التواصل: التحديد والرهان
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"
قرآن كريم
مهاد الموضوع
يعد التواصل من بين أهم الموضوعات المطروقة اليوم، لما أصبح يفرضه العالم المتنامي من تفعيلٍ لهذه الأداة الإنسانية الفعالة في الربط بين الحضارات والثقافات، وتقريب الهوة بين الشعوب والبلاد. ولهذا لم يعد التواصل لفظا ومفهوما عاديا كباقي المفاهيم السيارة بين الحقول المعرفية المتعددة؛ بل أمسى علما مستقلا بذاته، له أصوله وقواعده ومناهجه، والأدوات التي نستند إليها في ابتغاء التواصل الفعال بعيدا عن كل المعيقات التي يمكن أن تعترضه وتشوش المبتغى الأسمى منه، أي الوصول إلى الرهانات المختلفة في جميع مناحي الحياة؛ فأن نتواصل معناه أن نصل إلى الأنا أو الغير أو الآخر جملة وتفصيلا.
1. تعريف التواصل
لا يمكن البتَّةَ أن نعثر على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لمفهوم التواصل، لأنه لم يعد يستقيم على حال، ونجده في جميع الحقول المعرفية المختلفة كهندسة الطيران والرياضيات والإعلام والاقتصاد والطب والسيميائيات واللسانيات وهلم جرا، كما تتجاذبه كل مظاهر الحياة الإنسانية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. إن التواصل موضوعة، بمعناها الفلسفي، لا تقف عند تعريف بعينه.
وبالرغم من هذه المعضلة التعريفية يمكن أن نسلم بأن التواصل لغةً هو الإيصال، والعبور، والنقل، والإفهام، والإخبار، والإبلاغ، والوصول يكون بالأساس لغويا، وقد يكون باعتماد اللغة غير اللفظية. وترجع كلمة (Communication) إلى الأصل اللاتيني (Communes) الذي يُقْصَدُ به (Common)، أي عام أو مشترك. ومنه فكلمة التواصل في اللغة العربية أو في اللغات الأجنبية تصير إلى المدلول نفسه: العلاقة الإبلاغية الناظمة بين البشر من أجل الإيصال والتشارك والتفاهم.
وتميز اللغة العربية، على الخصوص، بين التواصل الذي يقتضي التفاعل بين طرفين، الأول مرسِل والثاني مستقبِل وفق وضعية تخاطبية معينة تجعل من المستقبِل، بالنظر إلى الشروط المقامية، يصبح مرسِلا ويغدو المرسِل مستقبِلا؛ وهكذا يحصل التفاعل والتخاطب بينهما؛ بينما يرتبط الاتصال باتجاه أحادي، يجعل الطرفين مختلفين: الأول مرسل بالضرورة، والثاني مستقبِل لزومًا، كما أن الاتصال فيه من السلطة والعنف الرمزي ما ليس في التواصل، والتواصل فيه من التفاعل والتأدب ما ليس في الاتصال.
أما التواصل من الناحية الاصطلاحية، بعيدا عن متاهات تعددية الحقول المعرفية، فهو مجموع الإواليات التي تجمع طرفين مختلفين مخاطَب ومخاطِب في الوصول إلى تحقيق أهداف محددة بينهما ترتبط بالقصد. ولهذا كان التواصل خاصية إنسانية، ما دام متعلقا بالثقافة التي لا يمتلكها الحيوان. إنه أساس التفاعل بين البشر وتطور العلاقات الإنسانية، يسهم بالضرورة في حيويتها وديناميتها تجاه الأفعال المنوطة بها وفق مقام مخصوص، قد تكون إدارية أو تعليمية أو رياضية أو غير ذلك؛ إذ لا يمكن للجماعة الإنسانية أن تتفاعل إلا إذا اعتمدت الشروط التداولية في التواصل الفعال. فالأستاذ في القسم، مثالا، لا يمكنه أن يصل إلى التلاميذ، إلا بخلق جَوٍّ من التعاون والتأدب بنوعيه الأدنى والأقصى، وبهذا يُنَمَّى التفاعل الصفي في الفعل التَّعَلُّمِي التعليمي، ورئيس إدراة ما لا يمكنه أن يجعل التابعين له يؤسسون جماعة دينامية إلا بالحفاظ على المبادئ التداولية نفسها في تحقيق التواصل الفعال بينه والعاملين معه، والعالَم بأسره لا يمكن أن يكون منتظما إلا بالتواصل الفعال الذي يخلو من كل تشويش؛ والأمثلة في هذا الشأن متعددة بتعدد مجالات الحياة الإنسانية سلوكا وممارسة.
