لا شك بأن الحراك المدني الإنمائي في العالم العربي استطاع إلى حد ما التفلت من بيروقراطيّة القوانين وتعاظمها، حيث أخذ بُعدًا تصاعديًّا يختلف عمّا كان عليه في مرحلة ما من المراحل، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة. يأتي ذلك كنتيجة طبيعية لما يطرأ من سلوكيات ديمقراطية تتباين تمظهراتها من بلد إلى آخر، فضلا عن تراجع الدولة كمفهوم إداري في قدرتها على سد احتياجات المجتمع، إذ يؤول الأمر إلى استدعاء أهمية مؤسسات المجتمع المدني أو القطاع الخاص في المشاركة الفعلية في التنمية البشرية المستدامة، على اعتبار بأن المجتمع المدني بكل مكوناته الأنثروبولوجية؛ بات مفهومًا عميقًا وواسعًا عنه من مفهوم الدولة كنظام إداري. بيد أن الفعل المدني – في الواقع العربي بالذات – ولانشغاله بالموروث الأيدلوجي وبالثقافة السياسة، قد أحكم طوق العزلة ما بينه وبين مقومات التنمية البشرية المستدامة والتي تعتمد في مضمونها على البناء الثقافي المستديم والمرسخ لمبادئ الإنجازات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، وإلا كيف نفسر افتتان الغالبية من مؤسسات المجتمع المدني بالتركيز على إحداث التغيير والإصلاح في البنية السياسية واعتبار ذلك أولوية كبرى في مضمار العمل المدني!؟.
من هذا المنطلق يكون الحراك المدني قد فُرغ من مضمونه التنموي المستديم، لينزلق إلى الارتهانات السياسية غير المستقرة سواء الداخلية منها أو الخارجية، وإلا فالتنمية البشرية بمفهومها العام والشامل ما إن تتصدر سلم الأولويات على جدول العمل للمؤسسات ذات الصفة المدنيّة، فإن التغيير السياسي -بما لا يدع مجالا للشك- يصبح أمرًا حتميًّا لا يمكن تجاوزه، هكذا تجلت التجربة المدنية لدى معظم الدول المتقدمة، بعد أن خاضت المؤسسات المدنية فيها نضالاً مستميتًا؛ لأجل ترسيخ ثقافة البناء والتنمية واستزراعها في الروح والوجدان. وبمعزل عن الحكومات يصبح اهتمام هذه المجتمعات مُنصبًّا على الشأن الاجتماعي؛ كقضايا الفقر، وتفشي الجريمة، وارتفاع نسبة البطالة، وقضايا المرأة والأسرة والتنشئة التربوية، فضلا عن تطلعها إلى اقتصاد مدني متين، وتنمية تعليمية متميزة، وتأمين صحي متماسك. فالتنمية البشرية المستدامة هي عبارة عن منظومة عمل متكاملة ترتكز على أبعاد ثلاثة أساسيّة: البيئة، والمجتمع، الاقتصاد. وإنه بمجرد أن يتدافع المجتمع المدني برمته لتحقيق مثل ذلك، أمكنه بالتالي لإحداث تغيير بنيوي راسخ ومتين!.
واستطرادًا للمحاولة في الاقتراب من التنمية البشرية المستدامة، وباختصار جزل ومفيد؛ فهي لا تخرج كمفهوم عن استحداث أفضل الفرص الممكنة من أجل استثمار الطاقات البشرية، وتفريغها في محتواها المناسب إلى القدر الذي يرفع مستوى الرفاهية للأفراد والجماعات معًا. أي أنها تساهم في تحقيق الخيارات، ووضع الاستراتجيات، وبلورة الأهداف، ورسم السياسات التنموية؛ برؤية مستقبلية أكثر توازنا وعدلا، بمعنى آخر هي أصدق ما تكون نعتها بـ"الديناميكيّة الخلاّقة" باعتبارها عملية إنتاجيّة للخيارات المتعددة والمتنوعة للناس، فالبشر هم المستهدفون، وهم أيضًا الأداة لتحقيق هذه التنميّة، هذا لا يعني أن مقاصدها تقف عند زيادة الثروة أو الارتقاء بالدخول المالية العائدة للفرد والمجتمع معًا، إنما هي تتخطى كل ذلك لتؤسس إلى روافد نهضوية ترتقي بهم ثقافيًّا واجتماعيًّا وصحيًّا وبيئيًا وتعليميًّا؛ بل وتمكنهم وبكل انسيابية من الدخول باحتراف وثقة في الفعل السياسي؛ بعد أن يحققوا ذواتهم، ويشحذوا تدافعهم، وينظموا صفوفهم، ويحكموا أمرهم.
