أجندة الثقافة الحضارية,,
التنوّع البشري ومأزق العولمة
لاشك في ان التنوع البشري يعتبر ظاهرة طبيعية تعيشها الانسانية بأسرها، وان للثقافة الحضارية دورا رئيسيا في دفع الامور تجاه التعاطي المتكافىء، وتعنى بالحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، وتعمق الرؤية في تجاور الاضداد الصريحة، وتدفع باتجاه الحوار بين مختلف الامم والحضارات، كما وتكفل بألا يكون هنالك مايدعو لمحاباة امة دون الاخرى من حيث التكوين الحضاري المعاصر، فالتطور الراهن حيث العولمة والاكتساح المعرفي الهائل عبر وسائل الاتصالات الحديثة لايتيح المجال لأي حضارة بأن تنأى بنفسها عن باقي الحضارات، بقدر ما تحرص على ان تكون ضمن منظومة عالمية جديدة,
كما تقوم هذه الثقافة - بالمفهوم العام- على اذكاء مختلفة المعاني الانسانية المشتركة مثل الحرية والعدالة والمساواة، وتضع نصب عينيها الاختلاف سبيلا أوحد للاتفاق، رافضة في الوقت نفسه اي نظرة استعلائية تمارس من قبل امة على اخرى، او سيادة ثقافية على أخرى، والتخلي عن اي رواسب تمييزية عرقية كانت ام طائفية، او شمالية ام جنوبية، كذلك تعترف بالخصائص الثقافية والحضارية لكل امة، لأن ذلك يعزز من مبدأ السلام للبشرية برمتها,
وبكلام آخر ان الثقافة الحضارية بقدر ما تهتم بمظاهر التنوع البشري، فهي حريصة بالقدر نفسه على احترام الهوية لكل حضارة، وتراعي خصوصية كل تجربة تاريخية على حدة، من دون محاباة لتجربة على حساب غيرها، وتكرس تلك المعطيات الحضارية المبدأ الرافض لأي نظرة مركزية للحضارات من حيث التفكير والتوجيه والسيطرة، في الوقت الذي تضع للحوار هامشا واسعا في التعامل المشترك للتشكيلات المعاصرة,
وليس هناك مايدعو للشك من ان تلك الانساق الإيجابية تفضي الى علاقات متكافئة بين كل أمم الكوكب الارضي الذي اصبح قرية كونية واحدة وتصاغر الحجم البشري الكبير فيها بفعل معادلات العولمة، اضافة الى ازالة الفوارق الجغرافية الى حد كبير، كل ذلك يهيىء الامور للتعاون المتبادل بين الحضارات والثقافات، بغية تذليل المعوقات التي بات من الصعوبة بمكان حلها من قبل قطر بعينه دون الاهتمام بكافة الاقطار الاخرى,
فالعولمة تأتي بمكتسبات جديدة على البشرية باسرها، مسفرة لنمط جديد يحدد ملامح العلاقة بين الامم والحضارات الإنسانية، والتي ينبغي ان يسودها الاحترام المتبادل الذي يقر بالموروث الحضاري من تراث وثقافة، فضلا عن الخصائص الايدلوجية لكل مجتمع من المجتمعات، ويتأكد من توثيق العرى التي تحكم تلك العلاقة عن طريق العناية بظاهرة التنوع والتعدد للمجتمعات البشرية، والتي لم يعد بمقدور كافة وسائل الاتصالات الحديثة الاجهاز عليها بسهولة ويسر، لان ذلك من السنن الكونية الثابتة قال الله عز وجل )وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا( الآية، ومن الضرورة بمكان ان تنبني حالة التعارف تلك على ارساء دعائم الفاعلية التي تجعل من الحوار محورا مهما يتيح المجال لكافة الاطراف للتعبير عن الرأي باستقلالية تامة، ولاريب ان التدفق المعلوماتي الجارف الذي يجتاح العالم بأسره يعتبر في حد ذاته انجازا واضحا لعملية الاتصال الحديثة، والتي تبقى رهان الحاضر في صوغ علاقات متينة عبر روابط تقنية يتمتع بها الانسان المعاصر,