2. رهان التواصل المعرفي
تعددت رهانات التواصل بحسب التحاقل وفق كل حقل معرفي على حدة، يمكن أن نجملها وفق ما يلي:
يعتبر التواصل في علم الإعلام موضوعَه الرئيس، مادام متعلقا بالخبر ورحلة المعلومة التي تشكل أساس البحث في التواصل منذ النظرية الأولى لشانون ذات النزعة الرياضية، حيث أخذت على عاتقها رفع التشويشات التي تطول التواصل مستفيدة من التلغراف. إن التواصل هو أساس بناء الوعي الجماهيري، والتفاعل والمشاركة في بناء هذا الوعي، وفي التنمية وتبادل المعلومات، وتنميط الأفكار والذهنيات، والحوار بين الأقطار من خلال رحلة المعلومة بين الأفراد والمؤسسات. وقد أدت تعددية الوسائط المعلوماتية اليوم إلى الاهتمام المتزايد بالموضوع استنادا إلى يسر العملية الإبلاغية، من خلال الواقع الافتراضي الذي يسمح به عالم الأنترنيت عبر المواقع الاجتماعية والمنتديات والصحف الإليكترونية وغيرها من العوالم المستجدة في الإعلام المعاصر الذي غير مجموعة من القيم والمبادئ التي أصبحت من الماضي كمفهوم المجتمع والنخبة والحدود؛ حيث حل الواقع الافتراضي، بوصفه أرقى أنواع التواصل الفعال، بديلا عن الحدود والأقيسة (انظر للمزيد مقالنا المنشور في الموقع: تعددية الوسائط الإعلامية والتنمية).
أما في علم النفس فيقصِدُ التواصلُ تفاعلَ الذات مع نفسها، إنه خطاب بيشخصي يخلق لغة داخلية نستطيع بالنظر إليها الوصولَ إلى كُنْهِ الفرد، وكشف مستور حياته النفسية. ومن ثم كان الاستبطان أهم عملية في الوصول إلى الشخص، كما أن التواصل تفريج وبوح وطرح للمكبوتات، واستنطاق لللاوعي الفردي، وهلوسة في بعض الأحيان، وتداع حر وانفصام ولغة منسية وتجاوز للمعيقات النفسية الفردية التي تقف أمام بناء الشخصية المتوازي السليم. ويختلف التواصل النفسي عن باقي أنواع التواصل الأخرى لأنه لا يفترض متلقيا مشخصنا، بل ذاتا محينة فقط.
بينما يرتبط التواصل في علم الاجتماع بتبادل القيم وغيرها بين الأفراد والجماعات، والتفاعل بينهم لخلق دينامية المجتمع بأسره، كما أن التواصل أساس اندماج الأفراد في ثقافة وهوية المجتمع وتمثيلاته للعالم والأشياء، مما يساهم في توحيد الوعي الجمعي، والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمعين السياسي والمدني. إن التواصل الاجتماعي قائم على رهانات متعددة إذن، كما أشار بيير بورديو، قد تكون رهان الهوية الفردية أو رهان الهوية الجماعية أو رهان الهوية الوطنية.
ويحتل التواصل في الأنتروبولوجيا مركزا مهما خصوصا عند كلود ليفي شتراوس الذي نادى بدراسة الأنماط التواصلية للكشف عن طبيعة انتماء العنصر البشري إلى ثقافة معينة، تحدد له نمطه في الوجود، فالأشكال الثقافية التواصلية المتعددة، كالعادات والطقوس وجميع الأشكال الرمزية المختلفة، هي ما يحدد الانتماء ويجعل الثقافات تختلف عن بعضها البعض، يمكن للأنتروبولوجي بعد دراستها وفحصها أن يكشف هذه التمايزات، ويفرد العناصر المشتركة بين الثقافات التي تلبي الحاجة الإنسانية في التواصل.
