التوراة خاطبت الناس بما يفهمون
דיברה תורה בלשון בני אדם
ان احدى القواعد الهامة في الديانة اليهودية مفادها ان التوراة خاطبت الناس بما يفهمون وعلى قدر عقولهم وبما يسيغه وعيهم وادراكهم ووفق تنوع السنتهم ولغاتهم وما هو مألوف ومتعارف عليه في محيطهم. وتحمل هذه القاعدة بين دفاتها اجوبة لتساؤلات واشكاليات وقضايا فقهية وعبارات توراتية قد تبدو للوهلة الاولى مخالفة للمنطق والمستساغ والمألوف. ونلج الى المثال الاول حتى لا نطيل في الكلام المبهم فنقع ضحايا لما ننبه اليه :
في سفر التكوين وهو السفر الاول من اسفار التوراة , الاصحاح الثاني , يحذر الله آدم من اكل ثمار شجرة المعرفة فان فعل سيعاقب بالموت! لاول وهلة تتجلى امام ناظري القارئ معضلة ليست بالبسيطة علما ان آدم خالف الامر الرباني ولم ينفذ بحقه حكم الاعدام! فهل يعقل ان يقول الرب شيئا ويفعل شيئا آخرا؟ ان الجاهل بخفايا التوراة واللغة العبرية والظروف التي احاطت بنشأة الديانة اليهودية سيسارع الى القول بان اله العبرانيين يكذب! او ان التوراة محرفة! فلا يعقل ان يقول الرب ما لا يفعل او ان يفعل غير ما يقول!
كل هذه تساؤلات مشروعة ومنطقية لكن الاجابة عليها والفكاك من هذا التناقض الظاهري يحتم على القارئ معرفة اولية ببعض الحقائق والقواعد اللغوية وبالاسلوب التوراتي المتبع في مخاطبة الناس. فلننظر اذاً مرة اخرى الى صيغة الآية التوراتية (يوم تأكل منها موتا تموت)..ولنتدبر بعض المظاهر اللغوية التي تختص بحال ذلك الزمان.. فهل معنى (يوم) وقت نزول هذه الآية يطابق معنى (يوم) في ايامنا؟ الاجابة واضحة للمطلع والعارف بالامور. ربما ليس المراد هنا هو المعنى الزمني لكلمة يوم وقد لا تكون الجملة شرطية كما يتبادر الى ذهن القارئ في ايامنا. بل ربما المراد هنا ان تنوع السنة الناس المتلقين للغة السماء يجعل مقاصد لغة السماء اكثر تنوعا واتساعا ومرونة. وهنا يبرز احد المعاني من القاعدة المذكورة وهي ان التوراة تخاطب الناس بما يفهمون. وجدير هنا ان نذكر ان الترجمة الحرفية لهذه القاعدة من اللغة العبرية الى اللغة العربية هي كالتالي : (تكلمت التوراة بلسان بني البشر). وحتى لا نقع بذات المصيدة ونحن الذين نتكلم اللغة العبرية كلغة اولى هرعنا الى العم (غوغل) طالبين النجدة.. فلم نجد هذه الصيغة الحرفية في الادبيات العربية بل وجدنا صيغة اخرى تتكرر، وهي تلك هي التي عنونا بها مقالنا. بل استعنا ايضا بالمقالة الاخيرة للسيد عزام وعنوانها (ثقافتنا ... وثقافتهم ..).. علما اننا كان لنا نقاش مع الاستاذ عزام في ذات المسألة بالامس فعمدنا الى شد الرحال الى مضاربه لاستعارة بعض التعابير اللغوية باللغة العربية.. ربما سيقرأ الاستاذ عزام هذه العبارات فيقول ان هؤلاء اليهود لا يؤتمن لهم جانب.. نوجه لهم سؤالا فيبحثون عن الاجابة عندنا!! نقول للسيد عزام - والهرج للجميع - اننا في الحقيقة لسنا فطاحل في اللغة العربية وقد يلاحظ القارئ العربي بعض مظاهر القص واللصق بمعنى استعارة المفردات والاصطلاحات باللغة العربية.. انها القاعدة التي ذكرناها : لقد خاطبت التوراة الناس بما يفهمون .. فلو خاطبنا القارئ العربي بمفردات مستوحاة من خالص ثقافتنا العبرية لما ادرك معناها ومقاصدها وبالتالي لن نحقق الهدف من رسالتنا..