باتت الحاجة ملحة أن تنعم المجتمعات العربية بنظام مدني واعد، يحدد أولوياته، وينظم إراداته، ويدخلها في عالم المعرفة، ويحلق بهم إلى آفاق التنمية بكل أبعادها ومقوماتها المتعددة، ولن يتسنى تحقيق ذلك إلا إذا غلّبت كافة القوى السياسية والاجتماعية المصلحة العامة على الخاصة، وتخلت عن أدبيات التشرنق الفكري والذي يعميها عن تحديد الأولويات في سلم التنمية البشرية، هذا ما ينبغي أن تعيه الشعوب العربية أولا وقبل أي شيء، لأن القيمة في التغيير – حسب جان جاك روسو- تكمن في قوة الاستمرار، والمرهون توفرها بتوفر القدرة الاقتصادية، وعوامل الإنتاج، وتقسيم العمل، واستثمار الطاقات، والإعداد التنموي الطويل الأمد؛ كل ذلك يكون بمثابة الرافعة لإحداث التغيير السياسي المتماهي مع حاجة الشعوب ومتطلباتها، على العكس مما يحدث اليوم في المشهد الشعبي العربي، والتي تخوض فيه بعض القوى المؤدلجة ثورة استنزاف طويلة، إذ لا يحضر من أجندتها إلا المعترك السياسي وحسب!.
من اللافت ونتيجة للمراهنة على الجوانب السياسية واعتباره هو المسلك الأول والأخير في عملية التغيير، وحين أُصيبت بعض حركات التحرر في بنيتها الفكرية بالتصدع وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين على وجه المقاربة، أدى مثل هذا الأمر إلى انفكاك قطاعات جماهيرية كبيرة عنها، حتى تشظّت وأصبح من السهولة بمكان بالنسبة لها هو البحث عن أُطر أخرى؛ اجتماعية كانت أو سياسية، أكثر انسجامًا مع الواقع بكل مقوماته التنموية، ومستشرفة للمستقبل وما يختزنه من مستجدات متلاحقة، إذ يصير رهانها هو البحث عن عناصر التنمية المستدامة؛ باعتبارها المسار الآمن في إحداث التغيير الحقيقي!.
وبالعودة إلى سياق العلاقة ما بين مؤسسات المجتمع المدني والتنمية البشرية المستدامة نستطيع وصفها بالعلاقة المتكافئة، إذا ما تهيأت كافة الظروف المساعدة في إنجاحها، وتوفر المناخ الديمقراطي الملائم تطورها ونموها، يأتي ذلك في الوقت الذي والمؤسسات المدنية – غير الحكومية – تحقق نتائج مرضية على أكثر من صعيد، وكل ما له صلة مباشرة بالإنسان نفسه، سواء في القضايا المتعلقة بحقوقه أو بالبيئة الخاصة به، في مكافحته للتمييز العرقي أو دعمه لحقوق الأقليات أو وضع المرأة أو حماية المتسهلك، أو التصدي لكل تمظهرات الفساد وغيرها. ولا يخفى بأن الحراك المدني بمؤسساته المتعددة، وأنشطته التنموية المتنوعة، والذي بدا جليًّا في العديد من المجتمعات العربية كتجربة في بدايتها وفي طريقها للتبلور والنضوج، هي أكثر ما تكون بحاجة إلى "رؤية متكاملة" تعتمد التنمية البشرية المستدامة كمشروع عمل طويل الأمد، ولا يغادرها ذلك الأمل المرتبط بالتغيير السياسي، تحقيقا للعدالة والحرية والمساواة، وكل ما يؤشر بسلوك ديمقراطي واعد، عندها يكون التغيير الإيجابي والمتين هو من ينتظر هذه الشعوب وليس العكس!.
المقالة: صحيفة أوان الكويتية : http://www.awan.com/pages/guests/266966
علي آل طالب
مركز آفاق للدراسات – السعودية
المدونة: http://www.elaphblog.com/altalebali
a.altaleb@yahoo.com
التعليقات (0)