وقد اقترن التواصل في الفلسفة بالتصور النسقي لكل فيلسوف، وفي ربط مباشر بين الأنا والغير أو بين الأنا والآخر، وهل معرفة الغير ضرورية لمعرفة الأنا؟ وإلى أي حد تُمَكِّن معرفة الغير من التواصل معه؟ فجان بول سارتر يرى أن معرفة الغير ضرورية وفقا لمبدأ التعاقد، لكن بالرغم من ذلك فالغير يُشَيِّءُ الأنا من خلال مفهوم النظرة، أما طوماس هوبس فيرى أن الآخرين هم الجحيم، بينما هيجل يمفصل التواصل دياليكتيا من خلال التعارض بين الأنا والآخر باعتبارهما ضدين متكاملين. أما هابرماس فيدعو إلى التواصل على اعتبار أن التواصل اللغوي تَبَيُّنٌ لحقيقة الوجود، فاللغة قادرة على ترجمة حالات الأشياء، مستفيدا من نظرية أفعال الكلام مع سورل وأوستين وبرتراند راسل وفيتجنشطاين؛ بينما نيتشه يرى أن الأنظمة الرمزية كلها أنشأها الإنسان بهدف التمويه، وتمرير أوهام العقل حول الحقيقة والوجود. ويذهب إرنيست كاسيرر إلى أن الإنسان حيوان تواصلي رامز، استطاع من خلال الرمز الابتعاد من ربقة الموضوعات والأشياء. ويعتقد أمبرطو إيكو أن كل أنظمة الثقافة ذات بعد تواصلي، إذ لا يمكن فصل الثقافة عن التواصل؛ بينما يرى برجسون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن الفكر.
ويدعو المفكر المغربي المهدي المنجرة إليه كمقابل لمفهوم صراع الحضارات الذي نادى به صامويل هيتنغتون أو نهاية العالم التي نادى بها فرانسيس فوكوياما، وراهن المرحوم محمد عابد الجابري كذلك على حوار الحضارات أو حوار الثقافات كأرقى شكل من أشكال التواصل، ونبذ الصراع مع الغير والآخر، ويميز الأستاذ طه عبد الرحمن بين التواصل والاتصال في التداول الاجتماعي العربي الإسلامي، حيث إن الثقافة العربية ثقافة تواصل تحترم الشروط التخاطبية في الإنجاز والتداول، لذلك فلامناص من اعتماد المبادئ التخاطبية التعاملية في أي تواصل فعال بين الأفراد والجماعات.
أما في الاقتصاد فالتواصل هو أساس المبادلات التجارية(الماركوتينج)، وركيزة التدبير والحَكَامَة الجيدة في الشركات والمقاولات والتفاعل بين الجماعات مدراءَ وعمال، لذلك تكثر في مجال التجارة الورشات التي تعنى بهذه الإستراتيجية، فبدون التواصل لا يمكن لهذا المجال الإنساني الحيوي أن يستمر. ويقوم هذا النوع من التواصل عل اعتماد مجموعة من الإواليات التواصلية التي تدفع المتلقي إلى الاستسلام عبر الإقناع السري، ويلعب الإشهار دورا مهما في التواصل الاقتصادي الفعال.
وفي الميدان الطبي يرتبط التواصل أساسا بجلسات التمريض، قد تكون بين الطبيب ومساعديه أو بين الطبيب والمريض أو بين الممرض والمريض، وفي تبادل المعلومات بين هذه الأطراف، تتدخل في التواصل الطبي مجموعة من الإواليات اللفظية والحركية الكينيزية والبروكسيميائية في التعرف إلى المشاعر المتبادلة، ويلعب التواصل غير اللفظي في المجال الطبي دورا أكبر من التواصل اللفظي(يعتبر الأطباء أوائل الذين نحتوا علم السيمياء كان الهدف منه الكشف عن اللغة غير اللفظية التي يُتَوَصَّل بوساطتها إلى تحديد طبيعة المرض كاللون والحركة والبكاء والزفير والحمى والتقيؤ..) كما تعمل الإواليات البروكسيميائية في التواصل الطبي من حيث ترتيب مكان الجلسة الطبية وزمانها والمسافة بين المريض والطبيب، ودراسة الحركات (الكينيزية) بين الفريق والمريض، ويضاف إلى ذلك الزي واللباقة والود والاحترام والحب والعناية وغيرها مما يساهم في تعجيل الشفاء.