وعودة الى موضوع الامر الالهي بتجنب الاكل من شجرة المعرفة .. يقول قائل من علماءنا بان التوراة اشارت منذ البداية الى مسألة الرعاية الالهية .. השגחה עליונה او השגחה אלוהית .. وهي امر جوهري في العقيدة اليهودية ارادت التوراة ان تبرزه منذ البداية اي من بداية الحديث عن الخلق.. فالامر الالهي بمعاقبة آدم يمكن فهمه باعتباره ارشادا وهداية ورعاية الى جانب معناه الحرفي وهو ان آدم سيكون مآله الى الزوال والفناء لو خالف الامر الالهي.. وثمة تفسير ثالث لنفس الآية مفاده ان مفهوم (الموت) الذي يستشف من الآية لا يحمل بالضرورة المعنى المادي بفناء الجسد بل قد يحمل رسالة الى آدم بانه قد يواجه ظروفا (مميتة) لو اكل من الشجرة المحرمة.. وهنا لا بد من القول بان الظروف التي كانت تحيط بشعب اسرائيل لدى تلقيه ديانة التوحيد كانت مغرقة بالوثنية، من هنا فان العملية الجدلية بين رسالة التوحيد والديانات الوثنية قد تحتم احيانا الانصياع لمفردات وثنية بمعنى ان التوراة تخلق جدلا مبطنا مع المعتقدات الوثنية مستخدمة المفردات والتعابير الوثنية ذاتها! وفقا للقاعدة التوراتية المذكورة وهي مخاطبة الناس على قدر عقولهم.. حيث الرب الوثني هو رب نزواتي يغير رأيه ويغضب ويزمجر ويندم الخ.. لكن استخدام مثل هذه العبارات خلال العملية الجدلية بين دين التوحيد والديانات الوثنية لا يعني ان هذه هي صفات الخالق في ديانة التوحيد.. وللمقارنة قمنا بنبش كتب التفاسير في الاسلام فوجدنا ان الله لا يستحي احيانا ان يضرب مثلا ما بعوضة لتوضيح فكرة معينة لمن اعتبروا وقتها كافرين او وثنيين او مشركين.. اذاً التعبير التوراتي الذي يصف تجليات الرعاية الالهية قد يأخذ شكلا مغايرا - شكلا وليس مضمونا - بين حقبة زمنية واخرى مع الاخذ بالحسبان ان اللغة تتطور بشكل دؤوب ومن جيل الى جيل وتكتسب في كل مرحلة مفردات جديدة، وعليه قد تكون معاني بعض العبارات التوراتية غير واضحة تماما للاجيال اليهودية اللاحقة وهنا تكمن اهمية قاعدتنا مدار البحث بابقاء باب الاجتهاد مفتوحا ومخاطبة كل جيل بما يتناسب مع لغته ومفرداته. فالتوراة لا (تستحي) احيانا ان تضرب امثلة مستوحاة من البيئة الانسانية المألوفة لوصف الاله والا لما كان المتلقي الاسرائيلي في ذلك الزمان ليستوعب فكرة التوحيد..
الخلاصة : ان احد المعاني التي تتجلى في قصة الخلق في التوراة ان الرب او الله قادر على خلق العالم وفق خطة مدروسة دون الحاجة الى الانسان فيكون الانسان مسيرا لا يفقه امرا من الارادة الالهية.. لكن ارادة السماء شاءت ان تكون مسألة (الخطة المدروسة) غاية في الاهمية بالنسبة للبشر ايضا ومن الضرورة بمكان تلقينها لبني البشر بمفرداتهم وعلى قدر عقولهم وبما يفهمون ..
طابت اوقاتكم
التعليقات (0)