فظاهرة التنوع والتعدد تفرض حالة من الوعي بحجم تلك القضايا الرامية لفهم عناصر الحوار من اجل الوصول الى قواسم مشتركة بين الحضارات والامم، وعلى هذا الاساس تتشكل طبيعة تلك العلاقة التي تقوم على تطويع سلوكنا بما يتواءم ومتطلبات الواقع، ويظل عنصر الحوار طاقة الجماعات والمجتمعات وروحها في مختلف انساق التمكين والمعرفة، وأداة من ادوات القبول بمبدأ الاختلاف الذي يعني الاعتراف بالتعددية في نهاية المطاف، بهذا تتشكل المعالم الاولية للتعايش والتعارف والتفاهم بين الاطراف المتجاورة والمتداخلة، فاتحة الباب على مصراعيه للتنوع البشري وتعدد ايدلوجياته من اجل منظومة عالمية تقف على استراتيجية هادفة تعود بالمنفعة العامة على سائر الامم والحضارات,
الا ان هذه الانساق الايجابية التي هي من صميم الثقافة الحضارية تظل مناطة بتصرف الانسان نفسه، فإن ارادها طوع احقاده واطماعه، كانت له طيعة خاضعة، وان سخرها لأجل ما ترمي إليه فإنها تستشرف مستقبلا واعدا يحمل بين طياته الكثير من علامات البناء والتطوير للإنسان المعاصر، وتظل ايضا الثقافة الحضارية تحمل مضامين التكافل الانساني الرامي الى تنمية اقتصادية شاملة في كافة مناحي الحياة، وتبقى هذه التنمية معطلة ما لم تصبح انساق هذه الثقافة جزءا مهما من ثقافة اي مجتمع من المجتمعات البشرية، كما لايمكن حصرها حتى تصبح مجرد عامل مساهم في عملية النمو الاقتصادي فقط ، بمعنى ان اي رؤية ترمي الى فصل الاقتصاد عن معطيات الثقافة تعتبر رؤية رسوبية وغير دقيقة لإدراك الصلة الوثيقة بين جوانب الحضور الانساني وانشطته المختلفة، وتتسق معطيات التنوع الانساني وكل عناصر الحضارة المعاصرة بمختلف الثقافات الواعية بمدى اهمية الانفتاح حسب ضوابط محددة كفيلة بمسايرة هذا التلاحق المعرفي الهائل وفق خطط دقيقة تضمن عدم الانصهار التام في عولمة القوى الحضارية، فالتعايش والآخر الحضاري امر يفرض نفسه حسب متطلبات الواقع الراهن، برؤى عميقة وواضحة يسودها الاخذ والعطاء اثر الحرية الفكرية غير القابلة للتجزئة او الانفصال، وبكلام اكثر دقة ان عملية تنظيم مواطن الاختلاف بين الامم تعتبر عملية معقدة ومتشعبة، تتطلب الكثير من الجهود والطاقات من اجل احتواء ذلك الامر الجد خطير,
وعلى الرغم من هذا المطلب الحضاري المتوفر لدى الذاكرة العربية في دعم سيرورة الثقافة الحضارية، الا اننا مازلنا ندور في مجال يبتعد عن معاني صنع القرار العالمي الذي يعنى بالانسانية جمعاء، وبالتالي نصبح غير مؤهلين للمشاركة في عالم لايسمح الا بالدخول تحت مظلته بأي طريقة كانت، وهنا يتكشف الاثر السلبي للعولمة,
كذلك ان ثقافة الانعزال في عالم متعولم تعتبر ثقافة شاذة، كما تندرج اشكال العصبية والقهر في المقام نفسه، باعتبار التكريم الذي حظي به العنصر البشري ينطبق على كل انسان يعيش علىوجه هذه البسيطة، قال الله عز وجل )ولقد كرّمنا بني آدم( الآية، يدعونا ذلك لبث روح الانسجام والاحترام وكافة الايدلوجيات وفق معطيات التعايش الانساني الذي يدفع باتجاه الوئام والسلام لكافة البشرية، فليس هناك ثقافة تمتلك حق الوصاية على العالم سواء كانت هذه الثقافة متميزة من حيث الارث الحضاري التاريخي، او كانت تفرض ثقافتها عبر ادوات القوة والهيمنة,
وفي ظل هذه العولمة الحديثة، اذا ما حاولنا الانعزال والانكفاء ازاء ما هو جديد فسنصبح بالطبع خارج المعادلات الجديدة، لأن العزلة بمفهوم اليوم ليس كما السابق، فقد اخذت هذه المفردة ابعادا اكثر تحولا اثر التطورات المعرفية الهائلة التي احالت هذا الكون الى قرية صغيرة، فمن الوهن ان نعكف على الماضي ونتجمد فيه، كذلك من الفوضى ان نتعولم دون ما ادنى تبصّر وادراك، إذن لابد من ان نتسلح بأنماط جديدة تستدعي هامشا كبيرا من الحضور الفاعل في عالم يلهث وراء