عرف التواصل في اللسانيات بدايته مع الأنموذج الذي اقترحه جاكبسون وفق الترسيمة السداسية: المرسِل، الرسالة، المرسَل إليه، القناة، السنن، السياق أو الإحالة؛ يقوم المرسل بالوظيفة التعبيرية، وتقوم الرسالة بالوظيفة الشعرية الجمالية، والمرسل إليه بالوظيفة التأثيرية، وتقوم القناة بوظيفة ضمان الاتصال، والسنن بوظيفة اللغة الواصفة أو الميتالغوية، والسياق بالوظيفة الإحالية المرجعية.
وقد استفاد جاكبسون من تصور شانون السابق الذكر، غير أن ما عِيبَ على أنموذج جاكبسون هو اعتماد أحادية الاتجاه في التواصل، مما جَرَّه إلى الاتصال عوض التواصل، وهذا ما تداركته جوليا كريستيفا، باعتماد خطاطة تفاعلية بين المرسِل والمرسَل إليه تتجاوز أحادية جاكبسون في الاتصال. وبعد هذين النموذجين تعددت النماذج اللسانية في التواصل، وقامت نظريات لسانية على هذا المفهوم كالنظريات اللسانيات الوظيفية البنيوية (مارتينيه وجاكوبسون وبينفنيست) ونظرية النحو الوظيفي بريادة سيمون ديك الذي تجعل أساسا لها الوظيفة التواصلية للغة.
واهتمت التداوليات بالتواصل في جانبه التفاعلي، ووضعت لذلك شروطا هي عبارة عن مجموعة من المبادئ التداولية المشهورة في هذا المجال، ما دام التخاطب الإنساني في صلبه بنية تفاعلية، مستفيدة من فلسفة اللغة العادية مع شارل موريس وأوستين وسورل وغيرهم، وأهم هذه المبادئ التداولية التعاملية نذكر: مبدأ التعاون ومبدأ التأدب ومبدأ التواجه ومبدأ التأدب الأقصى ومبدأ التصديق، فمبدأ التعاون يشكل المبدأ التداولي الأول للتخاطب، تعلق بالفيلسوف الأمريكي غرايس قائم على كم الخبر وكيفه والعلاقة، وقد أرادها ضوابط تحكم كل تخاطب إنساني كيفما كان؛ أما مبدأ التأدب الأقصى فاقترن بليتش يعتبره مكملا لمبدأ التعاون، يقوم على ضابطين اثنين: قلل من الكلام غير المؤدب، أكثر من الكلام المؤدب، وتتفرع عنه قواعد اللباقة والسخاء والاستحسان والتواضع والاتفاق.
راهنت السيميائيات على مفهوم التواصل خصوصا في أعمال بويسنس وبريطو ومونان وغيرهم، أو ما يعرف باتجاه السيميائيات التواصلية الذي أخذ على عاتقه دراسة الأنساق التواصلية المتعددة، وعبر السيميائيات أخذ التواصل غير اللفظي قيمته في القناة التواصلية، حيث تم الاعتماد على دراسة أنساق تواصلية متعددة كإشارات المرور والإيماءات واستعمالات الجسد الاستعارية والرموز والأمارات وغيرها. وقد كان الرافد الأساس في دراسة هذه الأنساق التبشير السوسيري بهذا العلم العام الذي سيهتم بأنظمة العلامات في الحياة الاجتماعية، فدراسة الإشارات وعلامات المرور (بيير غيرو) والمطبخ واللباس ونسق الموضة (رولان بارت) والحركات الكينيزية (سابير)، اعتمدت جميعها مصطلحات لسانية، حيث نتحدث مع بارت وغيره عن الثنائيات اللسانية السوسيرية(الكلام/ اللسان؛ التوزيع/ الاستبدال، العام / الخاص)، ومع سابير عن الحركات الصغرى التي تقابل الفونيمات والحركات المركبة التي تقابل المونيمات، أي خلق نحو للحركة على غرار نحو اللغة.
غير أن التواصل غير اللفظي في هذا المجال يخضع للمعيار الأنتروبولوجي، فلكل ثقافة نمطها المخصوص في تداول الرموز، ولا يمكن للإنسان أن ينفي هذا الاستعمال، فالحركات تختلف بالضرورة بحسب الموقف والتحديد الجنسي والطبقة والتعامل والتنشئة الاجتماعية، لذلك فكي تؤدي الحركة دورها ينبغي أن نراعي فيها هذا الاختلاف، فاليد تبطش وتُرَبِّثُ وتسر وتهدد وتهدهد وتختزل اللغة الإشارية وتنجي من الرتابة اللفظية، وحركات الجسد تستفز وتعتدي وتتبختر وتتغنج.
