التنشئة الإجتماعية.. وفرض الثقافة الشمولية !!
بقلم: محمد كَنفودي
تَتَحدَدُ التنشئة الاجتماعية للطفل عند جانب مهم من الباحثين السوسيولوجيين من خلال جهازين رئيسيين, هما جهاز التلقين وجهاز التدعيم. حيث يشتمل الأول على مؤسسات متعددة, من بينها الأسرة والإعلام والجماعات الصغيرة والمدرسة, وهي تقوم أساسا على تلقين الطفل مجموعة من الأعراف والتقاليد والعادات التي تتواجد داخل المجتمع, وتقوم على تربيته وتنشئته على دلك حتى يصير غير قابل لأي ثقافات أخرى بديلة قد يصطدم بها مستقبلا, مرجعا دلك لتسلط الثقافة الشمولية التي نشئ عليها. ثم الجهاز الثاني وهو جهاز التدعيم, والذي يتكون أيضا من عدة مؤسسات, تبقى مؤسسة الأسرة حاضرة فيه بقوة إلى جانب مؤسسات أخرى كالحركات الاجتماعية والإعلام وغيرها. وتتحدد مهمتها الرئيسية في تعبئة الطاقات إلى الامتثال إلى النماذج المفضلة, من خلال الحث على الامتثال لها والدفاع عنها من كل انتقاد, حتى يصبح الأشخاص كما هو الحال في الجهاز الأول يعتبرون أن الأنماط السلوكية المفروضة عليهم هي أنماط طبيعية ومعقولة بل ومقدسة, وأن الانحراف عنها هو شيء غير مقبول.
إن وظيفة الجهاز الأول ( جهاز التلقين ) من خلال مؤسسة الأسرة, يلعب دورا بارزا في تحديد شخصية الطفل, إذ أن أول ما يحتك به الفرد في بداية حياته هو والديه, بالإضافية إلى أخوته, وبطبيعة الحال فإنهم يحملون أنماطا ثقافية معينة, ترجع أساسا إلى المحيط الجغرافي الذي تربوا فيه وما يشمله من أنساق ثقافية سائدة تتداخل فيها الأعراف بالدين بالتقاليد, فيمثل دلك فكرا قاعديا بالنسبة للمجتمع المحيط بتلك الأفكار, فَتعمَدُ الأسرة أخيرا إلى تلقين أطفالها كل تلك الأمور على أساس أنها - الأنساق الثقافية - تشكل هوية الفرد, والتي بدونها يكون هذا الأخير خارجا عن الجماعة .. وربما بعد أن يكبر الفرد ويتعرف على باقي الأنماط الثفاقية, والتي لم توفرها له الأسرة, قد يفاجئ عند قيامه بالمقارنة وربما يحصل له إحباط كما يتجه إلى دلك عالم الاجتماع Dayvic فهو يعتبر أن الإحباط لا يكون إلا نتيجة للمقارنة التي تولد الضغط كما أنه يختلف من فرد لآخر ..
كما أن هناك مؤسسات أخرى تقوم بنفس الدور, فنجد مثلا المدرسة والتي تتركز مهمتها أساسا في تلقين العلم للفرد, ومن ثم ربطه بمحيطه الاقتصادي من خلال مهمتها في التقسيم الاجتماعي, لكن نجدها تتعدى إلى مجالات أخرى يمكن أن نقول عنها أنها خفية من حيث الدور, فنجدها مثلا تقوم بتلقين المعتقدات والأعراف السائدة في المجتمع. وتجدر الإشارة هنا أن هذا التلقين يشمل كل مناحي الحياة, وربما قد يتعداه ودون مبالغة إلى اللباس والأحلام وحتى الأعراف الغذائية.
ما نرغب بالتركيز عليه هنا ذلك الدور الذي تلعبه الأسرة أو المدرسة بصفة غير شعورية من خلال تربيتها للفرد, والذي بعد مدة سيصبح شخصا, إذ أن علم الاجتماع يهتم بالشخص Person وليس الفرد Individuel فالشخص هو الذي تفاعل اجتماعيا, حيث أنه يشكل لبنة اجتماعية يمتلك حرية القيام بأفعاله, فهو بالتالي يملك احتمالية كبيرة وواسعة لتحقيق الفعل . فإذن تلك المؤسسات هي تساهم في الانتقال الاجتماعي من الفرد إلى الشخص, لكن هنا يمكن أن تتكون لنا جدلية .. فاللبنة الاجتماعية للفرد, لا يمكن أن تتكون بشكل طبيعي إن لم تتوفر فيها ميزة مهمة هي حرية الإرادة, والحرية هنا هي المساحة المسموح للفرد التحرك فيها اجتماعيا, فتفاعل الفرد داخل المجتمع يكون بمرجعيات اديولوجية معينة, قد يعتقد بأنه يمتلك الحرية في الإرادة إلا أن مرجعياته هي من تأطره, وتقوم بتوجيهه ويسير على دلك النحو بصفة غير شعورية, معتقدا بأنها شيء طبيعي وجزء متكون داخله.
وبالتالي فإن حرية الإرادة مرتبطة بشكل وثيق بالشخص دون تأطير من خلفياته السابقة, المفروضة عليه من طرف المؤسسات السابقة الذكر, ضمن فرض الثقافة الشمولية ولكن من خلال ما يقتنع به هو بعد التمحيص والتدقيق ..
لا بد لنا من أن نوضح أن مفهوم الحرية الاجتماعية هو مفهوم نسبي, ومهما تقلصت الحرية فهي تبقى موجودة, لكن حرية الإبداع لا بد أن تكون الأساس ضمن هدا النسق ككل. فحرية الإرادة هذه هي ما تظهر من خلاله فردية اللبنات الاجتماعية, وهي من تشكل الحركة المتغيرة دائما في المجتمع .
من خلال ما سبق ذكره, فإنني أعتقد بأن للفرد أولا ثم للشخص ثانيا الحرية الكاملة في اختيار الشكل الثقافي الذي يشمل كل ما هو ديني عرفي ... الخ, دون وصاية لتلك المؤسسات والتي هي تتجاوز دورها الطبيعي, لتمارس أدوارا سلطوية بغية المساهمة في فرض نمط واحد وأوحد لثقافة شمولية معينة, فتضع الفرد أخيرا ضمن دائرة ضيقة تحد من حريته وتفاعله الطبيعي سواء مع مجتمعه أو باقي المجتمعات.
التعليقات (0)