التقدم العلمي والحضاري، مدركين في الوقت نفسه ان المشكلة لم تعد مقصورة في تقدم امة على اخرى، بل المشكلة تكمن في النظرة الفوقية التي تمارسها امة في حق سائر الامم الاخرى، والتي بالامكان اختزالها في مصطلح العولمة التي اذا ما استحكمت حلقاتها الاخيرة في ظل ممارسة المركزية وفق معايير استراتيجية من اقتصاديات وثقافات واخرى، عندها يصبح ذلك التعدد والتنوع البشري مهددا بفعل تلك العناصر الحديثة المتقنة، فضلا عن مختلف العوامل الايجابية التي تنسجها المعطيات المعاصرة، وذلك بفعل العولمة التي تعطي السبق الاقتصادي- الذي ليس هو في منأى عن الابعاد الاخرى السياسية والثقافية والاجتماعية- للقوى الاقتصادية الرأسمالية، يتضح ذلك عندما تم تخفيض القيمة الإجمالية للعملات الاخرى الى درجة تفقد معها قدرتها الشرائية، وأوقعوا بالمصارف والشركات والهياكل المؤسساتية المحلية الى حد الافلاس، مما يؤدي الى زعزعة للنظم الاستراتيجية الاخرى للدول المتضررة، كل ذلك من اجل بسط نفوذ الهيمنة والسيطرة على مقدرات معظم الدول المستقلة والتي نالت فرصاً جمة واكثر ماتكون ناجحة إثر اقتصاد حيوي ونشط,
هذا الواقع الجديد يفرض على ثقافتنا العربية تحديات غير مسبوقة، يدفعها لاستدعاء امكاناتها واكتشاف مدى قدرتها على الحركة في عالم ليس من صنعها، ولاتمتلك سوى مواجهته بكل متناقضاته المفروضة عليها والمؤثرة فيها، دافعها الوحيد هو حرصها على الحضور الفعال مع عالم يمتلىء بالمتناقضات والمتغيرات الهائلة، واخضاع نتاج ذلك قيد الدراسة المستفيضة ليتسنى لها الحراك الايجابي وفق منظومة قائمة على تعاون متبادل متوجة بعلاقات متكافئة، تقوم على ارساء مظاهر التنوع البشري على مختلف الصعد الاستراتيجية في مواجهة كوابيس الاحادية التي تفرضها نظم عالمية جديدة، ويعزز ذلك الرفض لكافة اشكال الاستغلال الجديدة ومختلف ضروب الانقياد المعاصرة، فالتاريخ خير شاهد على تقديم سلسلة من القوائم للرابحين والخاسرين، ويتلخص في التواتر الراهن للاحداث وما يلحق بها من تطورات اقتصادية هائلة لاتقل شأنا عن الحروب والمنازعات، والتي في الغالب ما تعود بالضرر على مختلف الاطراف المتصارعة، فمن انتفع من حركة البناء والتطور العالمية المعاصرة، كان له القدرة على تسخير المعرفة والعلوم والوسائل الحديثة لصالحه، ومن تباطا كان اقل استعدادا للاستجابة للمتغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية بل ومستهدف فيها، ونلاحظ بعض الدول الواقعة في شرق آسيا مثل اليابان التي تعتبر الآن اكبر مركز مالي في العالم، ونمور شرق آسيا سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية التي تتمتع بنمو مطرد في مجال التصنيع والتصدير، وأيضا دول جنوب شرق آسيا مثل تايلاند وماليزيا واندونيسيا لاتقل عن مثيلاتها من حيث الاستثمارات وعمليات التصنيع والتجميع والتصدير، فهذه الدول دون غيرها اقل عرضة للاختلال في موازين القوى لديها، لما تتمتع به من انشطة وموارد صناعية ضخمة، يكون من الصعب هضمها من قبل قوى كبرى تفرض مبدأ الهيمنة والسيطرة,
فالحضور الجاد من قبل ثقافتنا العربية والاسلامية في عالم لايكف عن التحول يستلزم آليات مثاقفة تعيد النظر في معطيات الهوية ومكوناتها وتعمق الرؤية للتمييز بين الثابت والمتحول من بين عناصرها، مع ادراكنا لما تزخر به ثقافتنا العربية من عناصر دينامية تجاه المتغيرات والمتحولات، وبما تنعم به من ادوات التواصل والالتقاء والحضارات الانسانية من حيث الاستقراء للتاريخ، وهي قادرة على شحذ الهمم من اجل ابراز انساق التدافع الواعي الذي هو في طور النمو على المستوى الداخلي، ويتجلى عبر نسق من الصياغة الجديدة للعلاقات مع سائر الامم والحضارات، فالنظم المعرفية الجديدة تعقد الصلة الوثيقة ولاتفرق بين السياسي والاقتصادي في عالم يتطلب الحضور,
