وعمر ) إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ثم به إلى حضرة الحق جَل جلاله وتعاظمت أسماؤه فإن مراعاة لواسطة عليها مدار قضاء الحاجات )) .
[3] قال الإمام الشافعي وهو يتوسل بآل البيت _ عليهم الصلاة والسلام_ ويعقد عليهم رجاءه :
آلُ النبي ذريعـــتي وهمو إليه وسيلــتي
أرجو بهم أُعطى غـداً بيدي اليمين صحيفتي
والذريعة : مفرد ذرائع ، يُقال : هو ذريعتي إلى فلان : أي هو وسيلتي. ويُقال: تذرع بذريعة : أي توسل بوسيلة [انظر ديوان الإمام الشافعي ، ص 50 ، دار الأرقم .]. فهل هذا شِرْك من الإمام الشافعي أم هو عين التوحيد الخالص المبني على الكتاب والسنة الصحيحة ؟ .
[4] قال الإمام النووي في المجموع ( 8/ 202و203 ) : (( ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتوسل به في حق نَفْسه، ويستشفع به إلى رَبّه _ سبحانه وتعالى _ . ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له . قال : كنتُ جالسـاً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعتُ الله يقول : ] وَلَوْ أَنهم إِذ ظَلموا أَنفُسَهم جاؤوك فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَواباً رحيماً [ [ النساء : 64]. وقد جئتك مستغفراً مِن ذَنْبي مستشفعاً بِكَ إلى رَبِّي ، ثم أنشأ يقول :
يا خير مَن دُفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنـه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف فحملتني عيناي فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : يا عتبي الحق الأعرابي فَبَشّرْه بأن اللهَ تعالى قَد غَفَرَ له )) اهـ .
قلتُ : وبالطبع فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالرؤى لاحتمال اشتباه الكلام على الرائي ، لكن العِبرة بأنهم يَرْوون هذا الكلام مستحسنين له ، موافقين عليه .
https://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)