وتعتبر العين أرقى طريق في التواصل غير اللفظي، إذ تختزل البعد الإنساني بأكمله عبر النظرة، فهي تقتل وتبكي وتضحك وتستفز وتغمز وتلمز وتهين وتحتقر وتعد وتسر. ويلعب اللون كذلك دورا مهما سواء تعلق بلون الوجه وتعبيراته المختلفة بحسب المواقف، أو من خلال طبيعة الألوان المرافقة للباس والزي والمكان، فالأحمر غير الأصفر والأسود في كثير من المواقف، إذ اللون ينفر أو يثير أو يجذب أو يريح، وتقول الألبسة كلاما تعجز عنه الألفاظ، فهي تفشي الانتماء القيمي عبر مدلولاتها المتعية وطرق النظر إلى العالم والأشياء.
وقد تجلت هذه النتائج كثيرا في دراسة الإشهار باعتباره تمثيلا واضحا للتواصل الفعال الذي يجمع بين اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية وصولا إلى المتلقي، كما ظهرت وفق هذا التوجه السيميائي نظرية البروكسيمياء أو دراسة المسافات ودرجات القرب في التواصل(طوماس هال)، تحضر أكثر في التواصل التربوي والتواصل الإداري وفي العلاقات الإنسانية عامة، فالشخص الذي تحضنه، في ثقافتنا المغربية، يشكل له ذلك تواصلا أفضل من السلام عليه بالوجه، أو باليد فقط، أو تكتفي بالإشارة باليد. فالقرب في المسافة قرب في الحميمية والود، لذلك كان الزواج في التداول الإسلامي أكبر مثال للود، حيث عُبِّر عليه باللباس في قوله تعالىهن لباس لكم وأنتم لباس لهن، وهذه العبارة أكبر تعبير على هذه الحميمية، إذ لا شيء يفصل بين اللباس وصاحبه.
أما التواصل التربوي فقد استفاد من إواليات التواصل في علم النفس وعلم النفس المعرفي واللسانيات وعلم الاجتماع وغيرها، وارتبط بالعملية التعلمية التعليمية باعتبارها بنية تواصلية تجمع بين مثلث ديداكتي (المعلم والمتعلم والمادة الدراسة). ولم تَخْلُ النظريات التربوية ابتداءً من السلوكية (نظرية المثير والاستجابة) إلى المعرفية من حضور هذا المضمون، حتى إنه اليوم أصبح مقرونا ببيداغوجيات متعددة كنظرية التفاعل الصفي، ودينامية الجماعة، والإدماج، وأسلوب التغذية الراجعة، وبيداغوجيا الفوارق؛ لأن التواصل في حقيقته تبادل للمعلومات بطريقة أفقية أو عمودية.
تظهر الطريقة الأفقية في التعليم الحديث الذي يقوم على التفاعل الصفي ويجعل التلميذ محور العملية التعليمية التعلمية، عبر التعلم الذاتي والتفاعل مع الزملاء، بينما الطريقة العمودية فتشكل التقليدية منها، تنظر إلى المتعلم بوصفه صفحة بيضاء يُلَقَّن فقط. لذلك يجب في التواصل التربوي الابتعاد عن اللفظية الزائدة واعتماد الوسائل السمعية البصرية في التعلم تجاوزا للرتابة في التعليم خصوصا في المراحل الأولى منه، حيث إن طفل القرن الواحد والعشرين لم يعد مثل طفل بياجي يغتر باللفظ، بل أمسى اِبْنًا للصورة والتواصل غير اللفظي الذي يملأ مجاله وتداوله اليومي, ومنه فالتربية الحديثة لا بد من تلبي حاجة هذا المتعلم الجديد.
غير أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا بتجاوز العوائق التعليمية التي تخص اللغة غير اللفظية، منها ما يرتبط بالمعلم، وما يتعلق بالمتعلم، وما يستند إلى المنهاج الدراسي، وما يتعلق بالمجال أو البيئة التعليمية (يمكن الرجوع إلى مقالنا المنشور في الموقع:"الدور التربوي والتعليمي للصورة" لتفصيل القول).
التعليقات (0)