ولانضل الصواب حين القول ان العولمة هي امتداد طبيعي لمضامين الهيمنة، في تقليلها من اهمية الخاص، وتأكيدها على العام وأهميته، وسعيها المتلاحق إلى إذابة الثقافات الوطنية المتعددة في قالب الثقافة الكونية الواحدة، ناهيك عن عدم السماح لأي ثقافة من الثقافات في الاعتراض او المخالفة على هذه الصيغة الواحدة وفق مبدأ الديموقراطية التي ينادي بها الغرب، وتلعب وسائل الاتصالات الحديثة العابرة للقارات دورا هاما في الحركة الاعلامية الكونية من اجل تثبيت فكرة المركزية للعالم، تدعمها فضائيات مؤدلجة -ان جاز التعبير- لهذه العولمة، وعلى سبيل المثال عندما حاولت ماليزيا الانفكاك من مأزق العولمة، لم يمهلها الاعلام الغربي حتى شن هجوما ضاريا وذلك لحجب الثقة عن هذه الدولة ، ساهم بذلك بشكل كبير في اعاقة التعاطي الاقتصادي بينها وبين العالم، كما تعاني بعض الدول من شرق آسيا من الازمات السياسية والاقتصادية كلف شعوبها عناء العوز والمعاناة، بالرغم من تمسكها بتوجيهات وتعاليم النظم الاقتصادية الجديدة، فنمور شرق آسيا -مثلا- بانخداعها لمظاهر العولمة، آل باقتصادها الى مستوى متدن، ابطأ من حركة السوق لديها، وبالتالي ينعكس ذلك بشكل او بآخر على مدى الاستقرار الاجتماعي فيها، ولايخفى ان هذه الدول بلغت مرحلة بالغة الاهمية تستشرف من خلالها البناء والتطور، وكان لها حضورها المهم ضمن فعاليات اقتصادية عالمية، وما ينبغي الاشارة اليه هو ان الاضطرابات الاقتصادية لها انعكاساتها على الابعاد السياسية الثقافية والاجتماعية، وفي المقابل اذا ما ارادت - أي دولة كانت - الاستقلال والنأي عن هذه المنظومة العالمية، فستبقى في عداد الدول الهامشية المتجمدة في عالم يعج بالحركة والنشاط، وبمعنى اكثر دقة اصبحنا طرفا متأثراً ومتورطاً في الوقت نفسه على مستويات عدة، في وقت تختزل فيه الازمنة في زمن واحد، وتتقاطع معادلات الاقتصاد والسياسة والثقافة والاعلام، وفي الوقت الذي لم يعد بمقدورنا ممارسة ماهو مطلوب تجاه العولمة على اكمل وجه,
وقصارى القول اذا ما أراد عالمنا العربي ان يشارك في هذه الحركة العالمية الحديثة، علينا بإشاعة الثقافة الحضارية التي تعتبر أس الابداع الانساني الساعي للبناء والتطوير، والتي تساهم في عملية اتاحة المجال لإبداء الآراء وتنوعها، وتتكىء على قيم الحرية والعدالة والمساواة، ويستدعى منا جميعا افراد ومؤسسات ان نشحذ الهمم ازاء تثبيت محاور حضارية تقوم بتنظيم العلاقات بين مختلف الامم والحضارات البشرية، فضلا عن تكريس مبدأ الحوار الحضاري الذي يقودنا الى التفاعل وسائر الحضارات، في الابتعاد عن مواطن الخلاف وتجاوزها، وفي الانعتاق من الازمات ومشكلاتها، واحترام الخصوصية الفكرية والثقافية والاجتماعية لكل قطر، ولانبالغ اذا قلنا انها مهمة صعبة وشاقة، تتطلب الكثير من بذل الجهود والطاقات وتوظيفها للبناء والتطوير على مختلف الاصعدة التنموية الشاملة، في ظل انعطافات العولمة,
علي آل طالب
مقالة نُشرت في صحيفة الجزيرة السعودية
قبل أكثر من عقد من الزمن أي بتاريخ
1420
,الأثنين 28 ربيع الاول
وذلك عندما كنت طالبا في جامعة الملك سعود بالرياض
http://search.al-jazirah.com.sa/1999jaz/jul/12/rv3.htm
التعليقات (0)